أقلام حرة

صادق السامرائي: سقوط بغداد!!

سقطت بغداد عاصمة بلاد المسلمين لعدة قرون، وكانت وهّاجة بالعز والقوة والكبرياء والإبداع الفكري والثقافي والعمراني والعلمي والأدبي الفياض، الذي فتح أبوابا مغلقةً في مسيرة البشرية، وأطلق ما فيها من قدرات إبتكارية وعلمية لا محدودة.

سقطت بغداد يوم الثامن من شباط عام ألف ومئتين وثمانٍ وخمسين (8-10\2\1258) على يد هولاكو،  بل أنها إحترقت وذُبحَ أهلها عن بكرة أبيهم، بأفظع جريمة إبادة جماعية عرفتها البشرية على مر العصور!!

جوهرة عمرانية وثقافية تحولت إلى ركام ودخان وأشلاء متناثرة، تفوح في أرجائها عفونة الجثث والدماء المراقة بعدوانية الوحوش الفائقة الفتك والإهلاك.

إنطفأت شمس الكرة الأرضية الحقيقية، فارتجت البلاد المسلمين من أقصاها إلى أقصاها، وحسب الناس أن الدنيا أشرفت على نهايتها، والقارعة واقعة لا محالة.

هولاكو حفيد جنكيز خان مؤسس الإمبراطورية المغولية، والذي عاش ثمانية وأربعين عاما فقط، صنع فيها الأهوال، فكان أعتى قوة شر ذات زوبعة عدوانية مروعة الإكتساح والدمار والخراب.

وقبل أن يهاجم بغداد تبادل رسائل التهديد والوعيد مع الخليفة العباسي المستعصم بالله، وهذه مقتطفات منها كما جاء في كتاب (جوامع التواريخ للهمداني):

هولاكو:

ومهما تكن أسرتك عريقة وبيتك ذا مجد تليد، فأن لمعان القمر قد يبلغ درجة يخفي معها نور الشمس الساطعة.

فسوف أنزلك من الفلك الدوار، وسألقيك من عليائك إلى أسفل كالأسد، ولن أدع جيشا في مملكتك، وسأجعل مدينتك وأقليمك وأراضيك طعما للنار.

المستعصم بالله:

كيف يمكن أن تتحكم بالنجم، وتقيده بالرأي والجيش والسلاح.

فلا تتوان لحظة ولا تعتذر، إذا إستقر رأيك على الحرب، إنّ لي ألوفا مؤلفة من الفرسان والرجالة وهم متأهبون للقتال، وإنهم ليثيرون الغبار من ماء البحر وقت الحرب والطعان.

هولاكو:

لقد فتنك حب الجاه والمال والعجب والغرور بالدولة الفانية، بحيث لم يعد يؤثر فيك نصح الناصحين بالخير. وإن في أذنيك وقرا فلا تسمع نصح المشفقين، ولقد إنحرفتَ عن طريق آبائك وأجدادك، وإذن فعليك أن تكون مستعدا للحرب والقتال، فإني متوجه إلى بغداد بجيش كالنمل والجراد، ولو جرى سير الفلك على شاكلة أخرى فتلك مشيئة الله العظيم.

المستعصم بالله:

لو غاب عن الملك فله أن يسأل المطلعين على الأحوال، إذ كل ملك – حتى هذا العهد – قصد أسرة بني العباس ودار السلام بغداد كانت عاقبته وخيمة.

ومهما قصدتم ذوو السطوة والملوك وأصحاب الشوكة من السلاطين، فإن هذا البيت محكم للغاية، وسيبقى إلى يوم القيامة.

...........

فليس من المصلحة أن يفكر الملك بقصد أسرة العباسيين، فاحذر عين السوء من الزمان الغادر.

هولاكو:

إذا كان الخليفة قد أطاع فليخرج وإلا فليتأهب للقتال.

المستعصم بالله:

(الرسالة النهائية بعد أن أيقن بالبوار بعد هزيمة جيشه وبدء بغداد بالسقوط في يد هولاكو)

إن الملك قد أمر أن أبعث إليه بالوزير، ها أنذا قد لبيت طلبه فينبغي أن يكون الملك عند كلمته.

هولاكو:

إن هذا الشرط قد طلبته وأنا على باب همدان، أما الآن فنحن على باب بغداد، وقد ثار بحر الإضطراب والفتنة، فكيف أقنع بواحد، ينبغي أن ترسل هؤلاء الثلاثة (الدواتردار وسليمان شاه والوزير).

ومن رسالة هولاكو إلى الناصر الأيوبي صاحب حلب بعد سقوط بغداد:

أما بعد: فقد نزلنا بغداد سنة ستة وخمسين وستمائة فساء صباح المُنذَرين، فدعونا ملكها فأبى فحق عليه القول فأخذناه أخذا وبيلا.

وقد هزمته مصر العربية الإسلامية في معركة (عين جالوت) يوم (14-8-1260)(15 رمضان  658)، بقيادة الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، أي بعد سنتين وستة أشهر وستة أيام من إحتراق بغداد.

ومن هذه الرسائل يبدو:

- أن "الخليفة اظهر جهلا بالقوى التي يواجهها ويحاربها، كما أظهر غرورا وعجزا كبيرين. .....فقد وصف الخليفة هولاكو بالشاب الحدث المتمني قصر العمر...."

- "إستشهد بحوادث التأريخ ليثبت لهولاكو أن بني العباس مكللون بالعناية الإلهية، وإن كل من قصدهم بأذية لا بد أن يُقصم. وأن العناية الإلهية تحرسه وتحرس أسرة العباس: فليس من المصلحة أن يفكر الملك في قصد العباسيين، فاحذر عين السوء من الزمان الغادر".

- "يبدو أن الخليفة كان معتقدا حقا بحماية إلهية له ولأسرته، ولذلك تصرف بهذا الشكل الإعتباطي، ولكنه كان واهما في ذلك، ودفع ثمن هذا الوهم حياته وعرشه وسلالته كلها".

- "أدرك الخليفة بعد فوات الوقت، أن تهديدات هولاكو في محلها، وأن لا شيئ ينقذه من مخالبه، فحاول الصلح وتلبية قسم من طلبات هولاكو، ولكن هذا رفض وشن الحرب على بغداد والخليفة حتى أوصلها إلى نتيجتها الحتمية وهي غحتلال بغداد وتدميرها".

وفي هذه الرسائل دروس وعِبر سياسية ذات قيمة معرفية، فهل نعتبر أم أن العِبَر ما أكثرها، والإسْتعبار ما أقله وأندره؟!!

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم