أقلام حرة

مُعاناة بغداد

قاسم محمد الكفائيمن المُسَلمات التي يتفاخر بها العراقيون على اختلاف طوائفهم من الجنوب الى الشمال أنهم تواقون الى (الحرية) ويكرهون الحياة التي يعيشونها تحت وطأة أي محتل غريب على هويتهم الوطنية ولا يتناسب مع عاداتهم كمجتمع له خصوصيته في المعتقد والثقافة والإنتماء. فالعراقيون اليوم يعيشون المعاناة الحقيقية في ظل الوجود العسكري الأمريكي على أرضهم بمبرر وآخر.

أمريكا بدوائرها الأمنية والسياسية تعرف جيدا كلَّ هذه الخصوصيات، وتعرف صعوبة قبول الإستساغة المباشرة ما بين الجندي الأمريكي والمواطن العراقي، لا حليفا مقبولا ولا صديقا مستساغا يمشي بقدميه على أرض العراق.

هذا هو التوجه الثقافي والوطني الذي اختصَّ به العراقيون وقد ورثوه عن الأسلاف من عمق التاريخ.

وبالمقابل، الشعب العراقي يميل الى إقامة العلاقات الودية مع الشعوب، ويتبادل معهم المنفعة على كلِّ الصُعد، وتستهويه حالة إكرام الضيف وحمايته عندما يدخل عليهم من الباب وليس الشباك، ولا يتسلق الجدار لصا بعنوان حاميا ومحررا وراعيا.

الإدارة الأمريكية في عمق تفكيرها الإستراتيجي لا تستسيغ أسلوب المنطق في التعامل مع الدول والشعوب لأنها ستكون الخاسر الأول دون أن تحصدَ أيَّ ربحٍ في أي بلاد تستهدفها. هذه فيتنام التي غزى الجيشُ الأمريكي أراضيها واحتلها ودمَّرَ المدنَ والقرى وقتلَ الناس، هل تَصرَّفَ بالمنطق والشرعيةِ الدولية، ومراعاة حقوق الشعوب والحفاظ على مصالحِها...؟.... طبعا لا.

كذلك أفغانستان دخلها الأمريكيون بجيوشهم وهدموا أركانَها على رؤوس شعبٍ بسيطٍ تواقٍ الى العيش بطمأنينة بينما الجيش الأمريكي يعبثُ بمقدراتِهم ويسفكُ الدماء ويستبيح الأعراض. أمام هذا المشهد قال الشعبُ الأفغاني كلمتَهُ وحدَّدَ مسارَها رافضا بقاء الغرباء على أراضيه، فكانت النتيجة هي اليأس والخوف اللذان ظهرا على كتائب الأمريكان بعد الخسائر التي تكبدها جرّاء مواجهة الأفغان له. عندها فكرت الإدارة الأمريكية بالإنسحاب ورضخت للمطالب المُحقة وهي الآن في طور النضوج. ثم جاء دور العراق الذي اخترع له الرئيس جورج بوش الأب ذريعة غزو الكويت وحيازة نظام صدام على أسلحة كيمياوية عام لتدميره 1991 . كذلك دور جورج بوش الإبن الذي حوَّل بغداد الى خراب والبلاد الى مسرح منفلت عام2003، دخلت عليه عصابات من المرتزقة القادمين من دول الخليج والعالم بتدبير خليجي أمريكي. فلو نجح الأمريكان بمكوثهم سنين في فيتنام مثلا فإنهم من الصعب جدا بقائهم في العراق وفق ما يعتقدون إذا ما حسبناها بين أمرين، أمر المرجعية السياسية، وأمر المرجعية الدينية. لذا هم يحاولون كسب الوقت لبقائهم في العراق، إما بالضغط على حكومة بغداد أو بإسلوب الترويض وتقديم العلف (بحسب تفسيرهم الخفي للقيمة الثقافية والسياسية للإنسان العربي والمسلم).

الضغط نعني به السلوك المنفلت والتهديد المبطن بحجة لو خرج آخر جندي أمريكي يصبح العراق في عهدة عواصف مذهبية ودينية واجتماعية وسياسية، فتعم الفوضى فيه ويعم الخراب ويستفحل الإرهاب. هذه سينورياهات سرية (بعضها إعادة تدوير) معدة سلفا كورقة ضغط حقيقية بوجه حكومة بغداد والقوى السياسية التي ترفض الوجود الأمريكي في العراق. فالوضع العراقي القائم تنقصه حكومة وطنية ذات كفائة وقوية لتسيير مؤسسات البلاد وتحدِّد مساراتِ جيشهِ وكلَّ القوى المُجاهدة بالإتجاه الذي يصب في صون البلاد وحمايته، عندها فإن الجندي الأمريكي لا يجد موطىء قدم له على أرض العراق، وسيخرج منها مُكرها، نادما، مُنكسرا. لكن في ذات الوقت فإن الإدارة الأمريكية لا تستهين بالمرجعية السياسية في العراق مهما بلغت حالة التشرذم السياسي فهي مؤثرة وفاعلة في نهاية المطاف لما لها من رصيد جماهيري ومؤسسة دينية قوية وعنيدة أمام أطماع الغرباء.

نجح الإعلام الأمريكي والغربي في تعميم حالة الفزع والخوف لدى حكومات دول الخليج من أن إيران قد تهجم عليهم يوما وتحتلهم بساعات وفي ذات الوقت عمدت إدارة ترامب الى أسلوب بسط عروض الإنقاذ والخلاص من هذا الخطر المُحدِق باللجوء لإقامة علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني المتمثل بدويلة إسرائيل على أنها قوة ضاربة في المنطقة ويُعوَّل عليها بالحماية، وتتمتع برضى كل دول الغرب وأمريكا وكندا وأغلب دول العالم، فلا خطر يصيبكم أيها المطبعون تحت مظلة هذا الكيان.

لقد هرعوا جميعا ولبوا المطلب الصهيوني مذعورين، صاغرين باتجاه واشنطن فأعلن بعضُهم أمرَ التطبيع والآخر على الدَور ينتظر الفرصة السانحة للإعلان. لقد صفقَ الأوباشُ له، وتبركوا به.

هذا السيناريوا لا ينطلي على الشعب العراقي الذي حاول الأمريكان تمريره، وقد خذلهم تغافُلهُم عن عمق العلاقة التاريخية ما بين الشعبين العراقي والإيراني الممتدة في جذور التاريخ الإجتماعي والسياسي والديني. إن الضررَ الذي يحمله هذا السيناريو لو تحقق سيقع على الشعبين والبلدين معا في العراق وإيران ويمتد حتى سورية ولبنان وفلسطين واليمن (الحلم الصهيوني الكبير)، وسيجني كيان إسرائيل كلَّ الربح عندما تصبح بغداد محطة استراحتهم وغرفة عملياتهم بغرض إمتداده على الدول المجاورة للهيمنة عليها وسرقةِ خيراتِها.     

إذن سقط الوهمُ الأمريكي الغربي في العراق أمامَ إصرار الشعبِ والحكومة وتشابة المواقف والمصير مع شعب وحكومة إيران وقد اتفقواعلى أن بقاء الجندي الأمريكي على أرض العراق هو خطرٌ قائمٌ يستدعي مكافحته والعمل على زواله كقيمة وطنية لا بدّ للشعوب المتحررة التي ترفض كلَّ انواع الهيمنة أن تحظى بها. أمام هذه الخيبة لم يبق للأمريكان من حلٍّ سوى تدبيرعملية الإغتيال التي نفذتها في بغداد بحق قائدَي المقاومة الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.

هذا الإغتيال بحسب الفهم الأمريكي وتقديراتهم هو الحلُ الذي سيخفف من خطر المواجهة التي تعتمدها الفصائل المسلحة العراقية، لكن الفهم خابَ كذلك، وتساقطت التقديراتُ بتكرارغفلة دوائر الإستخبارات الأمريكية عن حقيقة التركيبة الوطنية والسياسية والعقائدية التي توَسمَت بهما الشخصيتان التوأم، العراقية والإيرانية. لقد خذلت الإدارةُ الأمريكية نفسَها بحساباتٍ فاشلةٍ حتى وإن نجحت باغتيال أعزاءٍ، شرفاء.

فعندما يجتمع الخطر تجتمع ضده القوى المناهضة له كحق طبيعيٍّ مشروع، وهو حالة ُ رفضٍ يُمارسُها أصحابُ الأرض خوفَ ابتلاعِها وتعويضِهم بالهمبركر الأمريكي ومكدونالدز وكنتاكي (هذا ما أُصيبت به دول الخليج والأردن ودول عربية أخرى).

إن مهمة طرد الأمريكان من العراق ليس بالسهلة إذا ما غابَ عن حكومة بغداد عنصر المسؤولية والمصداقية في العمل وغابَ كذلك عن فصائل المقاومة الرافضة لبقاء الجندي الأمريكي في العراق عنصر الإرادة والتحلي بأعلى مراتب الإستعداد، والتنسيق المُحكم ما بين كل الأطراف ومع الحكومة المركزية.

ومن أدبيات تحرير البلدان والتخلص من الهيمنة هو أن يبدأ الرفض السياسي لكل الأحزاب والإعلامي والجماهيري بمراسيم سلمية (تظاهرات) تهز البلاد والأرض التي يمشي عليها المحتل بشكل دفعات تتفق عليه جميع القوى السياسية والعشائرية، ولن تتوقف حتى ينضج حلُ الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة بعد نفاد كل الوسائل المتاحة.

هذا التوجه يضيق على الأمريكان والمؤسسات الدولية الخاضعة لها مساحات الإدانة ضد الحكومة ويمنع إصدار القرارات التي تتضمن إخضاعها للعقوبات وتوصيفها  الروتيني بالإرهاب. هذا ما تلوح به وسائل الإعلام الأمريكي الغربي بحق القوى المسلحة في العراق الرافضة للمساومة على بقاء الأمريكان. إذن، العمل الناجح هو تقديم الفعاليات الجماهيرية على كل الفعاليات حتى تكون مبررا حقيقيا ومشروعا لمرحلة الكفاح المسلح.      

في نهاية المطاف يحاول الأمريكي وفق حساباته بفرض العقوبات وبجر بعض حكام الخليج نحو التطبيع تحجيم دور الجمهورية الإسلامية في إيران باتجاه تحرير الأرض المغتصبة في فلسطين، ولبنان، ودورها الرافض لما يعانيه شعبُ اليمن من تقتيل وتجويع وترويع. إضافة الى قضايا أخرى مهمة وخطيرة في هذا العالم تصل حتى كوبا وفنزويلا وبوليفيا.

 

قاسم محمد الكفائي

 

في المثقف اليوم