أقلام حرة

علي علي: حين تعلو الثرثرة

اللسان، قطعة اللحم هذه التي لايتجاوز وزنها عشرات من الغرامات، قال فيه كثيرون، وتكلم عنه الرائحون والغادون، وقطعا قالوا ماقالوه باستخدام ألسنتهم أيضا، فصار اللسان هو المقصود والغاية، وهو الأداة والوسيلة في آن واحد وآنية واحدة. وليت الذين قالوا فيه وعنه وبه، وضعوا له قدرا يليق بدوره في حياتنا، إذ لانفع فيما يقول اللسان إلا بالفعل والتطبيق، وإلا باتت وظيفته لغوا فارغا ولغطا أجوف، وقد قيل في هذا:

وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن

ثرثارة في كل نادٍ تخطب

  إذ نرى كثيرين بين ظهرانينا لايجيدون التفوه إلا برديء الكلام ورخيصه وبما لاجدوى منه، ومن المؤكد أن أول من يحاسب على قطعة اللحم هذه، هم المتقولون الذين هم عن مصاديق القول ناؤون، ولاسيما المسؤولون منهم، والذين سيُسألون يوما عما نطق به لسانهم، وما يترتب عليهم من التزامات تجاه رعيتهم، إذ كلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته، وليت المسؤولين في بلدنا العراق يعون نتائج ما سيسألون عنه.

  ما ذكرني باللسان وما يأتي به، هو كثرة استخداماته اللامجدية واللامنطقية، من قبل متبوئي مراكز القيادة والتحكم وصنع القرار وتنفيذه في بلدنا، وهم كما قيل: (عدد النجم والحصى والتراب). إذ نراهم كل حين يطلون على واجهات الأحداث بتتالٍ لايتوقف، وتوالٍ لايفترّ، وتعاقب لاينقطع، ولعلي أوفق إن شبهت تعدد وجوههم بمثلنا الدارج الذي يقول: (شكول شكول ورد الباجلا)!

  وهم يملأون ساحات البلد وعلى وجه الخصوص السياسية بكل أبعادها، فمنهم منظور فيها، ومنهم غير منظور، ومنهم خلف الكواليس، ومنهم أمامها وليته كان مع من هم خلفها، إذ لايجيد من الأدوار غير التبجح بقباحة وصلافة بما ليس فيه من خصال، فيعكس إذاك صورة مشوهة -وهي فعلا كذلك- لمعيته. ومنهم "فضائي" لايُرى بالعين المجردة، ولا بعين المجهر، إذ لايليق النظر اليه إلا بعين التحقير والتصغير. ومنهم من ينطبق عليه المثل: (إذا حضر لايُعد وإن غاب لايُفتقد) ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وقطعا جميعهم مابدلوا تبديلا إلا للأردأ والأسوأ.

  وباعتماد مثلنا: (الرجال مخابر وليس مظاهر) يكون تبويب هؤلاء على أنماط وأصناف عديدة، فمنهم نزيه -وهذا ماندر- ومنهم غير ذلك، ومنهم فعّال -وهم قلة- ومنهم قوّال (باللام او بالدال) وهم كثر، ومنهم المتمنطق والمتفلسف والمتحذلق، وجلهم -إن لم يكن كلهم- ممن يستمعون القول ولا يتبعون أحسنه، وكذاك لاينطقون إلا أسوأه. وبين هذا وذاك، يتقلب العراقيون على صفيح ساخن من الحرمان وضنك العيش وترديات الأحوال.

  ومع قلة اولئك او كثرتهم، يبقون ملزمين بالامتثال الى القول السليم البعيد عن الثرثرة والخطل والعيب، فهل هم فاعلون هذا؟ مايؤسف له، أن اللسان أضحى أداة لمن هب ودب من المخلوقات البشرية التي أتت على بساط المحاصصة، تدفعها رياح الكتل والأحزاب لتهبط -والأحرى تجثم- على ثروات العراق في مؤسساته كمضخة ماصة شافطة لافطة. وبعلم ودون علم، يطوعون ألسنتهم للأقاويل، ويسخرونها كمطية لحمل أثقالهم -والأحرى أدرانهم- بمفردات تنأى عن الثقافة والكياسة، بل حتى الأدب والخلق الحسن، فتستحيل إذاك تصريحاتهم وخطبهم الى تنهيدات ثمل أضاع ثمالة كأسه، أو هلوسة مرعوب من أضغاث كوابيس، يلقون بظلالها الثقيلة على المواطن المسكين وهو بأمس حاجة إلى بادرة خير، لا إلى هذيان و(سوالف) ورحم الله شاعرنا سعد محمد البهادلي حين قال:

إليّ بالمعالي كان ماكان

وعلي هسه يتفلسف كان ماكان

بطران ويسولف كان ماكان

ولك ياكان والكانون بيه

***

علي علي – كاتب وصحفي عراقي

في المثقف اليوم