أقلام حرة

أشجار وإسجار!!

صادق السامرائيالعقود القليلة الماضية فرضت على الواقع سلوكيات عجيبة غريبة غايتها تأكيد التدهور والإنحطاط وإلهاء الناس بما لا ينفع، وهذه السلوكيات وخصوصا في بعض المجتمعات، قد تفاقمت وتعاظمت منذ ألفين وثلاثة، فأوجدت الجمود والخراب والدمار والإستثمار بالفرقة والشقاق.

ومنها سلوك الشجرة!!

ولا تحسب المقصود به الشجرة اليانعة الخضراء المثمرة المعطاء، وإنما شجرة النسب والحسب، والإندفاع نحو التفنن برسم أو كتابة الشجرة الشريفة العلياء المقمرة، التي تتصل بالعائلة الهاشمية (نسبة إلى هاشم بن عبد مناف جد النبي محمد).

والجميع يضع الشجرة في بيته أو قاعة ديوانه أو مكتبه ويحسب نفسه سيدا وشريفا، ومن سلالة الرسول ومن الواجب التبرك به والصلاة تحت أذيال عباءته.

وتلك عجيبة سلوكية لا يقبلها عقل ولا يقرها منطق، وكأن العرب قد إنتهت قبائلهم وأصولهم وما تبقى منهم إلا مَن هو هاشمي، ويمت بصلة لمحمد بن عبدالله عن طريق إبنته فاطمة وزوجها علي بن أبي طالب.

إنها عجيبة لأن الحسابات الرياضية البسيطة تنفي هذه الإدعاءات، وتدحضها بقوة، فلا يمكن لبضعة أشخاض قبل أربعة عشر قرنا أن ينجبوا الملايين من البشر، ومهما حاولوا ولو تزوج الواحد منهم مئات النساء، إذا أخذنا بنظر الإعتبار النسبة العالية لوفاة الأطفال في تلك الأزمان وحتى منتصف القرن العشرين، فالنسبة تتجاوز الستين بالمئة، لتوطن الأمراض السارية والمعدية التي تحصد الأطفال حصدا قبل بلوغ السنة الثانية من العمر، كما أن الأمراض الفتاكة كالطاعون وأخواته كانت تمحق الملايين في غضون أيام.

ولا ننسى الحروب والصراعات التي تقتل البشر وتبيدهم عن بكرة أبيهم، وقد حصل ذلك أثناء حياة النبي وبعد وفاته، وبلغت ذروتها في الزمن الأموي حيث أبيد العديد من الذين على علاقة بعلي بن أبي طالب وأحفاده من فاطمة، وتواصل هذا التقاتل والإبادة حتى في زمن الدولة العباسية التي أسست على دعوى العمومة للنبي، فالدولة العباسية منسوبة إلى العباس عم النبي وأولاده ، والذين فعلوا ما فعلوا بأبناء عمومتهم ومن نسل إبن عمهم محمد بن عبدالله وعلي بن أبي طالب.

فالقول بأن هذه الملايين قد جاءت من ذلك الأصل فيه الكثير من التضليل والخداع والهذيان، كما أن فيه إنحراف سلوكي، لأن المجتمعات المدعية بهذه الخرافة يشيع فيها الظلم والفساد وتنعدم الأخلاق وتنتهك المحرمات والحقوق وتدين بالتبعية والهوان والخذلان، ولا تؤكد في سلوكها ما يوحي بأنها تمثل خصلة من خصال ما تدعي الإنتساب إليه، وفي هذا إعتداء على النسب وتدمير لمقام رموزه ودورهم في الحياة الإنسانية.

كما أن هذا السلوك يتنافى مع معطيات العصر، ويُراد القول بواسطته أن المجتمع فيه سادة وعبيد، وأشراف ولا أشراف، مما يعني أنه تعبير عن نزعات طبقية وتفريقية وترقيدية، فأصحاب الأشجار المرسومة يحسبون أنهم موجودات على الآخرين تقديم الخدمات لها، وما عليها إلا أن تفترش الدواوين وتتمشيخ وتتسيّد، وعلى غيرهم أن يحلفوا برأسها ويؤدوا طقوس الطاعة والخدمة ومنحها الهبات والعطايا، فبواسطتها يتحقق التقرب إلى رب العباد.

وكم منهم بلا ذمة ولا ضمير ويدّعون ما يدّعون ويخدعون الناس ويضللونهم ويسرقون أموالهم، بدعوى أنهم سادة وعلى الآخرين أن يقدموا لهم الأموال، لأن لهم حق في أموال العامة فهم السادة!!

ومن المعروف أن الظاهرة قد شاعت وتأكدت في المجتمعات المنكوبة الخاوية المغلوبة على أمرها والمحكومة بإرادة غيرها وبإسم الدين، وبالذين ما أن يوضعوا في كرسي الحكم حتى يعلنوا أنهم من الشجرة الفلانية، وأنهم سادة أشراف وربما آلهة أو أنصاف آلهة، وبعضهم لا ينطق عن الهوى وإنما بلسان ألف وحي ووحي يوحى من دوائر التدجين والتأهيل الإمتهاني للشعوب.

وهي حالة معيبة ومخجلة ومبددة للطاقات والقدرات، ومركّدة للحياة ومانعة للتقدم والتطور والتفاعل الإقتداري مع العصر، وهي بحد ذاتها وسيلة للتحديد والتجميد.

ومن الأفضل للناس أن تنشغل بالأشجار الحقيقية وتعتني بها، بدلا من هذه الأشجار التصورية الوهمية المبتدعة ، التي يُتخذ منها وسائل للتحكم بالناس، ففي الحضارات القديمة كان الذي يحكم عليه أن يكون من ذوي العلاقات بإله أو إله أو نصف إله أو إبن إله، وغيرها من التوصيفات لكي يذعن له الناس بل ويعبدونه، وهذا السلوك لا يختلف في جوهره عن ذاك.

فلو إنشغل الناس بالأشجار الحقيقية وتم لكل منهم رعاية نخلة، لتهذبت نفوسهم وتفتحت عقولهم وتنامى إقتصادهم، ولتعاملوا مع الحياة بإيجابية وقدرة على بناء الحاضر والمستقبل، والتفاعل بآدمية وإنسانية خالصة ذات إبداعات فياضة.

فلماذا لا يتوجه الناس نحو الأشجار الحقيقية المثمرة المعطاء التي تطعمهم وتحميهم، بدلا من أشجار الخواء والبلاء التي أوردتهم حياض الأشقياء؟!!

فاسجروا أشجار موتاكم وازرعوا أشجار حياتكم!!

وسيغضب مَن يغضب وسيزعل مَن يزعل، لكنها حقيقة دامغة علينا أن نعترف بها، ونستفيق من سورات الهذيان والأوهام البائسة!!

 

د. صادق السامرائي

11\6\2019

 

 

 

في المثقف اليوم