تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

منير لطفي: وتَرَجَّل الفارس

إنّي واللهِ –الساعةَ- لحزين، فمع شروق شمس هذا اليوم الجمعة التاسع من يونيو غربت شمسُ الطبيب والمؤرّخ والأديب محمد الجوادي تَغمّده الله برحمته وتَقبَّله في الصالحين وأسكنه عِلِّيين. راسلني قبل أسابيع قائلا: اُدْع لي فإن المرض ينهش. وقبل أربعة أيام أرسلْت له رسالة لأطمئنّ عليه وختمتُها بالدعاء له، فما زاد على قوله: نسأل الله. وكأنّ مداد قلمه قد نفد، وتَرجَّل لسفر أَعدّ له كثير زاد من كُتب وموسوعات بالعشرات تعجز عن مثلها مؤسّسات. وهذا الصباح ، أرسلْت له رسالة: السلام عليكم، فجاءني الردّ سريعا: البقاء لله، فبُهِتّ وتَساءلْت: مَن يجيب؟ فكان الجواب: زوجته. لم ألتقيه وجها لوجه، فقط تواصلْت معه عند إعداد النسخة المنقَّحة والمَزيدة من كتابي (أطباء فوق العادة) قبل أربع سنوات، وكم كان جوادا كاسمه وكريما كأصله، حين طالع ما كتبتُه عنه بإمعان، بينما غيره من المشاهير قلّما يفضّ رسالةً تتعنّى في كتابتها وتتعنّى أكثر في وصولها إلى عتبته، ليس هذا فحسب، بل أتحفني بإيميل يقطر رقّة ومودّة، قال فيه: "بُوركت وبُورك قلمك ومسعاك كما بُورك منبعك ومسقاك، وحفظك المولى مثابة وأمنا، ومنارة وفنّا وراية للعطاء ودليلا للارتواء، وأنعم عليك بما أنت أهل له من التقدير والفضل وبما أنت منبع له من القول الفصل، وحباك لسان الذاكرين وعين المتفرِّسين وآذان الخيِّرين، وأدام عليك ما ظهر وما بطن من رضاه وما تقدَّم وما تأخَّر من نعيمه، وزاد من رفعتك فوق ما أنت فيه". ثم زاد وجاد فمنحني وساما عاليا بإهدائي كتابه (الاقتصاد في قبضة الناصرية)، والذي طُبع عام 2021، فكتب في صدره: (إهداء إلى الصديق الكريم الأستاذ الدكتور منير لطفي)، وما أنا بأستاذ ولا يحزنون، ولكنه النبيل في عصر كَثُر فيه اللئام، والوفيّ في أيام صارت الخيانة هي العنوان! وبقلمٍ ماهرٍ في سباحة المسافات الطويلة، والغوص في أعماق بعيدة، مع قدرة فذّة على الاختزال، كتب لي يوما: أنت مشرِّح، والشيخ الغزالي نسّاج، و جمال حمدان حفّار، والشعراوي مصوِّر، والحكيم بستاني، والعقاد خطيب، فسألته: وماذا أبقيتَ لقلمك؟ قال: اختر أنت، فقلت: صائغ، فردّ قائلا: اقتربْت، ثم اختار أن يكون معماريا. وحين صدرت السيرة الذاتية لأستاذ القلب د. جلال السعيد مطلع هذا العام 2023، سألته عن رأيه فيها، فرجاني إرسال نسخة للاطّلاع عليها، ولمّا ألمحْت إلى ضرورة كتابته لسيرته الذاتية، فاجأني بجواب ثقيل الحمل فقال: "أنا أختصّك بها فكلّما حكيتُ لك شيئا قصّه عندك و اسألني عن التفاصيل"، ولكن مرضه العضال الذي كشّر عن أنيابه في الشهور الأخيرة وألزمه المستشفى حتى كاد لا يغادرها، حال دون القصّ والحكْي وصادر التفاصيل فيما عدا القليل، فهكذا أمراض الأطباء، تثور كالبركان وتعصف كالإعصار، فتنخل أجسادهم نخلا وتدكّ عظامهم دكّا، وكأنها تقتصّ منهم كأعدى الأعداء حين أفنوا أعمارهم في حربها ودحْرها ليل نهار، ولكن لا بأس، فأشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الأَمثل فالأَمثل، وإني لأحسبه تقيًّا صابرا حتى مُنتهى أنفاسه وآخر نبضاته، إذ أَوقف منشوراته الأخيرة هنا وهناك على استدعاء فقرات من كتابه في المتشابهات القرآنية، مع سيل جارف من الضراعة والابتهال إلى الله. ومَن يقرأ مقدّمات كتبه التي يختمها بدعاء مسهَب خاشع يستغرق نحو صفحة، سيعلم أن بينه وبين عبادة الدعاء سرّ خفيّ. لست شاعرًا لأرثيه، فدعاء الصالحين من قرّائه وزملائه ومحبّيه يكفيه، ولكنّي أستعير من قصيدةٍ أرسلها إليّ قبل شهور وطلب الاحتفاظ بها؟ ربما لأستشهد بها هنا، فللّه أهلٌ يُسِرّ إليهم أنْ تَجهَّزوا للقدوم ويُعلمهم بالرحيل قبل الرحيل! وهي لشاعر يمني قال فيها: أبا التاريخ فلتكتب كثيرا، حروفك شعلة منها اتّقادي. خطابك لا يضاهيه خطاب، لأنك نابغةٌ حسْب اعتقادي. أبا التاريخ قُل يحميك ربِّي، فحُبُّك قد تغلغل في فؤادي. بك الآذان تَطرَب كلَّ حين، كأنّك عندليبُ الصوتِ شادِي"..اللهمّ إنّ هذا عبدك محمّد بين يديك، فكُن له الأنيس بعد الوحشة والشفاء عقب المرض والأهل إثر الفراق والوطن بعد طول اغتراب، إنّك سبحانك نعم المولى والنصير، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

***

بقلم: د. منير لطفي - طبيب وكاتب

مصر      

......................

* كُتب هذا المقال صباح يوم التاسع من يونيو عام 2023م، عقب العلم بوفاته عن خمسة وستين عاما، ومن أراد ترجمة مطوّلة له فليعد غلى كتابي (أطباء فوق العادة). 

في المثقف اليوم