مقاربات فنية وحضارية

الرهاب في لوحات الفنان علي رشيد

saleh alrazukيمكن لمتتبع أعمال الفنان علي رشيد أن يلاحظ بسهولة أنه ينطوي على عقدة. هل هي نفسية أم اجتماعية؟.

أميل لأقول: كلتاهما.

نفسيا يحاول إن يهرب مما يرى بعينيه ويلمس بيده. فهو ضعيف الإيمان بالواقع الطبيعي المعاش. وشديد التمسك بإسدال ستار من الضباب على العالم.

ليس من الممكن أن تشاهد شيئا في أعماله غير الأثر أو العلامات التي يتركها مرور الحياة على المشهد.

و إن هذا الغموض الذي يُعنى بالهرب من المرآة ويحذر من النظر فيها. ويختار بلا تردد الانطواء على النفس، وتنمية جو باطني عماده الرؤية من قبل. يعني قبل التمثيل والتصوير والتشكل. حينما كل شيء هو بذرة، يدل على ضعف الإيمان بالذات. والاتكال على الذهن العام بافتراضاته.

حين تكون عملية الخلق مجرد فكرة أو بداية لشيء لم نجزم رأينا بمعناه.

و أغلب الظن إن اللجوء إلى عالم الأفكار والتكهنات بعيدا عن الإدراك المادي والملموس ينطوي على خوف من الإضاءة. فالفنان في هذه الحالة يفضل التعتيم كي لا يرى واقعه المخيب للآمال.

و طبعا الواقع هنا يدل على حال الذات الفنية وليس الواقع الشخصي. فالذات لديه بشكل عام تعاني من الرهاب.

أما في المنحى الاجتماعي لا يبدو الفنان علي رشيد اجتماعيا على الإطلاق. فهو لوحده. أو في فراغ رمادي. وخانق. ومساحته في اللوحة تمهد للإيحاء بضجر أو سأم وجودي من التفاصيل.

و بمقياس الفن العدمي الذي تخصص به فاتح المدرس وجرد شخوصه بكتل ووجوه وأشكال هندسية يبدو علي رشيد لا أدريا. بالإضافة إلى أنه نهلستي.

فهو لا يمحض ما حوله بأي جهد لتعريفه. ويترك هذه المهمة لمن يؤمن بالحواس الخمس.

وهو يكاد يعترف أنه لا يرى في الحياة أي مجتمع. ولا أي حامل لهم اجتماعي ولوازمه. بالعكس إنه يملا المساحة بفراغ يحتاج لحدس. ولشحذ كل قدراتنا على التأمل من داخل تجربة الضياع والتشرد ثم العزلة المطبقة.

فالألوان يختزلها بواحد وتدرجاته. والأشكال يختزلها بإيحاءات تقوم على التشكيل والإلغاء. ونادرا ما تخلو له لوحة من خطوط صبيانية لم أجد لها ترجمة وظيفية.

ما هي وظيفة هذه العلامات المبهمة؟.

إنها خط قلم رصاص يعاني من الفوضى وانعدام الهيئة أو الصورة.

طبعا الفن بحد ذاته تصعيد لغريزة تعاني من عصاب وموانع ومكبوتات.

و لكن أسلوب التصعيد هنا عكسي. إلغائي. ومؤشراته تدل على اتجاه داخل الفكرة الفنية.

فهل هذا هو ما نريده من الحداثة؟.

العودة إلى لحظة الوعي الأول والإحساس بضرورة التعبير عما حولنا برموز لن تنقل الصور ولكن تنقل التجربة وتؤكد على مبلغ دهشتنا مما نحن فيه.

أو بتعبير جبرا إلى فجر البشرية حين لم تكن الفلسفة موجودة. وأساطير التكوين في بداياتها.

هناك اعتقاد سائد أن وراء أدبيات المازني عقدة الرهاب من الأفاعي. لذلك كانت شخصياته دراماتيكية وقليلة الحركة وكثيرة السخرية والهجاء والمرارة.

ونجزم أن خلف لايقينية السياب عقدة الدمامة. لذلك اختار القصيدة التموزية التي تضع النهاية في مكان البداية. وتحول الحياة إلى دائرة مغلقة من الندب والسخط وإهراق الدموع. أملا بتحويل الأزمة الخلقية وندوبها إلى قضية نفس أو ذات تندرج في إطار السرديات الكبرى.

 

ومن هنا كانت مشكلة القفز بين أنظمة الأفكار. ولا سيما من الكلاسيكية الجديدة إلى الحداثة مع تمهيد غير مباشر لقصيدة النثر.

و لكن إلغاء الأشكال في تجريديات علي رشيد وأقرانه يدل برأيي على قلة الثقة بالعالم المعاصر. والرغبة بيوتوبيا تضمن للإنسان العدالة أولا. والحرية ثانيا.

وعليه كان التجريد سلوكا في الهدم وليس التثبيت. ثم فلسفة في النكوص إلى لحظة ما قبل المحاكاة.

وطبعا هذا بانتظار ما ستسفر عنه هذه الوعكة الاخلاقية.

فمن غير يقين لا يمكن لأحد أن يمتلك في لوحته، وهي إسقاط لخياله، بيتا ولا رفيقا. ولا حتى شريكة تؤانسه وتؤازره.

 

صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم