أقلام حرة

مريم لطفي: عرس الرحيل.. فاجعة الحمدانية

في مساء التمعت فيه النجوم وحضر القمر ليشهد عرسا اسطوريًا تتوجت خطواته راقصة بأجنحة شفيفة ارتدت الحب لونا من أجمل الالوان..

كان الحضور قد طغى عليه الامل والتفاؤل وهو يرتسم طريق المستقبل حريريا ناعما فيه الامنيات تحلّق بجناح فراشة غض..

كل شئ كان مرتبًا ومنسقًا على إيقاع الموسيقى الحالمة التي كانت تأخذ العروسين الى عالم وردي الخطى يرفل بالخير والحب..

احتفال بهيج أنيق بحضوره اللافت وتلك القلوب الميئة بالحب والوجوه الملآى بالحياة التي جاءت لتبارك هذا الزواج الذي أُوقدت جذوته لتناسب مقاس أحلام بدت عصيّة أمام وحش كاسر يحاول غرس أنيابه العطشى للدمار!

فللقدر شأن آخر والموت كان متربصًا بهذا الجمع والنار تختلج أحشاءه وتقطعها أنتظارا ووحشية! والامنيات قد أُزهقت أجنحتها قبل أن تحلق في فضاءٍ قد أغلقت آفاقه بعتمة دامسة المعالم، لتتسربل الوجع في مكان كل مافيه يتربص ويعتمل لحساب الرحيل، فلا جدران ولا ذكريات ولا مكان للفرح هنا في أرض حفرت فيها الدموع دهاليزا ديدنها الوجع!

في قضاء الحمدانية أحد أقضية محافظة نينوى شمال العراق جنوب شرق مدينة الموصل حيث الغالبية السريانية والعديد من القرى التي يسكنها الشبك والازيديين تعتبر مدينة بغديدا (قره قوش) مركز هذا القضاء، حيث مكان العرس الذي أقيم في قاعة للاعراس ظاهرها البهرجة وباطنها العذاب، فقد بنيت هذه القاعة من مواد حُضر استيرادها مؤخرا (سندويج بنل) لهشاشتها وعدم مطابقتها للمعايير الهندسية للبناء ومغلفة بألواح(الايكوبوند)سريعة الاشتعال!

كانت القاعة تغص بالحضور فقد حضر العرس ما يقارب ألف شخص بين قريب وصديق وكل شئ بدا طبيعيا ومنسقا، وما أن بدأ الحفل واكتمل الحضور، وبدأ العروسان بالرقص مع الموسيقى الحالمة بإغماضة ليتها لم تُفتح! ماهي ألا لحظة أو رمشة بين الفرح والذهول، الاحتفال والتأبين، الحلم والحقيقة، إغماضة حولت مشهد العرس إلى أتون مستعر كأنه الجحيم!

بدأت الشرارة الاولى لا يقاظ ألسنة اللهب التي كانت تغفو مترقبة مكشرة عن أنيابها وبلارحمة، تلك الشرارة التي يقال إنها انطلقت من الالعاب النارية التي ترافق هذا النوع من الافراح لتحيل نهار الفرح الى ظلام دامس، حيث بدأ خرير النار يتقاطر على العروسين والحضور وتوهجت القاعة بالنيران المشتعلة ورائحة السخام الاسود التي تزكم الانوف وسط دهشة وذهول العروسين اللذين عجزا عن تصديق كل ما يحدث من فاجعة، وكأنه عرس تايتاني الغرق في بحار النار!

بدأت الجموع الغفيرة بالتدافع محاولة الخروج من باب لايرتقي لتسميته لصغر حجمه وضآلته، فقاعة أعراس بهذا الاتساع لابد أن يكون فيها أكثر من مخرج وباب، كانت المأساة أكبر من مخارجها فالنار كانت تلتهم هشيمها بكل وحشية فلم تبق أو تذرأو تدع سبيلا للخلاص من براثنها التي أحكمت إغلاقها حيث ادى انقطاع التيار الكهربائي الى غرق القاعة بظلام لجي دامس، كانت الاصوات تتعالى ثم تخمد والاجساد تتدافع ثم تهوي، والارواح تتقافز طالبة خيط نجاة دون نجوى!

عم الذعر المكان الذي كان يفتقر لا بسط ادوات السلامة، حيث لا مطفأة تطفئ هذا الاتون المستعر ولا مخارج تستوعب هذه الاعداد من الحضور ولا مسؤول يتحمل مسؤولية هذه الارواح في ظل بطأ كسيح الخطى لسيارة الاطفاء الهرمة التي وصلت مؤخرا ببقايا ماء لا يسمن و لايغني من جوع!

أنهارت القاعة الملكية الاهمال وتهاوت أعمدتها الخاوية وأحترق كل شئ فيها حتى الاحلام والامنيات!!

انتهى الحلم بمأساة وتحول الفرح الى حزن والعرس الى مأتم فُقد فيه الكثير من أهالي العروسين والحضور، وتقيأت القاعة الحفل البهيج لتلقي رفاته ألما وحسرة على الارواح البريئة التي كان كل همها أن تفرح في زمان ليس زمانها ومكانا استوطنه الوجع..

إستيقظ الاهالي من ذهولهم ليرتدوا السواد لدفن موتاهم في عرس تأبيني مؤلم.

وقعت الفاجعة الموجعة وتسامت الارواح البريئة الى خالقها، مخلفة تساؤلا من المسؤول عن هذه الانتهاكات التي تطال الابرياء !

فهل الشرارة هي التي نشرت النار في الهشيم! أم سوء الادارة وضعف الاستعداد !أم تشييد قاعات عشوائية في أماكن عشوائية تفتقر الى الحد الادنى من احتياطات الامان!

أم الفساد الاداري والانساني والاخلاقي الذي طال كل شئ!

هذه التساؤلات وغيرها تنتظر إجابة وتلقي المسؤولية على كل مسؤول لاتخاذ اجراءات صارمة بحق من يستهين بالارواح البريئة لحصد الاموال الطائلة دونما قيد أو شرط في زمان شاعت الفوضى فيه وتسلط الجشع والفساد وابتعد الانسان فيه عن الله ورأس الحكمة في مخافة الله.

ويبقى السؤال الذي يدق ناقوس الخطر في أرضٍ بات الامان فيها كطير مهاجر يحلم بالعودة الى الديار..

رحم الله الارواح البريئة واسكنها فسيح جناته وإنا لله وإنا اليه راجعون.

***

مريم لطفي الالوسي

في المثقف اليوم