أقلام حرة

صادق السامرائي: يبجِّلون الدخيل وينكرون الأصيل!!

صادق السامرائيتبجيل الدخيل ونكران الأصيل، ظاهرة فاعلة في الواقع العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وما تمكنت الأجيال أن تنتصر عليها، فكل قادم من بعيد أفضل مما لدينا، وما نبدعه وننتجه لا يساوي شيئا بالمقارنة بالدخيل، الذي هيمن على وعينا الجمعي، وغرس فينا مشاعر سلبية تجاه ذاتنا وموضوعنا.

وهو إستعمار ناعم، وإستعباد خفي لوجودنا ودورنا الحضاري، يهدف إلى إخراجنا من دائرة الحياة المعاصرة، بل وحتى الغابرة.

فمهما أبدعنا فأن أبناء جلدتنا ينظرون إليه بنصف عين، وما يأتيهم من خارج حدود الأمة يهللون له ويطبلون، ويحسبونه ذروة الإبداع والإبتكار، وبموجبه تقاس درجات ومقامات إبداعاتنا العربية.

وتجدنا نقف متحييرين أمام عجائب الأمور، حيث تترجم كتب لأناس لا قيمة لهم في مجتمعاتهم ويقدَّمون في مجتمعاتنا على أنهم رموز نادرة ومتميزة في هذا الميدان أو ذاك .

ويساهم في التهويل العدواني على وجودنا العديد من ذوي الأقلام المنكوبين بوعيهم، والمسخرين لتأدية واجبات ترسيخ فكرة أن الإبداع الأجنبي أفضل من العربي!!

وطروحاتهم تخلو من الموضوعية والحيادية وفيها عاطفية عمياء، وإنفعالية صاخبة تصيبهم بأمية إدراكية فادحة، تمنعهم من إبصار ما يتناولونه من موضوعات ضارة بوجودنا كأمة ذات حضارة فائقة الإمتدادات.

ولو تأملنا أي إنجاز عربي بلغة العرب، فأن النظر إليه سيكون ضعيفا، وكأن الناظرين إليه يصابون بالعمى وقصر النظر، ولا تنفع معهم العدسات الطبية، لأنهم لا يرونه بعيونهم، وإنما يرون ما في رؤوسهم من الأباطيل.

وكأنهم بحاجة لمسطرة يقيسون بها قيمة وأهمية الإنجاز، وعادة ما تكون مسطرتهم الإنجاز الأجنبي مهما كان نوعه، فهو المتقدم على العربي دوما، وهذه فرية إنطلت على أجيالٍ وأجيال.

ففي واقعنا  ممنوع على العربي أن يثني على إنجاز عربي، بل المطلوب منه أن يستصغره ويقلل من شأنه، لكي يخدم الأجندات المرسومة وإرادة الإطاحة بالعروبة والعرب.

فالمقالة العلمية المكتوبة باللغة العربية مستهجنة، والتي تكتب بلغة أخرى ومعتمدة على مصادر أجنبية تكون أكثر رواجا وقبولا عند العربي من المقالة العربية المعتمدة على مصادر عربية، فمرجعيتنا التي نرتكز عليها أجنبية وحسب.

وهذا السلوك غير متداول في المجتمعات الأخرى، التي تعتمد على قدراتها الذاتية وتستثمر في طاقاتها الوطنية، وتحث على أن يكون الإبداع أصيلا ومن مفردات الواقع الوطني المُعاش.

والذين لا يعرفون هذه الأمة يتوهمون بأنها ضعيفة وغير مساهمة في صناعة الحضارة الإنسانية، وهذه فرية أخرى كبيرة يُراد زرعها في وعي الأجيال المتوافدة، لكي تنكر هويتها وتدوس على مميزاتها ومعالم ذاتها وعلاماتها الحضارية الإنسانية الفارقة.

والعجيب في الأمر أن نشاطات تجهيل الأمة بذاتها ورسالتها تجري بكثافة وسرعة، وينال المروجون لها تسويقا ومحفزات توهمهم بأنهم يقدِّمون ما ينفع الناس، وما يقومون به تدمير للأمة ومحق لشواهد وجودها الأصيل.

وقد تجندت لهذا الهدف قِوى متنوعة، فراحت الأقلام تؤدي دورها للقضاء على وجودنا، المرسوم  له  بأنه سيزول في بضعة قرون إذا تواصلت الهجمة، وتمادى أبناء الأمة في غفلتهم وأوهامهم.

وكم يشكو العديد من أنوار الأمة الساعين لتحفيزها وإيقاظها من رقدتها، بأنهم لا ينالون الدعم والتشجيع، بل تتصدى لهم قوى ومنابر وأقلام من بين ظهرانيتهم، لتبخس ما يقومون به من جهود وما يقدمونه من عطاءات.

ولا يوجد أي مشروع مهما كان صغيرا أو كبيرا في ربوع الأمة تميز بالأصالة والتعبير عن جوهر الأمة، إلا وواجهته القوى المعادية لإرادتها، وجندت ضده أبواقها الإعلامية والتخصصية وتحسب أنها ستقضي عليه، لكنه يكون رغم أنف الكائدين، وأقلام الممولين الساعين إلى حتفهم وهم في غفلتهم يعمهون.

ويبدو أن حال الأمة وطبعها السلبي ليس بجديد، فمنذ أن حصلت المواجهة ما بين الغرب والشرق في الأندلس وحتى اليوم، والمنهج التسقيطي لإرادة الأمة فاعل بين الأجيال، ومؤثر في مسيرتها، وفي زمن التواصل السهل والنشر السريع، فالهجمة قد بلغت ذروتها وتمادت في طغيانها وشراستها.

ولست معنيا بتفسير الظاهرة، لأنه لن يغير نمطيتها، ولا بد من القول بأنها من أبجديات العدوانية الأساسية على وجود الأمة.

لكن الأمة فيها من الأفذاذ المؤمنين بصيرورتها الأسمى وكينونتها الأنبل، وبأنها تكون وتتحقق رغم العوائق التي تتراكم في طريقها، فهي أمة تحطم المصدات وتقتلع السدود، وتجري كمياه النهر الهادر التيار.

والتأريخ يؤكد أنها تلد نوابغها وأعلامها من رحم أحلك ظروفها ومقاساتها، ومعظم رموز الأمة إنبثقوا من ذروة مواجهاتها مع مصيرها، فكانت بهم حية معطاءً وكانوا بها أنوارا ساطعة.

فلتبفى إرادة العطاء الإبداعي متوقدة، ولتتواصل وبإصرار مطلق، فالأمة تقترب من فجرها الحضاري الأثيل!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم