أقلام حرة

الإسلام والكرسي!!

صادق السامرائيحالما وصل النبي إلى المدينة، بدأ المفهوم السياسي والقيادي يتصدر آليات التفاعل بين المسلمين،  فأدركَ ذلك فورا، فأصدر وثيقة المدينة التي هي بمثابة دستور حُكم وآلية قيادة.

وبعد أن تطوّرت الأمور وسطع نور النبوة وتمكن أُهمِلَتْ الوثيقة، ولم يتحقق البناء الدستوري عليها المتوافق مع زمانه، لأن النبيّ حيٌّ يسعى ويمثل الدستور والقانون، فهو المترجم بالعمل لِمّا في القرآن من شرائع وضوابط سلوكية.

وحال وفاته إنطلقت المطمورات من كوامنها وكشَّرَت عن أنيابها إرادة الكرسي ورغبة الحكم والتسلط.

وحصل الذي حصل، وأوجد المسلمون أول خليفة بعده، فإنطلق بإجتهاده المبني على ثقافته وما فيه من آثار الصحبة ومعاني السيرة والقرآن، فابتدأ بخطوة دامية قتلَ فيها المسلمُ المسلمَ، بحروب الردة، التي ربما سبق فيها السيف جميع الخيارات الأخرى، سعيا لبناء الدولة وتوطيد أركانها،  كما تأكد السلوك الفردي، وأن الخليفة هو الأصل وما يقوله القانون والدستور.

فكان قتلُ المسلمُ للمسلم فاتحة سلوك المسلمين بعد وفاة نبيهم الكريم.

فالمسلم أخو المسلم حتى وفاة التبي وبعدهُ صار المسلم عدوّ المسلم، والسبب هو الكرسي أو السلطة، والتنفذ والإستحواذ على الغنائم، وغيرها من معطيات الكرسي.

ويبدو أن النبيّ كان يستشعر ذلك، ولهذا أكد في خطبة الوداع على ثوابت سلوكية مهمة لمنع إراقة الدماء بين المسلمين.

وإنتهت الخلافة الراشدة بحروب بين المسلمين إستمرت طيلة خلافة علي حتى مقتله، وقد قتل فيها المسلمون من المسلمين ما لم يقتله منهم أعتى أعدائهم.

ومضت الحالة على هذا المنوال الدامي حتى إنطلاق الدولة الأموية، التي بدورها تواصلت بقتل المسلمين بالمسلمين، وفعلت ما فعلته في مكة والمدينة من مذابح شنعاء مروّعة كما يُروى.

ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا الحاضر، يقتل المسلمُ المسلمَ بأقسى ما يكون عليه القتل والتدمير، والسبب الحقيقي يعود إلى فشل المسلمين منذ بداية إنطلاقهم في بناء دولة دستورية، ذات نظام حكم عادل ومستقيم يستند على ثوابت قيمية وأخلاقية وشرعية راسخة تتوارثها الأجيال.

وما جرى أن أطلِقَ العنان للإجتهاد والتأويل، مما أضاف إلى العلة الكبيرة عِللا مُتراكمة عضّلت التفاعل  بين المسلمين، ومضى المسلمون على سكة تكفير بعضهم  البعض والتماحق فيما بينهم.

ويبدو أن عمر بن الخطاب ربما قد حاول أن يجد مخرجا من ورطة الدين والكرسي، وفكر بمسألة الشورى، لكنه لم يفصح عنها إلا وهو على فراش الموت، وربما كان إفصاحه غير كامل لتأثير ما يعانيه على قدراته التعبيرية.

ويبدو أنه ربما كان يفكر بالموضوع منذ وقت، ويرى أن يكون الحكم بمجلس شورى، وما طرحه تم تنفيذه وفقا لإجتهاد أعضاء الشورى، وليس وفقا لرؤيته الكامنة فيه، والتي أعجزهُ فراش الموت عن الإفصاح الواضح عنها.

فربما كان من المفترض أن يستمر مجلس الشورى في الحكم مع الخليفة، أي أن يكون كل خليفة محاطا بمجلس شورى إستشاري يتوسع مع توسع الدولة وإمتداد الفتوحات.

وهذا الإخفاق أدى لما حصل لعثمان وما أصاب المسلمين أثناء حكمه وبعده.

والسؤال الذي لا يَعرفُ جوابا، أن حياة علي بن أبي طالب منذ وفاة النبي وحتى مقتل عثمان كانت وكأنها مًغيّبة، فما فكر برؤية لنظام حكم المسلمين ولا كتبَ دستورا،  أو وثيقة أو أدلى بفكرة مؤثرة في آليات الحكم عبر الأجيال.

وعندما نسأل لماذا لم يكتب دستورا أو يضع رؤية للحكم، على مدى ربع قرن قضاها مع الخلفاء الثلاثة من قبله، والنبي من قبلهم، لا تجد جوابا، وهذا لغز محير بحاجة إلى وقفة طويلة.

لقد قتل في فترة خلافة أبو بكر وعلي أعداد غفيرة من المسلمين بواسطة المسلمين، فسقطت المحرمات وصار هدر دم المسلم حلال،  ويمكن تبريره وتسويغه بفتاوى وتخريجات لا تعرف الرحمة والإسلام، مما أدّى إلى تداعيات دامية مروعة فيما بعد، ما أبقت حرمةً ولا قيمة لرمز أو معنى لحياة.

وهذه السلوكيات هي التي بذرت العداوة في أعماق المسلمين، وكأنك لكي تكون مسلما يجب أن تكون عدوانيا، وفتاكا بوحشيتك تعبيرا عن إيمانك بما تجهل.

ولهذا فأن التأريخ يشير بحوادثه الدامية إلى ما فعله المسلمون بالمسلمين، وكيف أن مسيرة القتل قد تواصلت إلى يومنا الحاضر.

ولا نزال في مأزق علاقة الدين بالكرسي، التي فشل المسلمون في إيجاد جواب عملي لها، والسبب هو الكرسي الذي يرعى الإستبداد والطغيان، وهذا منهج الحكم على مرّ الأزمان.

فالكرسي صار عند المسلمين متقدما على كل شيئ، وبدونه لا قيمة لأي شيئ، ولا يُستثنى من المسلمين أحد مهما كان شأنه.

بالتأكيد سيغضب الكثيرون من هذا الكلام وسينفعلون، ولو تبصروا وتعقلوا وتفكروا لأدركوا بأن ما تقدم يشير إلى قليل مما يظهر من جبل الويلات الثلجي الغاطس في بحر الدماء المسلمة.

فالأخطاء متراكمة منذ أول خطوة، والأحداث المتواصلة توضّح أن العلاقة بين الدين والكرسي دموية قاسية شرسة، وعليه فلكي يربح المسلمون قضيتهم ويفوزوا بدنياهم وآخرتهم، عليهم أن يبعدوا الدين عن الكرسي، أو يأتوا بصيغة عمل معاصرة، وإلا فأن الوجيع سيتنامى وسيتعاظم، ولا حيلة عندهم  إلا بقتل بعضهم، وسيستثمر في ذلك أعداؤهم.

هذا الإقتراب ليسَ معنيا بالدفاع عمّا جرى أو العكس، وإنما بالقراءة النقدية بمنظار نفسي سلوكي بحت، ربما يساعد على فهم ما يحصل في مجتمعات المسلمين، ومَن يريد التفاعل مع المقال ويدحضه عليه أن يأتي بأدلة، لا بإنفعالات وإسقاطات وإتهامات!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم