أقلام حرة

عبد العزيز قريش: حكت لي أشلاؤه

(مهداة لمن عبد الصنم الأكبر وأصحاب الأخدود)

وأنا راقد في نومي أشاهد محرقة غزة على شاشة تلفازي الكبيرة، لوح لي بيده المخضبة بالدماء، وقد زينت بحروف عربية، ربما يكون خط كوفي أو الجليل أو المغربي أو المطبعي. ما استطعت أن أعرف منه سوى أنه خط يد كتبت اسما على دراعها " وريث الرنتيسي "، دراع شظية من جسم طفل غزاوي اعترض بيده قنبلة أمريكية تزن 5000 طن من المواد شديدة الانفجار، قائلا لها: هل تخيفني يا خسيسة الصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين؟ كيف لك ذلك وأنا طير من طيور الجنة؟ كيف تخاف طيور الجنة وقد شرفها الله بالشهادة والطفولة معا؟ وأنا أتحداك أن تنالي من روحي المجاهدة. ألا يعلم الصهيوني الغاشم والأمريكي الهمجي؛ من رماني بها أنه جبان بكل اللغات والحروف والخطوط والألوان؟

وأنا أصغي بكليتي الجوانية لتلك الإشراقة الملائكية، كدت أسأله لو لم يبادرني بالسؤال:

ـ أيها الراقد على سرير الجهل، الملتحف بملاءة حرير لم تصنعها لنفسك؛ قل لي كيف حالك، وقد قلت لك أني بخير وألف خير؟

ـ هل أعجبتك مشاهد انفجار جسمي، وسمو روحي؟ ألا ترى أجنحتي الأربع التي كسانيها الله للمعراج السماوي؟

ـ قل لي وأنت النائم الحالم بنتوءات حور الدنيا: هل أنت من شيدت صرح الخوف في ذاتك ورعيتك؟

ـ أنا حي بين أشلائي، أستجمع أنفاسي للرحيل عنكم حيث الشهيد أبي وأمي وأخي وأختي وكل أسرتي وعائلتي ورفاقي وأصدقائي وناس حارتي ووطني، والمجاهد الذي يحميني ويدافع عني؛ فهل حضرت اليوم للرحيل معي، وأنت تحمل بندقية ورغيف خبز لي؟

ـ أيها النائم الحالم بكل القصور والوقود والبخور؛ ما رأيت من بين الجنود رجال الله؟ أكنت نائما منغمسا في التحريض على أطرافي وأحشائي؟

ناجيت نفسي وأنا أفكر فيما قال من شواهد العيان وحقائق الأيام ودسائس الأغنام؛ لكن، ربما أردت وأنا أشاهد تلك الصور التي مرت أمام عيني مستيقظا، القول بالأنعام أو بالنعام. لم أعد أتذكر لأني كنت حينها كالثمل في حانات الأعراب شاربا شرب البعير؛ لا يميز بين الحقيقة والوهم، أو بين الماء والسراب. تائه كالسحاب وهائم كالذباب. والمهم؛ أن لا شيء يهمني سوى ذاتي ونفسي من كل هذا الحضور الباهت وتلك الأسئلة الكوابيس. فلم أعد إلى وعيي إلا مجيبا:

ـ يا حبيبي " وريث الرنتيسي " أنا حضرت إلى عالمي من أنثى، وأحن للأنثى، وأنام في أحضان الأنثى، وأطلب أنثى عندما أرقص مع الأنثى، وآخرتي حور عين أنثى. وفائضها قصر ومال ويخت وطائرة وعسس وخدم وحشم ورقص وطرب وغناء ثم فناء. فلما أحرق نفسي في أتون قوتي، وملذاتي في ضعفي. فلا تحاججني؛ بل، " إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ". حينها سمعته يرد همسا بل جهرا في أذني: " قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ".

ما أنا بفاسقّ طبعا! وإنما هو الغسق الذي أرداني غسقا بالتطبع، وما بينهما مشترك، أنت لن تدركه حبيبي لصغر سنك. وعندما تكبر ستدري أني ما كنت إلا طالب سلامة لا ندامة. فلسفة حياة أدركتها منذ قيل لي: أن هنا بأسا شديدا، ونارا وحديدا، والعم سام وقرده ني. وهناك بلادة وغباوة وجهل وفقر وحوف ومهانة ومذلة، وقاموس إنسان مبتذل، ممسوح الكلمات والأوراق والألوان. يراجع فيه أساطير السيوف والقوافي الخوالي من كل الأحداث والزمان. يتوسده عندما ينهال علي الضرب والزلزال، ويستفيق على قراءة العودة والانبطاح، وما بينهما تراتيل التطبيع وأناشيد سفر الإبراهيمية في معبد البهيمية.

هكذا؛ أجدك يا عمي المغمى عليه؛ ليس لك مني شيئا لأنك لست أنا وأنا لست أنت؛ نحن في نهجين متوازيين باتجاهين مختلفين. أنت من الأعلى إلى الأسفل، وأنا من الأسفل إلى الأعلى، وشتان بين الاتجاهين. لذا؛ ما رأيتك تجمع أشلائي، ولا تقرأ آي القران، ولا تنادي بقتال، بالتحرر، بالنار. فأنت مستسلم خائر القوى تحت الأقدام. فلا تزايد علي بقرارات الهوان.

أنا مازلت أكتب أسماء الشوارع والأزقة في المخيمات والمدن بدمي ولحمي وأطراف جسدي، وأنتصب حارسا للأرض والدور والمباني والأكفان أمام العدوان، وأحارب الجيش المهزوم الخائف من حياتي وأرواح الشهداء مثلي، ونفائس المجاهدين العائدين من محراب الصلاة والدعاء والقنابل، من أوقعوا الصهيون البربري في شرك القتل والفناء والبكاء. ونصبوا له المقاصل والرماح فوق وتحت الرمال، وحفروا له القبور، وختموا له جواز العبور إلى نار الخلود بالمداد والردم والشمع على التابوت، وقراءة أسفار موسى وشروح التلمود على مسامع من أتى إلى غزة غازيا فارتمى على بطنه مسافرا إلى المقابر عبر المعابر.

أيها النائم بين الصوف والحرير، بين الترف والنعيم، بين الجنس والشراب اللذيذ؛ ألا ترى نومي بين البنادق والقنابل، بين الخنادق والأنفاق، بين أشلائي وأحشائي، بين التراب وأنقاض غرفتي، بين دفاتري وسجل اسمي، بين ألعابي ولعابي، بين الساحات والمدارس، بين المساجد والكنائس، بين الهلال والصليب؟ ألا ترى معي أني ناديتك في اليوم ألف مرة ومرة؟ أني راحل بكل التراب إلى التراب! وما أبقيت لك من الرجولة إلا صورة الذكر في قطيع النعاج! وما أدراك ما النعاج؟ عشب وشعير وتبن، وحلب زينة حظائر، بيع وشراء ونقود في جيب المزارع الجبار، وذبح على أعتاب معابد الكلام في المحافل: لك حق الوجود إن عبدت الصنم الأكبر وأصحاب الأخدود، وما لك وجود إن رفعت الصوت بالتنديد والوعيد؛ وما سمعت صوتك من قبل مرتفعا في الحشود!؟ وما أعتقد وأنا أواسي أشلائي وأنقاض وطني، وأناجي سماء مجدي؛ أنك برافع رنين جرس الدار، ودمدمة الطبل. فأنت أضعف وأجبن أن تفعل ذلك كما قيل لي على مصعد السماء، ومعراج الشهداء.

فلما تناديني وأنت بعيد عني بعد السماء عن الأرض، بعد الجهاد عن الاستسلام، بعد العربي عن الأعرابي؟ فأين أنت من محرقتي؟ أغلقت كل الحدود، وجيشت كل الحشود في وجه الشجب والتنديد لكل الشعوب، وشيدت كل السدود متاريس دفاع عن غاصب جاءني بالطائرات وأطنان القنابل، وفتش كل شيء على أعتاب بابك ومنازل جيشك؟ فلماذا تناديني مع كل هذا الخنوع والبرود؟ فلا تناديني، فاليوم يومي إما نار وحديد وقتال أو استشهاد على تخوم الجنة والمعبود، فما أنا سوى طائر في سماء الخلود، أكتب على جدران بيتنا وبقايا الوطن أني هنا حي فوق التراب وتحت التراب، بالنصر أو الشهادة، وباليتم والعزة أعود، وربي المعبود من جلدي يولد الضيف وأبو عبيدة والسنوار وهنية وكل القادة وأترابهم المجاهدون في ساحة الوغى من جديد حتى تحرير الأرض والقدس والقيامة والإنسان. فلا تناديني فأنت لست مني فجلدتك من جلدتهم، فلا تسأل عني فإني بخير وألف خير، فخبرني عن حالك أنت النائم فوق الوهم وتحت الوهم، وما الوهم سوى سراب ضمآن.

هكذا رأيته في يقظتي ورآني في منامه، سابحا في السماء، يضيء الأرض بنور طفولته وبسناء شهادته، وأنا خائف مرتجف من شهب تساقطت على أطراف جسدي، ودائرة وجودي. عجبا لطفل فلسطيني رجل قبل تبيان ذكورتي، وسقوط رجولتي عند أعتاب حروف وجودي المشيد بأحرف: أل الشمسية، وتاء التوبة عن عروبتي، والطاء عنوان طاعتي، والباء باء البقاء في عبودية سيدي، والياء حرف لين في هويتي: التردي، والعين عين الانبطاح والذل والهوان. والباقي رتق للحروف ينادي ألف استفهام واستفهام ...

ثم أردف وهو يدلف باب الحسرة علي: هل عرفت أنك جبان جبن من أجبنك بالطائرات والقنابل والأساطيل؟ فأنت من طينة من أتته طير أبابيل في الفجر بشر مستطير، فتاه من يومه على وجهه يستنجد بالذي يحميه من النشأة إلى يوم الفناء. فهو؛ كالذي تعرفت عليه في ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ١ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ٢ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ٣ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ٤ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ٥﴾، وجمع كل أشلائه في كيس أبيض بياض شهادته، وارتفع ممسكا أيادي أطفال غزة من سكنوا الديار والخيام والساحات والمدارس والكنائس والمساجد والخلاء والوطن، وتشاركوا الحياة والشهادة معه إلى السماء، وقد حامت بهم طيور الفردوس الأعلى، تبشرهم بالحياة في جنة النعيم على ترتيل (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ... وأما أنا فقد استيقظت على ضحك وقهقه أحبائي بني صهيون وبني أمريكان لبلل أصاب سروالي، وربما تغوطت فيه لكثرة انبطاحي ...

***

عبد العزيز قريش

فاس في: 22/12/2023

في المثقف اليوم