مقاربات فنية وحضارية

مؤيد مُحسن وغرائبية التشكيل اللوني بنزعة سوريالية عراقية موروثة

396 مؤيد محسنفنان تشكيلي بابلي له بصمته المُميزة من مواليد 1964من بابل الحضارة وتاريخ العراق وآثاره التي تخترق أعماله.

إنه مؤيد مُحسن الفنان البابلي الذي تمكن من بناء تشكيل على غرار تصميم سبق منهجيته وأدواته مُستمدة من (سوريالية) (سلفادور دالي)، وموضوعاته لها تأصيلها التراثي العريق في حضارات بلاد ما بين النهرين (السومرية)، و (البابلية)، و (الآشورية).

ـ درس في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وحصل على بكالوريوس فنون تشكيلية من جامعة بغداد عام 1999، وبعدها حصل على الماجستير في الرسم من جامعة بغداد عام 2011.

ـ شارك في العديد من المعارض التشكيلية في العراق وخارجه، في الوطن العربي وبلدان الغرب.

يهيم بتاريخ بابل وآثار العراق، فهي مصدر إلهامه وشغفه لرسم تاريخ وطن له من نتاج الفن والعُمران وتاريخ تأليف وكتابة فيه غنى له واكتفاء ولا إضافة عنده سوى من وحي خيال فنان موهوب مثله، ووعي مُتمرس يُدرك تطور تاريخ الفن التشكيلي ومدارسه، ليختط له مسيرة إبداع هي خليط إبداعي من فيض حضارة وادي الرافدين و (سوريالية) (سلفادور دالي) التي يرى فيها مُحسن أنها ليست استعارة من غرائبية (دالي) بقدر ما هي استعارة من حياتنا العراقية وتحولاتها المُشكاسة (الغرائبية) وتوتر العلاقة في مُجتمعنا بين السلطة والفنان، وبين الفنان والمُجتمع، وبين الفنان وما يأمل وما يحلم به للعيش في مُجتمع وحياة أفضل.

60 مؤيد محسن

حاول مؤيد مُحسن المزج بين تراثنا الأسطوري وغرائبية ما أنتجه (سلفادور دالي) الذي تمكن من ملئ وجدان وعقل ومُخيلة فناننا، فمثلما تأثر (دالي) بفلسفة نيتشة التي تُقوض مركزية العقل وتهدم الأنساق الميتافيزيقية في الفلسفة التقليدية، لتجد لها تعبير تشكيلي في لوحة دالي وكأنها إعادة لحضور فلسفة نيتشة تشكيلياً، لذلك نجد لوحات مؤيد تنحو هذا المنحى في الخلاص من هيمنة الصورة المُكتملة في التشكيل التقليدي ليكسر نسقية الرؤية حال المُشاهدة لينقلك لعوالم فيها من الواقع، ولكنها كما الأسطورة لا تخبرنا عما نتوقعه ونعلمه في سياق معارفنا التقليدية، ليكون الثور مُجنحاً وهو رؤية تشكيلية مُبهرة سبق بها أبناء الرافدين ما سُميَ بـ (السوريالية) الرديفة لـ (الدادائية) التي نشطت إبان الحرب العالمية الأولى، وهي حركة يسعى أصحابها لإنتاج أعمال غرائبية تتجاوز عُنف الحرب ودمويتها، ولكنها تعبير تأولي بنص مكتوب أو عمل فني، موسيقي أو تشكيلي هدفه تنشيط الوعي والمُخيلة معاً فيه تكثيف وإكتناز في المعنى مع الإبقاء على عنصر الإبهار الذي ينبغي أن ينطوي عليه أي عمل تشكيلي مُميز.

لم تكن مُخيلة مؤيد مُخيلة إتباعية تحذو حذو رسومات (دالي)، بل هي مُخيلة مُبدع هو مؤيد مُحسن (سلفادور دالي) ببصمة ونكهة عراقية فيها قيثارة سومر علقنا في أوتارها قُمصاننا البالية كي نُخبرها بخريف عُمرنا الذي نعيش بعد أن غادرتنا أنغامها ولمسة سومري مُتحضر لأوتارها الساحرة بعشق حضارة ومدنية مُستلب، وبتعبير أبهى عن حجم مُعاناتنا تظهر قيثارتنا السومرية برسومات مؤيد مُحسن مقطوعة الرأس ولا أوتار فيها، وكأننا قطعنا تواصلنا الحضاري والمدني معها فضلاً عن تنكرنا لجماليات ما تعزفه أوتارها من شدو وبعث لأمل قطعنا الصلة به بقطع أوتارها فبدت كحسناء في ذاكرتنا ومُخيلتنا يمس الريح أوتارها، أو خصلات أشعة ضوء شعرها المعجون بحناء الألم، فتميل أغصانها مخضرة لتخترق صورة الحُزن لتعزف لحن المحبة، ولكن بُغاة التاريخ قطعوا رأسها بكل إتقان صانعه السومري وأمعنوا في ظلاميتهم فكانت قيثارة سومر بلا وتر، أي بلا نغم، لا نغم للحُزن ولا نغم للفرح، فأي قدر هذا الذي صوره لنا مؤيد، فليس بمقدورنا تصوير الألم ولا نستطيع التعبير عن فرح!!.

61 مؤيد محسن

لقد أظهر مؤيد مُحسن أسد بابل بأكثر عمل تشكيلي، وكل رسوماته يكون الأسد فيه رمزاً لنسيان تاريخ رمزيته للقوة، فمرة يرسمه مؤيد وهو رابض على منصته ببمسافة بعيدة تفصله عن أجساد بلباس بهي ولكنها بلا رأس، جسدان مُلتصقان، جسد رجل يحتضن إمرأة، كما يحتضن الحبيب حبيبته بعد يأس من من حياة مُعاشة، فرغم فصل الرأس عن الجسد، إلَا أن للجسد نزعاته في الحنين والتوق رغم تغاضي الملك (الحاكم) الأسد وبُعده عن المُجتمع الذي يحكمه ليعيش وحيداً مزهواً على دكة الحُكم.

لقد صور لنا مؤيد الأسد يغيب أو يظهر وحين الغياب أو الظهور فهناك حسناء هي بابل قد شوه التاريخ وجهها، أو بابليون قُطعت رؤوسهم لأن في توصيف هويتهم المذهبية حيرة، وليعش أسد بابل في بؤسه لطالما كان الأغلبية لا يستهويهم تاريخهم في مجده، ولا غواية لهم سوى غواية العيش في بؤس وإدعاء ولاء لتاريخ حُزن مُتجدد، وليعش الباقون من أقلية يقبلون أو لا يقبلون أسرى تاريخ تصوير وتمثيل وتمجيد للحُزن في ترويج للسائد من القول في مخيال (الحس الجمعي) لأنهم الأقوى في العُددة والعدد!.

له تشكيل لكرسي وجرة، وكأنه يرسم تاريخ مُلك نافذ لم نجني منه سوى البحث عن قطرة ماء في جرة مركونة في زوايا التاريخ ليضعها على كُرسي السلطة بترميز ذكي يشي لنا مؤيد، بل ويُجهر عما في حياتنا من بؤس، عبر رسمه لجرة لا ماء فيها مُستقرة على كُرسي السلطة البهي!، وفي اللوحة بوابة للأمل يرسمها مؤيد كفضاء حُرية للتعبير وكسر قيود السلطة.

62 مؤيد محسن

يرسم لنا كُرسياً للسلطة بهياً لا جالس فيه، ولكن مُتكأ الكُرسي مرسوم بلباس قميص أنيق مقطوع الرأس، وكأنه يُخبرنا أن كل سلطة غاشمة إنما تعيش بجسد بلا عقل، همها تجميل الجسد لا تنشيط العقل، فقطع رأس النظام الغاشم ورمزه الكُرسي بمُتكأه البهي إلَا أن مصيره نهاية طاغية مُستبد مُتعجرف، سينتهي حُكمه لأنه حُكم لذة لا حُكم تعقل.

يرسم لنا أنثى جميلة تُرضع وليدها وخلفها حضارة وسماء مُلبدة بالغيوم كدلالة عالية الترميز على أن الحياة ستستمر بكل ما مررنا نحن العراقيون فيه من قهر، فتاريخنا الحضاري سيُرضُعنا الأمل وفي جيناتنا عشق لصناعة حياة أفضل.

الثور المُجنح في رسوماته مكسور الظهر، وهو في ذات الوقت ينتظر سفينة النجاة القادمة في لوحته كي تُعيد لأسطورة القوة العراقية حضورها وزهوها.

ألوانه الزيتية وقماش الكانفس أدواته ليخلق منها لوحته التشكيلية بمزواجة ساحرة بين الصورة الفوتغرافية وتنويعاته الغرائبية المُستمدة من خياله المُتفرد في تهويماته أو توهماته.

مؤيد مُحسن يُتقن فعل المُغايرة والإختلاف، لا بقصد شد وجذب المُتلقي وإن كان هذا ليس من المآخذ على الفنان الذي يبحث عن موضوع له فعل تأثير وحضور في فضاء تشكيله لـ (اللوحة)، ولكن هذا لم يكن مقصده الأهم بقدر ما كان يخرج القصد عنده تدريجياً حينما يُمسك ريشته ليرسم من مُخيلته تشكيل لوني لواقع أو تراث من نتاج الماضي له سبق إبداع على منظومات تشكيلية غربية لاحقة، ولكن مؤيداً بفعل ما تميز به من تأثر بالمدرسة السوريالية، ولفرط ما عشناه من (سوريالية) عراقية في لوحة يختلط فيها الزيت بالنار، والفرح بالألم، لذلك تجده يذهب بعيداً في تشكيل الواقع لونياً خارج نمط العيش أو الحُلم، لأن ما في الواقع من صور غرائبية تُغني المُتلقي عن استعارة الكوابيس أو الأحلام.

يشتغل مؤيد مُحسن على الواقع ويعدُ خطابه التشكيلي المؤطر بفضاء اللوحة إنما هو خطاب يبدو (سوريالياً) إلَا أنه خطاب واقعي بلغة (سوريالية) يقتضيها هذا الواقع لا مُقحمة على خطابه ولا على المُعاش في حياتنا، لأننا نعيش واقع (سوريالي) بحق، هو هذا الواقع الذي تعيش فيه شعوبنا العربية والإسلامية، ويستغرب مؤيد مُحسن من الذين يرسمون لوحات إنطباعية أو حتى تعبيرية، لأن في ما نعيشه من مآس كفيل بنقل خطابنا من الدارج الساذج في المُتداول الشعبي والعيش على تصورنا لما يُقال أنه زمن جميل، لأن فيما نعيشه من مُفارقة وخرق لمألوف المُعاش وسرديات الحياة الراكدة الكبرى مصداق لرؤية مؤيد مُحسن التشكيلية.

63 مؤيد محسن

نخيل عراقي مقطوع الرأس، إنسان بلا رأس، وكأنه يتنبأ يكتب تاريخ (العنف الدموي في العراق) بتشكيل بصري يكشف عن جدب حياتنا التي صيرتها الحروب أرض يباب وأشلاء أجساد لا رؤوس فيها، من فرط ما يحيق ببلاد الرافدين من عُنف وشغف لفصل الرأس مكمن الفكر عن الجسد لنعيش أجساداً بلا وعي لتاريخ مضى ولا لحاضر نعيشه وبلا تقدير لمُستقبلنا الآتي.

لوحاته أسألة فلسفية كُبرى عن أسباب الوجود الذي تحكمه (عدمية) نيتشوية تشي بالقول أن لا هدف واضح للحياة، وأن لا قيمة للوجود الإنساني في خضم الصراع من أجل البقاء.

إنها (عدمية) وجودية وأخلاقية، لا تعترف بقيم عُليا أثيرة في تكوين النفس الإنسانية مبنية على التشاؤم وفقدان الأمل لا لأن مؤيدٍ يروم تصدير تشكيل ألوانه وترسيماته رغم بهاء سطحه البصري وتنويعات استخداماته للون بكل ما فيه من مُضمر في التعبير عن الفرح والألم، وإن كان في للألم طُغيان على فضاء تصدير المعنى في اللوحة، ولكن لوحته تزدان بألوان الفرح وبهاء اللون كتحدٍ وإعلانٍ علاماتي على أن في كل تمازج اللون من معنى للتعبير عن تشاؤم، إلّا أن مؤيداً يختار ألوانه بعناية ليكشف لنا عن خبيا التشكيل اللوني، فرغم مافي التشكيل من وشاية ودفع للتماهي مع صورة الألم، إلّا أنه يدعونا للعيش في فضاء الحُلم الذي زين به لوحته.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم