أقلام حرة

الإلحاد فلسفة هشة

عندما نتحدث عن الإيمان والإلحاد فإننا في الواقع نتحدث عن مراتب الوجود ولان للوجود مراتب تتعلق بالحقائق الواقعية ودرجات وجودها الواقعي ابتداءا من الغيب وهو ما غاب عن المدركات نزولا إلى مايُدرك بالوسائل وهي مرتبة أخرى أدنى في الوجود، نزولا إلى مايُدرك بالآثار وهي مرتبة أدنى من ذلك وصولا إلى مرتبة الإدراك الحسي المادي وهي مرتبةالحضور أو المشاهدة وهي أدنى مراتب الوجود، حيث أنها تُمثل الشكل الظاهري لحقيقة الوجود والتي من الممكن إدراكها وتناولها بأضعف وسائل الإدراك وهي الجوارح والحواس الخارجية مثل النظر واللمس وغير ذلك مما يمتلكه الإنسان من قدرات محدودة قد تكون من أضعف الجوارح قياسا بباقي الكائنات من حيوانات وحشرات والتي تتفوق عليه في الرؤيا والشم واللمس ربما بأضعاف مضاعفة . لذلك فإن هذه المدركات الحسية الخارجية انما هي من الضعف بما يتلائم مع أدنى مرتبة من مراتب الوجود وهي مرتبة الحضور والمشاهدة لما هو ممكن لبعض الحيوانات والطيور أن ترى ماهو اصغر منه أو أبعد منه بعشرات المرات، وعليه فإن رؤية هذا المستوى المادي وإثبات وجوده لايحتاج الا إلى الحواس البسيطة ولو كانت أقل كفاءة من حواس الحيوان دون الحاجة إلى قدرات العقل في الفحص والتفكر لأن هذه القدرة في المشاهدة والتناول المادي مُتاحة لكل ذي نظر ولا فرق في ذلك بين جاهل أو متعلم أو عالم في الفيزياء أو غيرها من العلوم الطبيعية .. بعد ذلك لا تدري لماذا يُجهد الملحد نفسه في محاولة إثبات صحة مايراه بعينيه الضعيفتين حتى لو كان مصابا ب الاستكماتزم أو أنه يضع سماعة أذن لعلة في أذنه !!!! وغير ذلك من العلل التي لن تمنعه من إثبات وجود الموجود في مستوى الشهود .. وعليه فإن كل ما يحاول الملحد إثباته لايتعدى مستوى المثبت له أو لغيره ..

المُلحد البدائي والملحد المعاصر

في الواقع لافرق بينهما من حيث علة الإلحاد وهي الوقوف في أضيق حلقة من الوجود وهو الوجود المادي لسهولة إدراك حقيقته كما قدمت في مقدمة البحث مع فارق جوهري هو أن الملحد البدائي كان أقرب إلى المنطق من الملحد المعاصر، حيث أن ذلك الملحد البدائي كان يؤمن بوجود الٰه ولكنه لايستطيع تصور هذا الالٰه أبعد من أن يكون قوة عُليا لذلك كان يعبد الشمس أو القمر تارةً أو الشجر أو النهر تارة أخرى أو الخشب أو الصخر احيانا بعد أن يشكلهما بالشكل الذي يوحي له بالقوة أو بالجمال أو غير ذلك مما يُشعره بالفارق، وفي مراحل تاريخية أخرى ذهب إلى جعل الملك الهاً باعتبار القوة التي يمتلكها الملوك والحكام وهو في ذلك انما يعبر عن إحساسه بالفارق بينه وبين هذه الذوات العليا مما يخلق عنده هذه القناعة أما الملحد المعاصر فهو في مستوى آخر من هذه الناحية فقد ذهب إلى نفي فكرة وجود الإلٰه بصرف النظر عن تصوره لهذا الإلٰه، حيث أن العلوم الحديثة والبحث العلمي التجريبي قد سلبه حتى هذه الخصيصة المتعلقة بالتصور والتي كانت لم تفارق ذلك الملحد البدائي الذي نُطلق عليه وصف الوثني،. بمعنى من يصنع له إلهاً تدركه الحواس،، ذلك أن هذا المعاصر وبسبب إحساسه بالقوة من خلال العلوم الحديثة وهي قوة مُتوَهَمة مرتكزة على الإحساس بقوة أدوات البحث العلمي،ولان من مقتضيات الإيمان بوجود إلٰه أن تستشعر الضعف تجاه ذلك الإله ولأنه يشعر بالقوة فأنه يذهب إلى إنكار وجوده .....

فلسفة هشة

لناخذ المصباح مثالا ونجعل منه دالةً لتعريف الوجود ومراتبه . ‏من الواضح أن هذا المصباح سيكون مثالا لواقع ملموس ومحسوس لن يختلف على وجوده أحد، وهو هنا في أدنى مراتب الوجود كما بينت في المقدمة، لأن إدراك وجوده لن يحتاج إلا إلى مبصر ‏او بالحد الأدنى متحسس أن كان ‏اعمى مثلاً بصرف النظر عن المستوى العلمي أو الفكري فلافرق في ذلك فهو مُعَّرَف بذاته ‏بعد ذلك فإن هذا المصباح ورغم أنه موجود واقعي فأن له أثراً واقعياً كذلك وهو مايصدر عنه من ضوء وهذا الأثر متعذر إدراكه الا بحاسةالبصر دون باقي الحواس رغم وجودها وهياللمس والسمع والشم والتذوق لاحظ الفارق هنا بين هذه المرتبة المتعلقة بآثار الطاقة وهو الضوء، حيث لايمكن لبقية الحواس إدراكه على الدقة رغم واقعية وجود الضوء لأن هذه المرتبة من الوجود تقع فوق مرتبة الحضور وهي الحقيقة المادية للمصباح المتكون من زجاج ومعادن.. الى الان فأن إدراك وجود المصباح يقع في مرتبتين واقعيتين رغم التفاوت في شكل إدراك هذا الوجود.. بعد ذلك فإن إطفاء المصباح وعدم وجود الضوء لن يخل بواقعية وجود الضوء ما دام المصباح موجودا حاضرا انما أصبح هذا الضوء محجوبا عن الإدراك لواقعي ولكنه موجود بالادراك العقلي من خلال معرفة وسائل التحكم ‏في ظهوره أو احتجابه وهي وسائل تنظيمية في النهاية، اذن نحن

‏حصلنا على نتيجة متطابقة بأن وجود المصباح واقعيا يعني بالضرورة وجود الضوء واقعيا سواء ‏ شاهدنا الضوء او لم نشاهده وبذلك أصبح لا فرق بين أن ترى الضوء أو لم تراه في تقرير وجوده من عدمه بعد ذلك سنصل إلى المرحلة الثالثة من مراتب الوجود وهي مرتبة وادراك الوجود بالوسائل، بمعنى أن المدركات الحسية المادية لا تستطيع أن تدرك ماهو أبعد من وجود المصباح واقعيا بمعنى (المسه وأراه) او أثر المصباح وهو الضوء الذي أشاهده بالعين وأن تعذرت مشاهدته فسيحكم العقل بحتمية احتجابه بفعل فاعل وهذا يساوي الوجود بالمشاهدة من حيث النتيجة .. بالانتقال إلى المستوى الآخر من إدراك الحقيقة وهي تعذر الإدراك المادي الحسي بالمرتبتين اولا وثانيا، سنقف أمام حقيقة جديدة وهي أن الإنسان محدود في إمكانيات الإدراك بحدود تلك المرتبتين وهما الواقع الحضوري وآثار ذلك الواقع، لذلك فإنه سيضطر ‏الى البحث عن وسائل إدراك مضافة إلى وسائله المحدودة حيث أن ما لاتدركه الحواس الاربعة وهو الضوء تدركه الحاسة الخامسة وهي العين وما لاتدركه العين ستستعين بالمرقاب والأجهزة التي صنعها الإنسان ليستعين بها على ما لايقدر عليه بنفسه . ذلك أن الوجود الواقعي للمصباح والوجود الواقعي لأثر المصباح وهو الضوء يقتضي عقلا وجود المصدر (الطاقة)، ولايسعنا عند ذلك أن ندعي أن الضوء منتج ذاتي فقط لأننا لانرى الطاقة !! ذلك أن حقيقة وجود الطاقة مثبت بوجود الضوء ولايمكن إثبات وجودها بالادراك الحسي لذلك فإننا هنا في مرتبة إدراك الوجود (بالوسائل) حيث اجهزة الكشف والقياس وغير ذلك، ‏ومن ذلك وسائل انتاج الطاقة، وهي في حقيقتها وسائل استخدام وليست وسائل انتاج، لأن الطاقة مرتبة وجودية متاحة للاستخدام وليست منتجا بشريا مستحدثا .. فإذا كان ذلك صحيحا فأن واقعية وجود الطاقة بدلالة وجود آثارها (الضوء).

 ‏وبحقيقة إدراكها بالوسائل (أجهزة القياس) فإننا أمام حقيقة منطقية  وهي حتمية وجود المصدر لهذه الطاقة لأن الطاقة ليست عدما وانما وجود واقعي ولايمكن أن يكون موجودا بذاته، وهذه هي أعلى مراتب الوجود حيث لايمكن إدراكها بالحواس ولا بالوسائل انما تدرك بالعقل من خلال النظر إلى ماقبلها من المراتب ومنطقية ترتيبها وصولا إلى العجز في إدراك المصدر وهي مانسميه نحن المؤمنون بمرتبة الغيب .‏الفارق هنا أن الملحد يضع الطاقة في مرتبة واجب الوجود ليتخلص من السؤال عن المصدر، وهو قول متهافت منطقيا لأنه يتعامل مع عوامل ليست عاقلة لايمكن أن تنتج نفسها ذاتيا بينما هو يعترض على قول المؤمنين بأن الله واجب الوجود رغم أن الله بنظر المؤمنين مدرك عاقل ..

***

فاضل الجاروش

في المثقف اليوم