أقلام حرة

قاسم الكفائي: فلسفةُ المواقف

قاسم محمد الكفائيفي هذا المقال – فلسفة المواقف- الذي هو بوابة الحلقات القادمة (دروبُ الموت) المُزمع نشرها على هذا الموقع المحترم تباعا، لم أكن فيه إستعراضيا لأمرٍ خاصٍّ ليس فيه سوى صورتي وحزني وفرحي. فالغاية تبرر هذا الإستعراض وهي تعبر عن مواقف اتخذتُها دربا ووسيلة بعاطفتي أو بوعيي ودرايتي، وكنت معاندا فيها، لم أندم في يوم من الأيام أو أجزع أمام نوائب الدهر تلك التي مرّت علي في حياتي بصمت إبتداء من العام 1974 الى يومنا هذا.

لقد كتمتُها طوالَ أربعة عقود ونيف وكأنني مخلوقا بلا مشاعر، ولا أنانية أوحب الذات. بينما عرفتُ في هذا الدرب الصعب من أراد بي السوء دون رحمة، ومَن نظر إلي بطرفة عينه بشيء من السخرية، أو مَن ظنّ بي السوء دون أن يجد بي ما يخشاه سوى أنه يترجم واقعي بالمغلوط. القصصُ كثيرة وتفاصيلها يصعب حصرها، لكن اختياري للأحداث وقع على مراحل مهمة منها عسى أن أجدَ فيها ما هو نافع وتكون فيها النقاط موضوعةً على الحروف، إنها مهمة خطيرة تترجم وتوثق أخطرمراحل حياتي ولو بشيء من الإيجاز لكنها صورة لواقع الموت المؤكد صنعته المواقف العفوية أو المحسوبة (نطرحها بأشد اختصارعسى أكونُ قد وفّيتُ بمحاولاتي بتوثيق ما خفي طوال أكثر من ثلاثة عقود). الحياة وإن كدُرَت أيامُها فإنها لا تخلو من سعادة يستشعرها الإنسانُ القوي عندما يخوضُ غمارَها ويرى خوضَهُ مكللا بالنجاح أو الإنتكاسة، لكنّ في قلبه الأملُ كنتيجةٍ حتمية تستوعب تلك المهارة والأناة والصبر. من هنا فقد تجاوزتُ كلَّ الخطوط كي أبقى عزيزا أفخر بوجعي وشقائي ونجاحي على كل الصُعد. النجاح هنا لا يحددُه المال، ولا الجاه مثلما تحدده كنوزُ الكفاءة وتهذيبِ الوعي المعرفي في أي اتجاه تستهويه نفسُ المُتعلم وتستوعبه موهبتُه وعقلهُ، بينما هو يخوض غمار صراعٍ قائمٍ مع خصمٍ متوحش لا يرى حلاّ ووسيلة فيه سوى الموت كنتيجة حتمية يتحمل وزرَها الضحية. لقد نشأتُ في بيئتي فوجدتُها تكرهُ الحاكمين، وتستنجسُ المُلحدين، وتقدس الدين ورموزَه، مرة بالعقلية القبلية وأخرى بشيء من المعرفة، ووجدتها تنعم بحياة تطغى عليها العفوية والتواضع فكانت هي رصيدي وقيمتي للتعاطي مع الأشخاص والأفكار والحاكمين. وفي تلك البيئة وعلى فطرتي وجدتُ نفسي أحب الزعيم عبد الكريم قاسم الذي حكم العراق بخلق المسؤول وتواضعه منذ العام 1958 وحتى العام 1963، بينما الرئيس عبد السلام محمد عارف الذي رأيته في مناسبة كنت فيها صبيا لم أجد فيه ما يدفعني للتعاطف معه، فهو واحدٌ من المسؤولين الحقيقيين عن مقتل العائلة الملكية التي حكمت العراق ما قبل 1958 بأبشع توصيف، بينما شقيقه الرئيس عبد الرحمن محمد عارف وجدته الرجل الذي يفرض على مواطنيه احترامه، فكان بحق مُنصفا لم يلتفت الى خصومه السياسيين الطامعين مثلما كان ملتفتا لبعضٍ من هموم الناس. بعدهُ جاء دورُ الرئيس أحمد حسن البكر فلمسنا فيه دورَ التحضير الى ما هو أسوء، وإن طغى على شخصه الوقارُ والكفاءة ُالعسكرية، لكنه وصل الى الحكم وفي قلبه ضغينة الحاقد كان الشعبُ العراقي قد لمسها في سلوك مؤسساته الأمنية على الخصوص. إنتهى دورُ البكر بطريقة درامية مبرراتها ضحك على الذقون مع أنه يستحق تلك النهاية كونه أبعدَ في عهدِه خيرة رفاقه ممن لهم شيئا في العلم والأدب ورتابة الحلم والوطنية  (ليس بالضرورة أن نعبدَ ما يعبدون ولكن نتحدث كحالة تشخيص موضوعي يبتعد عن النيل ممن سائت حظوظُهم على قارعة طريق النضال) ليقرِّب الثعابين والشياطين ممن خططوا وضمروا له السوء. ثم جاء عهدُ الرئيس صدام حسين وجائت معه كلُ ألوان الضيم والشقاء والخوف والبطش، فكان بحق ظالما وشقيا على الله أولا قبل شقاوته على العباد، وكان يحلم بما لا طاقة له به أن يكون فارسا على الفرسان وبوابة فوق الأبواب. أفكارٌ حملها لم نشهدها من قبل ولا نستطيع ترجمتها بحكم المنطق بينما الشعب العراقي يعيش الفاقةَ والخوفَ والإنكسار ورثاء الضحايا في المعتقلات والمقابر الجماعية وضرب مدينة كاملة بالسلاح الكيمياوي. فلما انتهى عهدُه تنفس الشعبُ الصعداء وتعرّفَ على حقيقة الأضرار التي لحقت به نتيجة تسلط هذا المارد الجبان، وكان رفاق دربه ممن مدوا له يدَ العَون لعقود حتى وصلَ الى الموقع الرئاسي الذي حلم به كانوا مع المتضررين من أبناء الشعب الذين تجاوز عددهُم أكثر من مليوني شهيد أو مغيب أو سجين (الكثير من رفاقه كانوا غير راضين عن سلوكه المنحرف وجبروته على الناس). كان موقفي الشخصي من صدام أنا المواطن العراقي يتعارض مع كل مواقفه لأني لم أحسب صدام يوما بالعارف والذكي النافع، بل حسبته شيطانا يحكم شعبا روحه تميل الى الإنسانية والرحمة والتواضع والتسامح ، وغبي لأنه يدعي ويتظاهر بالذكاء خاطئا  فقد نسيَ حقيقة غبائه ولم ينتبه يوما بأن هَدْر دم ضحاياه يُنذر القاتل بالشؤم.

العام 2003 يمكن أن نسميه عام الإنفراج والحرية لولا بلوغ الإرهاب تخومَ بغداد ووسط البلاد وبعضَ مدن الشمال، وقد شجعه على بلوغ الهدف المُدمِّر إنعدام عنصر الكفاءة لدى الحكومات الجديدة في مواجهته، وانشغالها – بالفرهود - مما شجع حكومات الرياض والمنامة والدوحة وأبو ظبي، ودول أخرى لإرسال عشرات آلاف الإنتحاريين كفرصة سانحة لتدمير العراق وقتل أبناءه. لقد صبرنا على جهل الذين تصدوا لهذه المُهمة فلم نجد فيهم مَن هو بمستوى المسؤولية ولو بالأدنى. فكانت الخسارة أكبر من المتوقع. الى هذا اليوم فإن حكومة بغداد تتحدث عن نفسها أنها حررت العراق من براثن داعش بينما موقف المرجعية الرشيدة وهمة الحشد الشعبي، ثم الجيش العراقي نهض بتحقيق الإنتصارات في السنة الأخيرة بعدما ضاع كلُّ شيء وخسرنا كلَّ شيء. مع كل قناعاتي بضحالة مثل هذه الحكومات التي أضاعت العراق بقيتُ على موقفي المؤيد لها بدافع الفهم الموضوعي أن البديل هو أمريكي الهوى ووهابي التفكير، فأنا العراقي لا أريد لوطني أن يكون لقمة سائغة للبدوالأعراب الذين أحسبهم ألدّ الخصوم حتى قيام الساعة. فلو تحقق لهم ما يحلمون به يجعلون من العراق ضيعة خلفية تابعة لمنطقة الدرعية أو العبدلي وأبو ظبي (على أقل تقدير سياسيا)، فمَن يدري. موقفي من الجمهورية الإسلامية في إيران لا يقلُّ عن الفهم الذي يصور أن البلدين إيران والعراق شقيقان وجاران يصعب على المندسين والمغرضين أن يفرقوا بينهما، فتاريخ البلدين دوَّنَ وأحصى كل الوقائع التي تدعم هذه النظرية. ألفت نظر القارىء الكريم الى مسألة ذات أهمية هي أن المقابر في كربلاء المقدسة والنجف الأشرف والكوفة تدلنا على عمق العلاقة حينما نتعرف على آلالف المقابر التي تضم رفات أهل بلاد فارس ممن عاشوا وماتوا في العراق منذ عهد الصحابي الجليل سلمان الفارسي والى اليوم. الى الآن أتحدث عن العلاقة الطبيعية للشعبين خارج دائرة السياسة وجمهورالمؤيدين والناكرين، وسأكون ناقدا موضوعيا للمواقف الإيرانية المُستجَدّة على الساحة العراقية بغرص التصحيح وتعديل المسارات من وجهة نظر مختلفة كامنة بقلب لم يتصدّأ ولم ينحرف في هواه عن مسار حب أهل البيت عليهم السلام والإحترام البالغ لزعيم الثورة الإسلامية في إيران روح الله الموسوي الخميني-تقدست روحه الطاهرة- وليس ناقما كالذي سلكه السياسيون والإعلاميون ممن إحتواه الخارج وتأثَّر به. فالمفسرون للأحداث والمحللون لها والناقدون من الذين قدّموا مصالحهم الشخصية على مصالح أمتنا وقبلتنا فلسطين لم يحققوا رغباتهم في الداخل الإيراني لذا هم ناقمون وليس محللون بموضوعية المحلل، مع علمي أن معاداة إيران هو بمصلحة الصهيونية العالمية والحركة الوهابية المقيتة. أنا لا أطلب رضى مخابرات وطني كندا وأتقرب للمنظمات الصهيونية لأستفيدَ منها بسَبِّ إيران مثلما فعل البعض (أضرتني المخابرات الإيرانية مع سبق الإصرار والترصد)، ولا أخشى من أن أقولها علنا أن علاقتي بالشعب الإيراني يحددها المسار المقدس (حبُ أهل البيت ع وتحرير القدس الشريف) وقد دفعتُ ثمن هذا الموقف في كندا باهضا، ثم باهضا. أما الحديث عن الثمان والعشرون سنة من عمري التي قضيتها في كندا فإنها سنين صراع بارد وخفي يودي الى التفقير والسجن أو الموت. موعدنا أن نلتقيكم في محطتنا الموقرة هذه مع حلقاتنا، (دروبُ الموت).

 

قاسم محمد الكفائي

 

 

في المثقف اليوم