أقلام حرة

حشاني زغيدي: خلق التواضع

حشاني زغيديما يحزنك في الحياة صور الحقائق المقلوبة، والأخلاق المهضومة، والصور المشوهة، حين ترتبط العادات بحقائق الدين، فتصبح لصيقة به، والعادات مجرد موروث فيه المحمود والمذموم، لهذا وجب التبصر باستحضار الفهم الصحيح، كضابط تفرقة، فلا نلحق بالدين ما ليس منه، المؤسف وجدنا الكثير من الإتباع مجرد صور مشوهة ضارة لمنظومة القيم السامية لديننا الحنيف .

و من القيم التي هضمنا حقها وألحقنا بها الكثير من المفاهيم المغلوطة حلق التواضع، وهو من الأخلاق السامية في ديننا الحنيف، فقد ألبسناه للأسف من الصفات السلبية الكثير، فترى الرجل مكسور الظهر بين الناس، يدلي الرأس منحيا والإنحاء والانكسار والتدلل، سلوكيات لا تمنح إلا لصاحب الحق في الخلق والإنشاء، فالمرء يتدلل لله خوفا وطمعا، وترى الرجل قد يتظاهر بحياة التقتير والشح في المظاهر الحياتية؛ ليظهر في عيون الناس متواضعا، والأمر خلاف ذلك .

ما يتغافل عنه هؤلاء أن التواضع صفة الناجحين والمتميزين، إن المتواضعين هم شامة مميزة بين الناس في الأخلاق، وهم قمة في رقي المعاملة، يكفي هؤلاء رسول الله قدوة في التأسي بخلق التواضع فقد كان مثالا تطبيقي وجدته في كتاب الرحيق المختوم عند ذكر تواضع النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.انتهى.

و ما يغفل عنه في المعاملة أن صاحب خلق التواضع تراه بين الناس لا يتميز عن الناس برفعة الألقاب أو الرتب أو المسميات، بل هو فرد من المجتمع، لا تميزه أناقة ثوبه أو وسامه خلقته أو رفاهة حياته فالمتواضع يكون مبسطا بين الناس، تشع في وجهه إشراقة تملأ حضوره حبا ورقة وجمالا في المعاملة، فيسكن حبه عند الجميع . وإذا جلس لا يتميز عن حضوره، فهو بين الناس واحد من القوم، وتلك ميزة فريدة للمتواضعين، تميزهم قيم وسمو في الكمالات النفسية .

من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمَّ نتعلم كيف كان تواضعه، لا يغريه وجاهة المكان أو رِفْعَة الأقدار وعلوِّ المنزلة، فتراه خافضا جناحه للمؤمنين ويجلس في مجلس الغريب لا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ فجلوسه حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم الرسول القائد، حتى يبادر بالسؤال عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه...) (1) .

في أيامنا أصبح التفيقه وادعاء المعرفة سمة عند الشباب المتسرع، فيظن الواحد منهم أنه أعلم الناس وأعرف الناس في كل الأمور، تجده الفهامة بين القوم وعلى دراية تامة وأنّ لا أحد بوسعه يجاريه، وهذه ليست من أخلاق التواضع، فالمتواضع لا يستحي أن يقول لا أعرف في الأمور التي ليست من اختصاصه، فمن التواضع أن تقول لا أعلم، لا أعرف تلك المسألة، غيري أقدر على فهمها، ليس عيبا أبدا أن يقول الرجل لا أعرف في المواضيع التي لا يملك فيها الدراية الكافية أو الكفاءة في التسيير، وبذلك يدركون من الفضل ما لا يدركوه المتكبرون المتعالون أن أمثالهم في واقعنا لا يدركون محبة الغير، فالمتواضع يعنيه كسب قلب ومودة شخص، وهو ما يسميه أهل التربية التواصل الإيجابي الفعّال.

وأختم كعادتي بنثر التبر على مقالي بأبيات من الشعر، تطوف بنا في عالم يحياه المتواضعون، يقتبسون الأثر من هدي الحبيب المصطفى، يسيرون بين الناس كالأقمار برفعة أخلاقهم .

يقول الشاعر:

يا جاعلًا سنن النَّبيِّ شعاره ودثاره

متمسِّكًا بحديثه متتبِّعًا أخباره

سنن الشَّريعة خذ بها متوسِّمًا آثاره

وكذا الطَّريقة فاقتبس في سبلها أنواره

قد كان يقري ضيفه كرمًا ويحفظ جاره

ويجالس المسكين يؤثر قربه وجواره

الفقر كان رداءه والجوع كان شعاره

يلقى بغرَّة ضاحك مـستبشرًا زوَّاره

 

بسط الرِّداء كرامةً لكريم قوم زاره

ما كان مختالًا ولا مرحًا يجرُّ إزاره

قد كان يركب بالرَّديـف مِن الخضوع حماره

مِن مِهْنَة هو أو صلاةٍ ليله ونهاره

فتراه يحلب شاة مَنْـزِلِه ويوقد ناره

ما زال كهف مهاجريـه ومكرمًا أنصاره

برًّا بمحسنهم مقيـ ـلًا للمسيء عثاره

يهب الذي تحوي يدا ه لطالبٍ إيثاره

زكَّى عن الدُّنْيا الدنــيَّة ربُّه مقداره

جعل الإله صلاته أبدًا عليه نثه

فاختر مِن الأخلاق ما كان الرَّسول اختاره

لتعد سنيًّا وتوشك أن تبوَّأ داره

***

الأستاذ حشاني زغيدي

 

في المثقف اليوم