مقاربات فنية وحضارية

الفن بين التعبير والتغيير

هنا في مجتمعاتنا الإنسانية، ذات الثقافات المختلفة مشاربها، تتعد أساليب التعبير عن الرغبات الدفينة في نفوس الأفراد، التواقين للبوح، وقول ما يختلج صدورهم ويسكنها، وتتنوع الدوافع والأسباب وراء بزوغ هذه الرغبة، في تمخيض الحرقة الجِبِلية التي وجدوا أنفسهم عليها منذ أن رأت أعينهم النور، وحاربت رموشهمُ الظلام.

فمنذ عصور خلت، مرورا بحقب الزمان وتقلباته، وصولا إلى يومنا هذا، يلجأ الكثير إلى الالتفاف حول مجموعة من أشكال التعبير الفنية -ذات الصبغة المشروعة والمحظورة أحيانا أخرى- فأناهم لا يهمها المشروع من المحظور، بقدر ما يهما البوح والقول والتفريغ، حتى تتحقق بذلك لذة الإفصاح ومتعة التعبير ومؤانسة الفن.

ومن بين الأشكال التعبيرية التي انتشرت بشكل لافت في الآونة الأخيرة، في ظل التطور السريع لمنظومة التكنولوجية المعاصرة، وتقارب الأقطار، وتقريب المسافات وتعدد الخبرات، فن "الجرافيتي" أو الكتابة على الجدران Graffiti.

507 اسامة الدواح

فالمقصود بهذا الفن، هو ترك بصمات متحفة بمجموعة من الرسومات أو الأحرف على الجدران، وغالبا ما يستعمل في هذا الأثر ما يسمى "بالبخاخات" ذات اللون الواحد، أو الألوان القزحية تارة أخرى، وترجع أصوله للحضارات العتيقة (قدماء المصريون والإغريق والرومان وغيرهم)... أما في عصرنا الراهن، استلهم هذا الفن مبادئه وقواعده من موسيقى (الهيب هوب) الذائع إلهامها في نيويورك الأمريكية، التي كانت مرتعا خصبا لبعض فناني الطبقة الكادحة للفت الأنظار إلى معاناتهم الاقتصادية، وحالتهم المأساوية المزرية.

فن غضب الشوارع، أو ثورة الألوان على الجدران، هكذا لقبه البعض، نظرا لثراه، وغناه،

وتضاربت الآراء حول مشروعيته المتحضرة، وخربشاته المتسلطنة، إلا أن كلمة فنانيه وألوانهم، لا يعلوا عليها كعب، ولا يجادل في قضيتها مجادل.

ففي خضم الزوبعة الهوجاء الظالمة التي عصفت وتعصف ببعض أقطار المعمورة، لم يجد الجرافيتيون بدًّا من مجابهة الظلم بألوان القزح والأرجوان، ومن مبارزة الخوف والفقر والتهميش وكل أشكال الغطرسة والتظليل بأقلام الرصاص، ودهانات الفحم، معبرين عن طقسهمُ الرامز ذو البعد الإرسالي المحض، الذي يعرف بقضيتهم المركزية، وإيمانهم الحق ببسط العدل والمساواة بين بني جلدة آدم، فهذا يعرف بثقافته التي طمستها زعانف أخطبوط العولمة السامة، وآخر يناشد جهات برفع الحيف والظلم عن مجتمعه العميق، وآخر يحلق بريشته فوق جناحي حمامة السلام، باتجاه فلسطين الأبية، متوسلا الله أن يفك قيد الأسرى، ويرفع الاحتلال عن أرض الكنانة الطاهرة، وآخر في خلسة ظلام الليل، يضيء العتمة، برسمه مصباح الأمل تحذوه شمس التفاؤل المُغَيبَّة...

أما الناظر والمار والمتلقي لهذا الفن، يجعل منه فسيفساء خلاصٍ مريح لرتابة يومياته المعتادة، ماتعا رؤيته ورؤاه، منفِّسا عن كرب فؤاده.. وتردف عين لأخرى قائلة: يا للروعة ! لقد بصموا وعبروا عن ما يختلجهم، وفتحوا أزهار قلوبهم وقلوبنا، أبكوا المَرِح، وأضحكوا الباكي، وقدموا دروسا وعبرا، اعتمادا على ما قد استلهمت ملكتهم الإبداعية من تعدد مدارس الفن ومجالاته.

لم يتقيدِ الفن أبدا بمكان، أو طوق رقبته بحبل زمان، هو هكذا رحالة بلا وجهة، وسهم بدون اتجاه، فتقييد أساليب التعبير كيفما عُدت أشكالها، يعتبر ضربا في جوهر روحٍ فياضة بالأمل، وقمعٌ لملكة لم يخلق بها الكل.

فالجرافيتي منتشر في كل مكان، أمامك على الجدار، في مترو الأنفاق، هناك في الأفق على السطح، أو تخطيطا على عربات القطارات الحديثة منها والمتهالكة...

من المرامي التي يصبوا إليها الفن والجرافيتي خاصة، هي التعبير المتحضر عن حالة تخبط الأنا وصراعاتها، أو عن شعورها بالغبطة أو السعادة تارة أخرى، وليس المراد منه التخريب، أو التشويه أو ما لف في فلكه، فإيماننها بالفن يجعلنا نحب تلك الخربشات، ونقرأ سطورها المضمرة، ونلمس أحاسيسها المختفية وراء ستار المنع  وسُترة الظلام.

إن الفن كما عبر أحد الفنانين عند سؤاله عن عدم مشروعية الجرافيتي باعتياره تخريبا، -قال- " الفن هو أسلوب حياة ووظيفته إسعاد البشر، والنتفيس عن أرواحهم".

 

بقلم: أسامة الدواح

 

في المثقف اليوم