مقاربات فنية وحضارية

"بازوزو" شيطان أساطير بلاد ما بين النهرين

448 السومريونلم يتسن لي من قبل زيارة المُتحف العراقي للآثار لا أعرف لماذا؟ أ هي سذاجة مني أم غباء؟، أو ربما لكوني ابن حضارة الطين السومرية، فظننت أنني مُكتف بحملي ـ كما أحسب ـ لبعض من جينات وجودي ووجدنا نحن أبناء الجنوب.

لا لا أظن هذا ولا ذاك، إنما أظن مُجيباً واثقاً: إنها الحروب التي شغلت جيلي وجيل من هُم قبلي ومن هُم بعدي، فقد طالتنا لوثة الكُره للماضي لقُبح تأويله وتفسيره في زمن الدكتاتور (من نبو خذ نصر إلى صدام بابل تنهض من جديد)، فحسبنا كل ما صنعه أجدادنا من حضارة إنما هي حضارة طُغيان واضطهاد، فلطالما كرهت سماع اسم ذلك الملك البابلي العظيم (نبو خُذ نُصَر) لفرط ما عشناه من ألم وحرمان في زمن الطُغيان، فاقترن اسم هذا الملك شرطياً باسم الدكتاتور، حتى أنني كُنت أتذكر أن في شارع المُتنبي الذي كان من ميزاته الجمالية وجود بعض مجانين الثقافة، وأحدهم كان يسير في الشارع مُسرعاً أيام الحصار وغياب الكهرباء بعد قصف محطات التوليد فيصرخ بعلو صوته (من نبو خُذ نصر إلى صدام "اللالة" تنهض من جديد)، فاقترن تاريخنا الحضاري في بذاكرة القهر والألم، رغم أنني كُنت أعرف قيمة هذه الحضارة، فهُناك من باعة الكُتب في شارع المُتنبي كان يجمع أعداد مجلة "سومر" التي تهتم بحضارة العراق فيأتي العاشقون لها من كُل فيافي الأرض ليشتروا أعدادها شغفاً بحضارة عشقها الغرب قبل الشرق، وتخلى عن التباهي بها أبناؤها، فآثر الآخرون الحفاظ عليها.

نحن أبناء شارع المُتنبي من يستنسخ ويبيع كتاب صموئيل كريمر "ألواح سومر" وهو الذي أكد بمعلومة لا تقبل النقاش أن "التاريخ يبدأ في سومر".

وأنا سليل هذه الحضارة، وابنها غير النجيب، لأنني أيام الصبا والشباب كُنت أعرف بعض الشُبان في مدينتي (قلعة سكر) جنوب العراق يذهبون لحفر بعض (الإيشانات) الواقعة في الجزيرة على طريق (عكيل) أو على طريق الفجر ـ الديوانية، وبعضهم كان يجد لُقاً أثرية وأختاماً اسطوانية، وبعضهم يُخرب كل ذلك العُمران والبناء، بل وحتى بعض من الرُقم الطينية المدفونة في أعماق الأرض، وكما عرفت من بعضهم أن هُناك بعضاً من رجالات النظام السابق كانوا يشترون ما يعثر عليه هؤلاء، وكان يتردد اسم كبير قادة حماية صدام (أرشد ياسين).

يُنسب للإمام علي (ع) مقولة "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، وكُنت أنا من الساكتين عن هؤلاء الذين أعرف بعضهم أنهم من الفقراء، وقيل لهم أن في قبور أجدادكم ومواقع حضارتهم كنوزاً مدفونة، فكُنت أفضل أن يكون سارقاً لتُراث أجداده وهو له فيه بعض من حق الإرث على أن يكون قاتلاً أو قاطع طريق، والنظام يرتضي ذلك، فالعيب ليس في هذا المواطن الفقير إنما (العيب في النظام)!.

449 طه باقراليوم وبعد عمر طويل سنحت لي فرصة زيارة المُتحف، وفي لحظة الدخول استقبلني طه باقر كبير الآثاريين العراقيين يقف على دكة تشي بأنه لا زال يحن لبابل الحضارة وبابل وجوده وصباه وشبابه.

إنه سليل كلكامش، وهو من قدم لنا النسخة العربية لهذه الملحمة الخالدة، تُحيط بطه باقر خُضرة ونسق جمالي يُعيدنا لتذكر جنائن بابل ولكنها ليست مُعلقة.

الخُضرة والحدائق دليل لانعاش النفس وعود على بدء لرؤية كلكامش مرة أخرى، فالخضرة دليل ديمومة الحياة وصيرورتها.

بعد أن ولجنا ادارة المُتحف طل علينا شخص حُنطي البشرة في بعض من سمار المُحيى وسمر الروح وتوهج العينين اللذان ينمان عن ذكاء بان لصاحبهما في حُسن التحاب وجمال الاستقبال وتنظيم العمل الذي كشفه لنا شغف العاملين في هذا الصرح الحضاري البهي.

دخلنا قاعات المُتحف، فكانت بداية التدوين والتاريخ في "سومر" حضارة الطين والبردي والمشحوف والحرف، فيها أوان من الطين والشمع ورُقم طينية وأحجار جلبها السومريون من أقاصي الأرض ليُجملوا وجه الأرض قبل يبابها.

في هذه الصالة اجتمع رجال الحكمة مع رجال الدين ولم يغب عن مُجالستهم رجال الأنس الذين كان لطعم الجعة السومرية نشوتها في أوانيها قبل أن يشربها مُحب لها من يد ساقيها.

حضارة عُمقها أكثر من ستة آلاف سنة، ولك في موجودات المُتحف الآثارية دليل على تثبيت هذا التاريخ.

تشدو بك الألحان نحو قيثارة الجنوب التي تتوسط القاعة الثانية، وأحسب أنني تحسست وعرفت منبت عُرَب صوت (داخل حسن) و(حضيري أبو عزيز) ومكمن جمالهما. إنهما ورثة موسيقى الشجن الذي عزفته قيثارة الذهب السومري، فهمتُ وغاب تركيزي على باقي التُحف الأخرى، وصرت أسمع صوت (أبو كاظم) يرن في أذني صوت ليشدو بأغنيته الشهيرة "فوك ارفع إيدك فوك ارفع ايدك...سلم على اليهواك فوك ارفع ايدك) وبلحظة افاقة وجدت (إيدي) مرفوعة، ورأسي مُنحن، وكأنني أعلنت التوبة، كما يفعل الغربيون حينما يرفعون القُبعة اعترافاً بالجميل.

450 الحضارة الوسومريةبدهشة وفضول وخوف وارتياب وحياء واستحياء دخلت خاشعاً مُتبتلاً أمام بوابة الحضارة البابلية (الأكدية) حضارة الكبير أسرحدون، وحمورابي ناظم مسلة حقوق الإنسان قبل الأوان، وسرجون الأكدي، ونبو خُذ نصر وولده نركال شناصر.

وبينما أنا في ذهولي هذا فإذا بي أجد نفسي وصحبي أمام هيبة بعض من بقايا بوابة عشتار التي لو اصطف كل فناني العراق من شماله إلى جنوبه وهم سليلوا هذه الحضارة أن يأتوا بمثل ما أتى به أجدادهم لعجزوا. ألوان بهية زاهية ينتصب فيها الأسد مُعلناً عن قوة صُناعه في العُمران والحضارة والقوة والغلبة في الجمال قبل الغلبة في تصدير العُنف!.

قفوا معي وانحنوا لأجداد لنا صنعوا تاريخ الحضارة والعنفوان والزهو بما صنعوا ودليله انتصاراتهم وخلودهم الذي بحث عن عشبته كلكامش في الوجود البايلوجي فتجسد ألقاً في الوجود الإنساني!.

في قاعة الحجر والصخر وصالة الفخامة والتجلي الجميل للقوة والحكمة قاعة الحضارة الآشورية يقف الثور المُجنح برأس إنسان، حكيم قوي لجناحيه دلالة البديهة في النباهة والخفة رغم ضخامة المُجسم!. يا لهذا الفنان العراقي الآشوري وريث حضارتين، حضارة الجمال والكتابة في سومر ووريث حضارة النظام والزهو في بابل، ليُزيد حضورهما حضوراً أبهى وأجمل. حضارة آشور ونينوى تدوين وميراث حجري وتعبير عن الجليل بعبارة (إيما نويل كانت) بعد شغفه بالجميل، ألا وهو حضارة أور والوركاء والمشحوف والقصب والطين السومري، والمسلة والجنائن المُعلقة وعودة "ديموزي" ليملأ الأرض خضرة بعد أن جفت ينابيع الحياة فيها.

آشور بانيبال يُزيد المعرفة تحديثاً وتجديداً في تأسيسه لمكتبة احتوت آلاف الألواح الطينية وبعض ما تمكن من جمعه من نصوص أكدية، ليرث نتاج حضارة مكتبة "نفر" مقر الإله (إنليل) والتي وجد فيها أقدم تقويم زراعي في العالم.

452 الثور المجنح

في خضم تدفق التاريخ بألقه هذا توقفت عند صورتين في حضارة وادي الرافدين هذه:

الأولى: هي صورة إلهة الخمر!، وبعد اطلاع وقراءة عرفت أن سكان بلاد الرافدين اتخذوا للخمر آلهة يعدونها الحامي للمحبة، ويأتي التشجيع على صناعتها لارتباطها بإلهة الخمر، فللإله صفات بشرية وإن كان يفوقه في الكمال، لكنه إله يأكل ويشرب الخمر، وبعض المؤرخين يذكر أن الإله "أنكي" يشرب خمره المُقدسة، وبعد نشوة سُكر هتف العراقيون القُدامى باسم الإله "إنليل" الذي فكر في خلق الإنسان. وقد أكد الآثاريون أن العراقيين هُم أول من صنع البيرة وشربها قبل 6000 سنة (مقال لأحمد سمير)، وقد ذُكر في ملحمة كلكامش صاحبة الحانة "سيدوري" وهي أنثى تنماز بالحكمة الإلهية لتي نصحت كلكامش بعدم مواصلته للسفر والبحث عن عشبة الخلود.

أما الصورة الثانية فهي صورة "بازوزو" وهو تجسيم نادر للشيطان، وكما ذكر لي د. قيس أنه تفرد عراقي، فلم يُذكر من قبل أن هُناك حضارة قد جسدَت صورة الشيطان، أو إبليس كما جاء في "المدونة النصية الإسلامية".

صوَر العراقيون القُدامى "بازوزو" = (الشيطان) في أساطيرهم على أنه مُركب مُجسمٌ أسطوريٌ يركب الريح من الصحراء بحثاً عن الماء، له وجهٌ متجهم يشي بالرفض وعدم الرضى بجناحي نسر وجسمُ إنسان وأطراف أسد وذيل عقرب، والعقرب دلالة واشارة ورمز لأبناء التنين (تيامات) الذي قتله آشور في بداية تكوين الكون فصنع منه الماء واليابسة.

وبقراءة مُتأنية لعطايا "بازوزو" نجد أن في تجسيمه اشارات ودلالات لا تحتاج إلى تعقيد تأويل، فهو مصدر لأسباب الوجود (الماء واليابسة)، وكل ترسيم لجزء من أجزاءه إنما فيه ما يُخبرنا عن أهمية وجوده في الحياة، فهو يخترق التصحر ليخلق وعياً بقيمة (الوجود) = (الماء) على قاعدة "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، ففي وجود "بازوزو" نفع وتذكية للوعي الإنساني وقيمة العقل النقدي المُعبَر عنه في تجهم وجهه الذي لا علامة فيه أبلغ من علامة "النقد" وتجسيمها في تشكيل صورة للرفض نستشفها في ترسيم وجه "بازوزو" = "الشيطان".

أجنحته دعوة للتحليق في سماء التفكر لأن منحوتة بلاد الرافدين له أظهرته بجسد إنسان، وكل إنسان يبحث عن الحقيقة إنما هو طائر بجناحين كلاهما تأمل وتعقل، فتشكل بصورة العقرب ورمزية لأبناء التنيين ذلك الكائن الأسطوري الذي يخترق جميل الوجود بجليل تكوينه الذي هو من بقايا عطايا وهبات العقل التأملي الذي من ميزاته الجنوح نحو الخيال والعيش في عوالم الحُلم أو المُثل التي يهيم بها هذا العقل.

شيطان بلاد الرافدين هو فتنتهم، وكم فتنوا العالم من قبل بفيض عطائهم؟، وهي فتنة جمالية.

واليوم نعيش زمن "الفتنة" ولكنها فتنة لا علاقة للجمال فيها لا بتأثير "بازوزو" تعقلاً وتمرداً ولا بتأثير إله السماوات والأرض إيماناً وتودداً.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم