أقلام حرة

فتى اللبلبي

دخل علينا المكتبة, بينما كنا منشغلتين أنا وزميلتي بالعمل في تصنيف الكتب, صبياً في 16 كما زعم. تفاجأنا حين رأيناه .. بملابسه السوداء القديمة, مرتدياً قبعة سوداء ذات بقع لامعة . لم نعرف سبباً لدخوله علينا حتى تكلم قائلاً :

أود العمل في كليتكم كعامل نظافة لكي أجمع النقود لمدة شهر وبعدها أترك العمل, ولكنهم.. ولكنهم لم يوافقوا على طلب العمل الذي قدمته لهم لاني لم ابلغ ال18.

في الحقيقة لا أعلم ما الذي جعله يلجأ الينا على الرغم من أننا ابعد ما نكون عن الجهة التي قد تتخذ قرار توظيفه. ربما تصور ان محاولة هنا وهناك قد تجدي نفعاً.

قلت له: ولماذا تريد العمل لهذه الفترة المحددة فقط ؟

قال وهو يخرج من جيبه مجموعة أوراق نقدية مختلفة الفئات ، خمسات وعشرات وخمسة وعشرون, إنه يريد أن يشتري عربة ليبيع الحمص المطبوخ (اللبلبي) ويعيل عائلته والمال الذي بحوزته لا يكفي .. يحتاج للعمل ليكمل المبلغ ويشتري العربة.

وهنا حاولت زميلتي ان تنصحه بأن بأمكانه ان يشتري قدراً كبيراً وبعد ان تحضّر له والدته (اللبلبي) , ياخذه ويقف أمام داره ويبيع.. وشيئا فشيئا سيكبر مشروعه التجاري ويتمكن من شراء العربة. رفض معللا ًانه يود العمل بالقرب من المدرسة لكي يشتري التلاميذ منه عند خروجهم بعد أنتهاء الدوام المدرسي. بدت ملامح اليأس والحزن تظهر على وجهه. حزنا عليه وقلنا له: لا تيأس ستتمكن من جمع المبلغ وشراء العربة. عليك فقط العمل على ذلك. فأومأ برأسه ايماءة تدل على حزن ظاهره قبول. وفي هذه اللحظة قرر المغادرة وهو مطأطأ الرأس، حزين. تمنيت لو انني استطيع فعل شيء لهذا الفتى المرهق بأعباء الحياة والغارق في الهموم .صبي من ملايين الصبية ممن هم على شاكلته يعيشون آهات الحياة ويتألمون وهم حفاة باحثين عن لقمة تسد رمقهم ورمق عوائلهم.

لم نستطيع اعطاءه بعض النقود فقد خشينا جرح كرامته وقد يزيد هذا الأمر من حزنه وشعوره بطعم الاحسان الذي لا يتجرع مرارته الا من قاسى وعرف الواناً من الفقر والعوز.

تساءلنا ونحن ننظر الى وقع أقدامه اليائسة وهو يغادر المكان .. الا يجدر بحكَامنا واصحاب القرار ان يدعموا هؤلاء الشباب ويزجوهم في سوق العمل مما يضمن لهم ولعوائلهم حياة كريمة؟  لماذا جُلَ أحلام هذا الفتى عربة اللبلبي وهي تعني له الكثير والحلم الذي يصعب تحقيقه في الوقت الحاضر؟؟

 ماذا عساني القول يا بلاد الرافدين.. فالكثير من أبناءك فقراء تمَلكَهم التعب وأرهقهم اليأس وهم شباب يقضون سنينهم العجاف بين الحسرة والفقر وفقدان الامل.

حقاً إنه مؤلم واقعك يا وطني وكم هي كثيرةٌ أحزانك. الشباب بلا أمل وأن وجد الأمل وضُعت العراقيل وألعراقيل من النوع الذي يزرع اليأس في دواخل النفس ويدعوها الى التراجع والاستسلام.

 فأنت يا بلدي مذ عرفتك لم يتغير فيك شيء,  تتألم, تكابد  وتتأرجح  بقوة بين ماضيك البعيد المشرق وحاضرك القريب المؤلم ومستقبلك الخفي, الغامض الملامح. تتأرجح الاحلام والامنيات فيك وتتصارع على أرضك كل الرغبات والمطامع, فلا تبدو الرؤيا فيك واضحة ولا يُرى من بعيد لا نهاية لنفقك المظلم ولا بداية للخروج من دوامة حزنك الابدي. يا وطناً ملأت جراحات السنين جسدك المتعب واصبحت مثقلاً بهموم لا حدود لها. دموع الاطفال اليتامى الممزوجة بالحرقة والحرمان.. وأنين الارامل والثكالى التي لا تهدأ في ليالي الظلمة السرمدية..  واجساد متعبة افترشت الطرقات ..أنهكها الانتظار والتمسك بوعود كاذبة .

 فهل يا ترى من فرج قريب؟.. وهل يا ترى من أمل يبعث الحياة في النفوس؟ ويرسم الابتسامة على وجهك يا فتى اللبلبي؟

 

إيناس جاسم علي

 

في المثقف اليوم