مقاربات فنية وحضارية
الرسم غذاء للروح .. لوحة مستوحاة
الطبيعة هي أهم مصدر من مصادر إلهام الشعراء والفنانين لما تحتويه من جمال خلاب ولأجل أن يعثر الأخرون على هذا الجمال عليهم اللجوء إلى الطبيعة وما تتميز به من مناظر أخاذة وما عليهم إلا أن يمعنوا النظر بما يحيط بهم من تلك المناظر، ولأجل التعرف على جمال الطبيعة ورونقها يمكنهم أن يدققوا بالصور (الفوتغرافية) التي التقطوها في مناسباتهم العديدة وخاصة تلك التي صورت في الخارج وفي الهواء الطلق وستظهر لهم أن كل ما تم نقله من الواقع ما هو إلا لوحات فنية زاهية الألوان وكل صورة تعكس لونا معينا وبدرجات متفاوتة بين التي هي في الظل أو التي تحت وهج النور، إن ما يجعلنا أن نهمل كل هذه المتعة هو مشاكل الحياة اليومية ومشاغلها التي تنسينا رونق هذا الوجود الرائع ونمر عليه مرور الكرام، ولا غرابة من أن حالة الاندماج مع الطبيعة تتجسد لدى الشعراء والفنانين لما يمتلكونه من مشاعر وأحاسيس تؤهلهم من اظهارها بشكل يختلف عن الواقع المعتاد لإن الشعر والرسم لا يختلفان في المضمون فالشعر هو رسم بالكلمات والرسم هو قصائد ملونة.
لقد أقترن فن الرسم مع بداية ظهور الإنسان على الكرة الأرضية وقد أظهرت التحريات والبحوث بأن الإنسان القديم الذي اتخذ الكهوف والمغارات مسكنا له قد مارس فن الرسم على جدران تلك الكهوف والمغارات وسمي هذا النوع من الفنون (فن المتعرجات) حيث كان إنسان ذلك الزمان يتخيل أشكال الحيوانات التي كانت سائدة في وقته كحيوان (البيزون) والأيائل والخيول وتتجسد أشكالها على تعرجات صخور الكهف والمغارة ومن خلال انعكاسات ضوء الشعلة التي كان يستخدمها حينذاك ولم تقتصر رسوماته على الخطوط فقط بل دأب على تلوينها بما يبتكره من مواد بديلة كدم الحيوانات التي يذبحها وألون أوراق الأشجار وبقايا الرماد والسخام وبعض اتربة الأحجار الملونة كما تظهره تلك الرسومات المدهشة الموجودة لحد الآن على جدران ومغارات في شمال فرنسا والتي مضى عليها آلاف السنين قبل الميلاد ومنذ عصر إنسان الكهوف.
إنني وفي هذه المقدمة الموجزة أردت أن أبين مدى حب واهتمام الإنسان لفن الرسم وقد كان لي الجزء اليسير منه حيث لم تسنح لي الظروف بإن أوفي حقها واشباع رغبتي وهوايتي التي بدأت لدي منذ الصغر إلا أنني مع هذا فقد واكبت وتابعت كل ما يتعلق في هذا المجال وأطلعت على العديد من اللوحات العالمية وتعرفت على أهم الفنانين العالميين عن طريق لوحاتهم وأسلوبهم في الرسم لدرجة أصبحت لي القدرة على أن أميز لوحة كل فنان بحيث أدرك أن هذه اللوحة هي للفنان الفلاني بمجرد النظر اليها ومثال على ذلك إنني أتمكن أن أميز لوحات الفنان رامبرانت التي يعتمد فيها على الضوء والظل في جميع لوحاته كما أن الفنان رينوار فطريقة رسمه تتميز بالمكورات والمدورات وإن أغلب نساء لوحاته تبدو اجسادهن ووجهن مكتنزة ومكورة وما نشاهده في لوحات سيزان الذي يعتبر مفتاح الفن الحديث في عصره فقد اختزل ألوان الطبيعة واستعاض عنها بألوان براقة وحارة وللفنان ماتيس تجربة فريدة وهي استخدام قصاصات الأوراق الملونة ليحولها إلى أجمل لوحات ابهرت مشاهدي متاحف الفن الحديث في لندن ونيويورك وكذلك يمكننا التعرف على لوحات الفنان مودلياني التي يركز فيها على الأجسام الطويلة ودقة اجزائها وخاصة طول الرقبة وضمور الأكتاف أما لوحات الفنان كيلي فهي عبارة عن خطوط دقيقة متشابكة تقترب اشكالها للأسلاك المعدنية وقطع الحديد الدقيقة ولقد اشتهرت لوحة الفنان ادجار مونيخ التي تحمل عنوان الصرخة عالميا لذلك فإننا نجد أن أكثر لوحاته متأثرة بتلك اللوحة أيضا وهنالك الكثير من اللوحات بإمكان المشاهد التعرف على صاحبها فليس من الصعب التوصل إلى ما انجزه كل من الفنان فان كوخ والفنان بول كوكان فإن الأول اعتمد في رسوماته اللونين الأصفر والبرتقالي وأعجابه بحقول عباد الشمس وأزهارها ذات اللونين المذكورين أما الثاني فقد تميزت لوحاته بالحافات الحادة والبارزة وقد أطلقت تسمية الحوشية أو الوحشية على طريقة رسمه وكثيرا ما أختلف مع صديقه فان كوخ حول الأسلوب والألوان أما الفنان أدغار ديغا فإنه بالرغم من كونه رساما انطباعيا لكنه فضل الرسم في الأماكن المغلقة كصالات الأوبرا والمسارح وساحات سباق الخيول وليس صعبا على المشاهد أن يميز لوحات كل من الفنان بيكاسو والفنان سلفادور دالي فقد أنجز هذان الفنانان آلاف اللوحات منها التجريدية التي امتاز بها بيكاسو والسريالية التي اشتهر فيها دالي .
إنني في الآونة الأخيرة وفي عمر متأخر وجدت أن أحسن وسيلة للاستفادة من الوقت المتبقي من العمر هو أن استغله بممارسة الرسم وبهذه المناسبة أدعو أخوتي وأخواتي وأبنائي وبناتي أن لا يضيعوا أي فرصة من الوقت الفائض وأن يختاروا هذه الممارسة الممتعة ولو بطريقة بسيطة وعندها سيتأكد لهم بأن الرسم هو غذاء الروح وسلوتها.
إن اللوحة هذه التي انجزتها مؤخرا والتي استغرق رسمها مدة شهر كانت بدايتها غير التي تشاهدونها فقد قمت خلال الشهر المذكور وبمعدل ساعتين أو أكثر يوميا على رسم صورة ثم أقوم بإلغائها وعلى نفس القماشة وبألوان (الأكريلك) الصعبة نوعما والصورة هذه هي نتيجة محاولات تجاوزت خمسين محاولة احتفظت بها في هاتفي النقال وأنني مدرك صعوبة عرضها هنا لأسباب تقنية بحتة وإن المهم من كل ذلك إنني متعت نفسي ووفرت لها فرحا مجانيا.
اللوحة أو الرسم الأخير هنا مستوحى من رسومات عديدة لنساء القارة السمراء وبأوضاع مختلفة اقتبست منها هذه الوضعية بعد إضفاء الروح الفنية خاصتي وهو المنظر الخلفي الذي يعكس تلك البيئة الصحراوية والسماء الزرقاء المترامية أتمنى أن تحظى بأعجاب المشاهد الكريم وتنال رضاه .
لطفي شفيق سعيد