أقلام حرة

متلازمة الكرسي!!

صادق السامرائيمتلازمة الكرسي  إضطراب نفسي وفكري وسلوكي خطير، يؤدى إلى تدهور الحالة السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية ودفعها إلى الحضيض.

وهي جوهر التفاعلات السلبية المتأججة في البلاد على مدى عقود،  وقد أدرك الإنكليز هذا الإضطراب السلوكي فوضعوا العلاج الناجع له، بأن جلبوا ملكا من خارج البلاد وتوجوه عليها، وتركوا الناس يتصارعون على كراسي رئاسة الوزراء والوزراء وغيرها.

وكان ذلك هو العلاج الأصوب لهذا الإضطراب الذي أعجزَ الحكماء والمفكرين والأطباء،  فهو حالة وهَمْ مرضي لا تقبل التفاهم والتفاعل، عنوانها طريقي أو لا طريق، وهي نوع من الإقتراب الفصامي من الحياة، حيث يكون صاحب الكرسي في حالة إضطراب إنفعالي وفكري متطرف ومنحرف، فيتمتع بالشك الشديد والإعتقادات الثابتة الغير قابلة للنقاش أو التحوير، وتتفجر في أعماقه العدوانية الشرسة والأنانية المروّعة الفتاكة، وتنطلق رغبات أمّارة السوء التي فيه لدرجةٍ لا يمكن تصديقها أو تصورها.

وتتواصل الأوهام في إمتلاكه حتى يُصاب بذهان العظمة، وتكون أناه مضطربة ومتضخمة فيبدو نرجسيا خطيرا، ومتوهما بأنه سيد الأكوان وخالق كل مخلوق ولا خالق سواه، أي أنه يكون في قرارة لا وعيه إلهاً يجب أن تنحني أمامه جميع الموجودات.

نعم يتحول الجالس على كرسي الحكم إلى هذه الحالة المرضية المنحرفة التي تستدعي دخول المصحات العقلية والنفسية، وأخذ الأدوية اللازمة لإعادته إلى واقع الحياة وطبائع الأمور، ولكي يشعر بأنه آدمي ومن هذا الخلق العميم المخلوق من الطين.

إنها ظاهرة مؤلمة ومضرة بالذات والموضوع ومدمرة للقيم والأخلاق، لكن المجتمع ربما يمتلك طاقات ونوازع لاواعية تغذي هذه الصيرورة المنحرفة، وكأنه يريد عقاب نفسه مما يدفع إلى القول بأن المجتمع يصنع الطغاة ولم يصنع الطغاة أنفسهم في البلاد .

 أي أن الطغيان ظاهرة وسلوك إجتماعي مطلوب لأسباب نفسية خفية وفاعلة في الأعماق المستترة، وهذا الرأي يعززه ما آلت إليه الأمور في العقود الستة الماضية، حيث تم تسويغ ما هو مدمر ومؤثر سلبا في حياة الناس والبلد.

فالجالس على الكرسي يجتذب الآخرين المؤازرين لكل ما يقوم به من الفعل المشين فيهللون ويصفقون له، ولا يمكن لواحد أن يعترض أو يقول رأيا مخالفا لقوله، لأن الذي يفعل ذلك سيجد الكثيرن من أتباع الكرسي القادرين على الفتك به بإسم ربّ الكرسي.

فالكرسي  يؤدي إلى تنمية إضطراب السلوك الجماعي وتحقيق حالة من السلوك الإنفعالي العاطفي الهستيري الذي يؤله صاحب الكرسي، ويزيد من شراسة ووحشية أتباعه ومريديه، من  الأباليس المنافقين والدجاليين والمرائين والمضللين والكذابين والمتوحشين الذين يأكلون لحم الآخرين، ويسكرون بدمائهم ودموعهم ويرقصون على آهاتهم ومعاناتهم وأنينهم، ويتلذذون بتعذيبهم وقتلهم بإسم الكرسي، لأن الجالس عليه صار لهم ربا وقوله كتابا ودينا ، فهو وليهم والحاكم بأمر وجودهم وقوتهم وقيمتهم ودمارهم والآخرين من حولهم.

هذه الديناميكية المنحرفة المضطربة تتكرر في الواقع السياسي، ووفقا لها يدور المجتمع في دائرة الخراب المفرغة حيث يمحق اللاحق ما شيّده السابق وهكذا دواليك.

فترى الأبنية تتحطم والنصب تتهدم والبشر التابع للكرسي السابق يدفن في التراب أو الزنزانات ويعذّب شرّ العذاب، وتتكرر الدورات  والمآسي والويلات ولا مَن يرى وينظر ويرعوي،  بل الكل ينسج بذات المنوال وناعور الكراسي يدور، فيغرف دماءً ويسكب دماءً ولا يسقي إلا الكراهية والحقد والبغضاء وأشواك الإنتقام والدمار.

ويبدو أن المَخرج الأكثر عملية وواقعية وقبولا، أن يتم إدخال قادة الأحزاب والتجمعات السياسية  في برامج تدريبية وتثقيفية، وتأهيلهم نفسيا وفكريا ومهنيا وتقديم العلاجات اللازمة لإضطرابات سلوكهم، وأن يُجرى تحليل نفسي لشخصياتهم والتفاعل مع كل حالة وفقا لما فيها من العاهات المرتبطة بالكرسي.

والعلاج الذهني هو الأكثر قدرة على تطويع سلوكهم لكي يكون حضاريا ومعاصرا ومفيدا للوطن والمجتمع، بدلا من هذه الدوامة الإنحرافية، التي تجعل المتأمل الواعي يرى وكأنه يعايين مرضى في مصحات عقلية، فكل ما يراه إضطراب تفكير وأوهام وشكوك وتصورات مريضة منحرفة ذات تأثيرات خطيرة على الحياة .

وكأن الجالس على الكرسي يحتاج إلى مَن يرعاه لكي يؤدبه ويمنع تصرفاته المخلة بقيمة وشرف وعز الوطن، وأن يضربه على يديه كلما إنفلتت رغباته وتعاظم طيشه وأمعن في الغباء والخنوع للذة الإمتهان، والتعبير عن حاجته للتمتع بالآلام التي يسببها لنفسه وللآخرين من الناس الأبرياء، الحائرين في أرض الله الواسعة والتي تضيق عليهم يوما بعد يوم.

وما يحصل لا يمكنه الخروج من هذا الإضطراب المرضي الكرسوي المزمن في بلادنا، التي عجزت عن صناعة عقلٍ وطني سياسي بحجمها، فمعظم الساسة أصغر من أي كرسي ينتحرون فيه!!!

  

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم