أقلام حرة

قاسم محمد الكفائي: صناعةُ الوَهْم

قاسم محمد الكفائيفي خضمِّ واقعٍ عربيٍّ مُترهِّل تفضحه الأحداثُ والمتغيراتُ من سوء الى أسوء، في العراق وفلسطين وسورية واليمن ثم لبنان وغيرِها من بلدان الوطن العربي الكبير. هذا الواقع تحركه وتصنفه وتموله يدٌ من الداخل العربي بتوصيات وتوجيهات من الخارج. فليست بالضرورة أن المقصود من صناعة تلك الأحداث هو كسب مغانم آنية وأرباح مادية أخرى تدخل في عالم الإقتصاد.

فما يمرُّ به اليوم لبنان الشقيق مثلا ليس فيه تلك المكاسب كما أسلفنا، وقضية الأزمة المفتعلة بحجة تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي عن حرب اليمن العبثية ما هي إلاّ صناعة مخابراتية دولية تنفذها السعودية بغرض إلهاء القوى الفاعلة على الساحتين العربية والإسلامية في مواجهة أمريكا أوالتي تعمل على زوال إسرائيل من الوجود، كذلك إبعاد وإلهاء الآخرين عن الخوض في ملفات الفساد والجريمة. ناهيك عن تصاعد آخر الإنتصارات التي حققها الجيش واللجان الشعبية على تخوم مأرب في اليمن الشقيق، فهي انتصاراتٌ أرَّقت أعداءَ الأمة.

هذه الأحداث التي تصنعها تلك المؤسسات الصهيونية كفيلة بإطالة عمر دولة الكيان الإسرائيلي بحسب التفكير الصهيوني العميق الذي يعتبر سمير جعجع أداة مهمة في لبنان تعمل لمصلحته ويحسب لمملكة آل سعود حليفا استراتيجيا لا يمكن الإستغناء عنه.

فلو تابعنا سلوك المؤسسة الإعلامية والعسكرية الإسرائيلية ما بعد إعلان حزب الله اللبناني عن ترسانته وصواريخه وكذلك صواريخ إيران، ثم تضاعُف قوة حماس في غزة، وتأسيس الحشد الشعبي في العراق، ونجاح ثورة أنصار الله في صنعاء، واستعداد وصبر سورية سنجد ذلك السلوك قد تبدّل من اللامبالات والعنجهية والوعيد الى التصريحات العفوية تصدر من تلك المؤسستين مفادها أن (إسرائيل قد تكون عاجزة في مواجهة حزب الله وإيران وقوى المقاومة، أو أنها فشلت في تحقيق كذا وكذا، ثم تتحدث عن اليأس وصعوبات المواجهة في الظروف الحتمية).

هذا السلوك الخطير هو مشروع مخابراتي إسرائيلي كبير تتكفل خطورته في صناعة " الغفلة " فتزرعها في ذهن المؤسسات العسكرية والسياسية لدى المقاومة وحلفائها بأن إسرائيل الخائفة، العاجزة، المرتبكة أصبحت قدراتُها محدودة. كل هذه التوصيفات "اللاعفوية" في حقيقتها يؤكدها ويرددها المحللون الإستراتيجيون الإسرائيليون في ندواتهم العلنية التي يحضرونها على قنواتهم التلفزيونية خصوصا القناة العاشرة، أو من خلال أهم صحفهم بديعوت أحرنوت، وتصريحات قادتهم في الجيش الصهيوني الإسرائيلي من حينٍ الى آخر.

الذي دفعني لكتابة هذا المقال بحرقة هو أن محللينا " الإسترتيجيين" كما يسمون أنفسهم يظهرون على قنواتنا الإعلامية يفضحون فيها ويؤكدون اعترافَ المؤسسة الإسرائيلية بضَعفِها وعجزِها في مواجهة التهديدات ويعتبرونَها إنجازا حدوده أن إسرائيل بات سقوطها وشيكا. كل هذه الأساليب التي تقوم بها المؤسسة الإعلامية الصهيونية العسكرية والمؤسسات الأخرى من تلفزيون وصحف ومواقع غرضها وضع الفكر المقاوم في خانة الغفلة والإسترخاء ووضعه أمام قناعات الإكتفاء الذاتي من حيث التسليح بينما خلف الأبواب الموصدة تتسارع عجلة التصنيع الصهيوني وتتقدم الإستعدادات فتسبق بها أوهامَنا وخزعبلاتِ محللينا الإستراتيجيين المجانية (الفلاسفةُ المَرضى).

من السفاهةِ ووهنٍ في الدماغ أن يصدقَ العارفُ بعلم المخابرات "ذو كفاءة عالية" ما يعلنه المحللون الإسرائيليون باحتمالات هزيمة إسرائيل وحين يشكو العسكر من تقصيرٍ وعجزٍ في مؤسستِهم. فالموساد والمؤسسات المخابراتية الأخرى سلاحهم إغفال وإيهام خصمهم ما قبل توجيه المدفع وإطلاق حشوته. صحيح هناك ثغرات وهناك مشاكل من فوقهم ومن تحتهم، لكن الخطأ أن تغفو أذهانُنا على هذه الثغرات لأن عدونا سيعيد تصحيحَها على الفور إن وُجدَت بإمكاناتٍ دوليةٍ غير مسبوقة. يمكن لنا أن نأخذ  مثل هذه التصريحات ببعض الحسبان ونستفيد منها، ولكن يجب علينا الحذر من حالة الغفلة وأن لا نعتبرها نتيجة نهائية نتوقف عندها فرحين وإنما نعود بذاكرتنا فورا الى حقيقة مهمة وخطيرة هي أن عدوَنا مُخادعٌ يجعل من السَراب ماءً للعَطاشى. إن العمل الحقيقي الذي يجب أن ندركهُ ونمارسَه هو الدخول الى عمق وجذور تفكير هذا الخصم وأخذ عينةً منها لمعرفة فقه وقواعد سلوكه خارج النمط الأكاديمي، أي ما وراء العلم العسكري والمخابراتي.

في كل الأحوال ما يتوجب علينا هو أن نجد المؤسسة الإعلامية والكادر المهني الذي يمارس دوره الطبيعي في الإعلام في حين تظل صناعة الوَهم من ضمن سياق العمل الإعلامي المكثف والمؤثر الذي تمارسه مؤسساتُنا فيمرره في زوايا ندواته الإعلامية كوجه آخر من أوجه الحروب فنسد به الفراغ، ونكون قد واجهنا خصمَنا بسلاحه الذي يحاول به تشتيتَ أذهانِنا وإبعادَنا عن حقيقةِ الواقع الذي هو فيه.

 

قاسم محمد الكفائي

 

 

في المثقف اليوم