تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

مخلوق هلامي

احمد بلقاسمعنّ لي خاطر هذا اليوم أن أضرب عصفورين بحجر واحد؛ أستحم فأدفع عني قيد شبر شبح الفيروس من جهة ومن جهة أخرى أسلّ نفسي من رتابة حظر التجول، فلم أتكاسل ولم أتلبد في تحقيق رغبة هذا الخاطر مقدار ثانية. فقمت فوارا أوقدت سخان الماء، وأحضرت الفوطة وما سأرتديه بعد الاستحمام.

كعادتي؛ تحت الرشاشة والماء الدافئ ينهمر على جسدي، غالبا ما أطلق العنان لحنجرتي لتملأ الحمام دندنة تنتقل من مقام إلى آخر، وغالبا ما تغتنم الفرصة نفسي لتشيد وتنوه بعذوبة وحلاوة وطلاوة صوتي؛ ولسان حالها لا يفتأ يردد ما شاء الله على صوتك يا أحمد! ما أحلاه ما أشهاه ما ألذه ما أشجاه، وعند سماعي لهذا الإطراء أزداد أنا تلوينا وتنويعا في المقامات، وهي لا تني تتباهى بحنجرتي الذهبية: أين بلخياط من هذا الصوت الندي الرخيم الرقيق، أين الدكالي من جدول الشدو هذا الدافق، وأين الحيان من نفحات الحنان الزكية هذه، وأين صوت شقارة، والعروسي، والسلاوي، والتولالي، والغيوان وجيلالة، والحمداوية، و عتابو، ودرياسة، والحراشي، و سميرة توفيق وزميلتها سميرة بنت سعيد ووردة، وحمزة، وعلية، وبوشناق، والكحلاوي، أصوات الكنانة تبح أمام صوتك أصوات: مكاوي، وعبد الوهاب، واسمهان، و فريد، والعندليب، وشاكر، وصوت الحجاز قرن الشيطان من صوتك؛ صوت مداح، وعبده، أصوات أرض الأرز تتمزق حبالها أمام هذا الصوت الذي منّ الله به عليك أين منه أصوات، وديع، ونازك، وفيروز والشحرورة.

أما أصوات الشام فتثمل عند سماع صوتك وترتد إلى حلق أصحابها بلان، و فخري، ووسوف، وغيرهم كثر.

تستمر الدندنة في إفعام الحمام حلاوة، وتستمر الرشاشة في رش الجسد دفئا وانتعاشا، كلما استمرت نفسي اطراء: صوتك يا أحمد شهد عسل سيّال، صوتك يا أحمد فوق الخيال. فأحس لساني قطعة حلوى تذوب في فمي.

في غمرة الانتشاء هذه؛ أمد يدي إلى قطعة الصابون أدلك بها جسدي دلكا، و أمدها على الفور إلى عبوة الشمبوان أفرغ منها على رأسي ما يعطيني رغوة كافية أخلل لها شعري تخليلا.

رغم عيني المغمضتين لم أتوقف عن الدندنة كما لم تتوقف النفس عن مديحها لي وإطرائها على ما أكرمني به من صوت شجي جميل لا يعلم قيمته إلا هي، ذات لحظة توقفت عن الكلام المدح المباح وأرسلت آهة طويلة، هجرتني خلالها هجرا جميلا إلى أن استطاعت كبح نشيجها، ثم استرسلت تقول متأسفة: آه يا أحمد ليتك تعلم مدى حزني وأنا أراك تئد هذا الصوت الملائكي بين جدران هذا المكان، أمام هذا المشهد المؤثر أكفكف دمعها

ثم أستمر في دندنتي بأعذب الألحان وعلى أكثر مقام، والصابون والشمبوان قد جعلا من رغوتهما مني؛ مخلوقا هلاميا بلا عينين. حتى إذا ما هممت بإزالة هذه الرغوة وأعود إلى حالتي الطبيعية؛ توقف الماء الدافئ عن التدفق، و توقفت الدندنة، وتوقف الإطراء والمديح. وتحول الصوت العذب إلى سوط جلاد يلسع كل من مدّ يده لقطع الماء في هذه الحالة الهلامية. وتحولت الدندنة الحلوى إلى حنظل شديد المرارة، ولم يبق الشهد يقطر عسلا، بل صار عش دبابير يطن سخطا على من جفف صنبور الحمام.

من المطبخ هبت أم الخير مهرولة، تستجلي مصدر النغمة النشاز، التي جعلت العسل سما رعافا، والدفء صقيعا فتاكا، والمدح سكين هجاء بتار:

- ماذا دهاك؟!

- أكاد أتجمد بردا، ولا أستطيع فتح عيني بسبب الصابون.

- بماذا أساعدك؟

- ناوليني الماء.

- افتح الصنبور، واغسل وجهك!

- كح كح كح..

- أسمعك تسعل!

- كح كح كح كح

- سعالك جاف؛ هل درجة حرارتك عادية؟

- أية حرارة هذه التي تسألينني عنها يا هذه، هاتي الماء إن كان هناك ماء، قبل أن أتسمر في مكاني كما الصواعد في الكهوف.

- ألم تسمعني؛ تحسس الصنبور وافتحه، واغسل عينيك!

- الماء مقطوع؛ تبت يدا من قطعه.

 

أحمد بلقاسم - بركان

 

في المثقف اليوم