أقلام حرة

هل عندنا ساسة؟!!

صادق السامرائيسؤال يتردد في خلد مَن يتأمل ما يحصل من أحداث ونقاشات وطروحات ونزاعات محتدمة في بلادنا، ويحاول أن يبحث عن القاسم المشترك بينها، لكي يفهم حقيقة ما يدور في عالمنا الدامي.

ومَن يتعمق في البحث عن الجواب يكتشف أننا لا نمتلك ساسة، ولا نعرف العِلم السياسي، ولا يوجد في أجيالنا  السابقة والحاضرة منظرين سياسيين ومفكرين قادرين على إستيعاب مفردات الواقع ، والنهوض بالوطن إلى حيث يجب  عليه أن يكون،  وبسبب هذا الفراغ السياسي على مدى عقود ولحد الآن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

في واقعنا لا يوجد ساسة، لأن الساسة الحقيقيون أصحاب الخبرات والمهارات والعلوم العملية في التعامل مع الدنيا دولا ومنظمات، قد أسسوا الدولة في بداية القرن العشرين (ووضعوا) دستورا متطورا، مضت على ضوئه  لمدة ما يقرب من أربعة عقود بتفاعلات ديمقراطية ذات قيمة سلوكية متوافقة مع زمانها.

هؤلاء هم الرعيل الأول المترشح من الدولة العثمانية بعد سقوطها، والمتفاعل مع القوى المهيمنة آنذاك.

وكان من المفروض أن تتواصل أجيال السياسة  وتتوالد وتتفاعل، لصناعة ساسة يستوعبون حالة البلد، ويؤسسون لمستقبله شأنهم شأن الدول التي من حولهم.

لكن الذي تم هو الإجهاز على الرعيل الأول من الساسة والقضاء عليهم تماما، وتحقيق الثورات وإقامة الأنظمة العسكرية، التي عطلت العمل بالدستور، ومضت على هدى الدستور المؤقت حتى خاتمتها المعروفة في التاسع من نيسان عام ألفين وثلاثة.

وقد حصل في تأريخنا المعاصر إنقطاع شامل وصراع، ما بين الذين يرغبون أو يعملون بالسياسة، بحيث ترسخ في عقولنا وضمائرنا، أن العمل السياسي عبارة عن صراع دامي، وحرب لا هوادة فيها بين أبناء الشعب الواحد.

فالذي لديه رأي سياسي لا بد له أن يعيش بالسجون، ويُحسب على أنه ضد النظام القائم، وأن عليه وعلى كل من يمت بصلة إليه أن يذوقوا الأمرين، لأنه صاحب رأي ونظرة قد لا تتفق مع طبيعة النظام العسكري المهيمن على السلطة.

أما موضوع الإنتماء لحزب غير حزب السلطة، فأنه من المحرمات التي يتم إعدام الفرد عليها. ومضى في وعينا أن العمل السياسي مهنة دم وسجون وتعذيب، وتنكيل وفتك بالآخر من أجل السلطة.

ولا يزال إلى يومنا هذا يقودنا إلى الويلات والمآسي والتشظي، وفقا لرؤانا السلبية وما تراكم عندنا من وعي ظلامي وإنحراف في الرؤية والتفكير.

فالفرد الذي ينتمي إلى حزب آخر هو عدو، ولا بد من التصارع والإقتتال معه وتوفير أسباب التنكيل به وتخوينه وتجريمه، ومن ثم قتله أبشع قتلة وتشريده والنيل من كل ما يتصل به.

لقد تأسس في أعماقنا نظام سياسي لا يمت إلى العصر بصلة، وترسخ في أذهاننا أن السياسة إمتلاك السلطة والإستحواذ على الكرسي المقيت.

وفي هذا الخضم المتلاطم من التفاعلات الدامية، إبتعدنا عن الوطن، وصارت همومنا تنصب على الحزب والرئيس أو القائد وعلى الكرسي، والقبض على الحكم والتحكم بمصير الآخرين وتحديد حريتهم ومصادرة حقوقهم.

وأضحى الوطن في مفهومنا عبارة عن كرسي أو شخص، أو حزب مستحوذ على السلطة في بلد يئن من صراعات أهله وفتكهم به.

وبسبب ذلك أمست ثقافتنا ثقافة كراسي ومناصب وإستبداد وإنفراد بالسلطة،  وبعد التاسع من نيسان تواجدنا بكل ما ترسب فينا من عوامل نفسية وعقد وإنفعالات وتفاعلات سلبية، وجلسنا نواجه أنفسنا وسورات الغضب والإنفعال والإنتقام تعتمل فينا، وتفرض علينا ما لا يقبله العقل ويرضاه الواقع وتنفر منه كل القيم والمعايير.

ووجدتنا نحاول أن نبعد كل ما يذكرنا بالمآسي والويلات والإنتقامات، وحسبنا أننا سنحقق ذلك بتكرار ذات الممارسات.

وإذا بنا نسقط في وادي الدمار الشنيع، الذي لا يرجوه أيا منا ولا يرغب به، لكنه أصبح مأسورا به ويتحرك وكأنه بلا إرادة أو قرار.

رجعنا إلى ذات النقطة التي هي عبارة عن محطة فراغية بلا ساسة،  محطة خالية من العقل السياسي والخبرة السياسية، ومبنية على التجربة والخطأ والرغبة القصيرة النظر، والبعيدة جدا عن الصواب.

وهكذا ترانا نتخبط ونحسب أننا نصيب ونريد الخير للشعب والوطن، ونحن نجري إلى غير ما نريد ونرغب،  لأننا بلا خبرات ولا قدرات قيادية ووعي سياسي حضاري، وفهم معاصر وبعيد المدى للأمور التي نحن بصددها.

وهذا وضعنا في محنة تاريخية وظرف مصيري لا نعرف كيف نواجهه، لأننا لا نمتلك المهارات الكافية للوصول إلى قرارات ذات قيمة مهمة للبلد.

فانطلقت رغباتنا ونحن نعبّر عن ثقافاتنا الكرسوية، التي تحررت من الردع والخوف بل أسست قدراتها،  لتكون هي مصدر خوف وردع للآخرين من أبناء الشعب الذي إمتلكنا أمر تقرير مصيره.

إن البلد يخلو من الساسة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة،  وقد تكررت التجربة منذ سقوط المملكة العراقية، وأصبح الضباط  يحسبون أنفسهم ساسة، وما لديهم من علم السياسة شيء مفيد.

وصار كل مَن يجلس على كرسي القوة يحسب نفسه خبيرا بالقيادة، وينتهي إليه ويبدأ منه علم السياسة، فيسمي نفسه سياسيا ومناضلا كبيرا، لأنه أزاح من كان يجلس على الكرسي قبله وجلس مكانه.

فالحكومات قاطبة ومنذ الرابع عشر من تموز عام ألف وتسعمائة وثمان وخمسين وإلى اليوم حكومات بلا ساسة.

حكومات مبنية على رغبات سلطانية وتوجهات حزبية أحادية ضيقة الأفق، ومحدودة المنطلقات والتطلعات.

ولو كان هناك ساسة لما حصل الذي حصل، ومقارنة بسيطة بيننا وبين دولتي الباكستان والهند، اللتان بدأتا بعدنا بربع قرن توضح ذلك بما لا يدع مجالا للشك.

وهكذا ترانا اليوم نعيش في زمن عصيب بلا ساسة، لا تجد فيه مَن لديه خبرة وطنية ذات قيمة مفيدة وجادة، وترتقي إلى مستوى الظرف الصعب الذي يمر به الوطن.

فالسائد كرسي يستسلم للإنفعالات وتصفية الحسابات والإنتقامات، ولا يسمح للعقل أن يبوح بشيء، لأنه يصطدم بجدران الإنفعالات الفولاذية، التي ستأخذ الجميع إلى ما لا تحمد عقباه.

وبسب غياب العقل السياسي وسيادة العقل الآخر الذي يرى الأمور من وجهة نظره المحدودة، أيا كانت تلك النظرة، ترانا في خضم صراعات ستؤدي حتما إلى ضياع الجميع، وخسارة الوطن ولكل ما يمت بصلة إليه.

فليس من السياسة أن يحصل الذي يحصل، وليس من السياسة أن يُطرح ما يُطرح، وليس من السياسة أن نرى ما نرى.

إن الذي يجري تبرره ثقافة الكراسي البغيضة، التي لا ترى أبعد من قوائم الكرسي، وهذا ما جرى في البلاد على مدى عقود، وهو يتجدد بعزم وإندفاع أشد مما حصل أضعاف المرات.

إن العالم ينظر إلينا بعين الهزء والإستغراب والعجب!!

ويتساءل ألا يوجد في هذا البلد ساسة؟

ونجيبه نعم لا يوجد ساسة، لأن البلد لا يبقي على السياسيين، وهذه هي أساس العلل.

البلد لا يوجد فيه تواصل أجيال أو تفاعلات سياسية، بل  تناحرات سياسية منذ أن عرفناه، ولن يتبدل طبعه إلا إذا شاء خالق الأكوان، وطاف صوت العقل في شوارعنا،  وتمكنا من الإنفعال الفتاك الذي يحصدنا حصدا!!

 

د. صادق السامرائي

15\9\2006

 

في المثقف اليوم