أقلام حرة

الغزالي وإبن رشد!!

صادق السامرائيأعرف الغزالي قبل إبن رشد بسنوات، فعندما كنت في الإعدادية كان لي صديق مولع بالغزالي، ويحمل معه كتاب أيها الولد، ويحدثني عن كتابي إحياء علوم الدين والمنقذ من الضلال، وكنا في مساءات سامراء الصيفية العذبة نجلس عند كهف القاطول، حيث نسمات الهواء العليلة، والشمس مالت نحو الغروب، ويقرأ لي من الكتب، وكنت أستمع إليه ونتناقش في موضوعات لها علاقة بما يقرأ، وكلما أمعنت في النقاش، كان يختم بقوله، "إن ما قلته لا رصيد له من الواقع"!!

وكأني به كان يقلد الغزالي في كلامه، ويميل إلى الحجة بعد الحجة، وتعلمت منه أن الغزالي إمام الشك للوصول إلى اليقين، ويُعمِل العقل بقوة خارقة، حتى إرتقى بوعيه ومداركه إلى آفاق الإشراقية والعرفانية والصوفية، فصارت معارفه ذات معاني برهانية ساطعة.

تذكرت ذلك وأنا في حيرة من أمر إتهام الغزالي بأنه عطّل العقل، وأن إبن رشد هو الذي يدعو للتنوير والتفعيل العقلي والغزالي إلى تمويت العقل وإلغائه.

إحترت في الأمرين فالغزالي نابغة عصره، الذي إستطاع أن يخترق الزمان والمكان، ولم يتجاوز الخامسة والخمسين من العمر، وكذلك إبن رشد الذي بلغ السبعين من العمر.

وبعد بحث وتدقيق، وجدت أن الغزالي نسختين، الأولى حتى نهاية عمله في المدرسة النظامية في بغداد، والثانية بعد أن هام في الآرض لسنوات، هذّب فيها روحه وروّض مداركه فنال مرتبة إدراكية عُليا، وبين النسختين فوارق.

ومن المغفول عنه أنه ألف كتابه " تهافت الفللاسفة" بأمر من السلطان، والغاية منه أن يرد على الفرق والجماعات التي صارت تشكل خطرا على الحكم، ويبدو أنه كتاب سياسي أكثر منه فلسفي رغم أنه إستعمل منهجه في التفكير وسيلة للرد على الموضوعات التي تناولها فيه.

والغزالي النسخة الثانية ثائر على النسخة الأولى جملة وتفصيلا، فعندما نتحدث عن الغزالي علينا أن نأخذ بنظر الإعتبار عن أي نسخة منه نتحدث.

فالدعوة لتعطيل العقل ضرورية للقبض على الناس وتسخيرهم لغايات الكراسي وإرادات الحكام، وتفعيل العقل حالة أخرى، وقد إشتهر الكتاب لأنه يخاطب الناس بما يقنعهم بأن ما جاء به الفلاسفة مثل الفارابي وإبن سينا ضلال وبهتان وخروج عن الطاعة والإيمان.

والغزالي كاتب يخاطب العوام، ومعظم العلماء الآخرين الذين جاؤوا قبله وبعده يخاطبون الخواص، ولهذا فأن كتبهم لم تكن ذات صيت وتأثير إلا قلة منهم، أما كتب الغزالي فأنها لا تزال متداولة في القرن الحادي والعشرين، أما كتب إبن رشد فأنها للخواص، وغير مشهورة أو منتشرة بين الناس.

وخلاصة القول أن الغزالي بنسخته الثانية هو العقلاني والذي يشك حتى يمسك باليقين، وربما منه أخذ الفلاسفة المشاهير العديد من أفكاره الداعية إلى العمل العقلي المبين.

ولا تناقض بين إبن رشد والغزالي بنسخته الثانية، أما إختصار الغزالي بكتاب (تهافت الفلاسفة) فهذا عدوان وتضليل وتعسف.

فهل أدركنا الغزالي بنسختيه؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

 

في المثقف اليوم