مقاربات فنية وحضارية

أسرار مسلة مصرية في قلب باريس!!

يسري عبد الغنيتعد مسلة الأقصر أقدم أثر على أرض باريس يشهد على "ولع فرنسي" بحضارة مصر القديمة، اجتُثت من جذور معبدها في مدينة الأقصر جنوبي مصر ونُصبت في ميدان الكونكورد خلال القرن التاسع عشر، فأصبحت شاهدة على كثير من الصراعات والأحداث السياسية والوطنية للجمهورية الفرنسية حتى الآن في بيئة مغايرة لبيئتها الأصلية.

تعود مسلة الأقصر إلى عهد الملك رعمسيس الثاني، أشهر ملوك الأسرة 19 بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم، الذي أمر ببناء مسلتين أمام معبد الأقصر تخليدا لانتصاراته في حملات عسكرية حمت أرض مصر من اعتداءات أجنبية واستباحة ممتلكاتها.

واختلف علماء تاريخ مصر القديم في تحديد الدلالة الدينية لبناء هذه الكتل الحجرية ذات الأضلاع الأربعة والقمة الهرمية، "هُريم"، والتي تقام فوق قاعدة يُسجل عليها نص تذكاري للملك والإله الذي كرست من أجله.

واتفق البعض على أنها ترمز لهبوط أشعة الشمس من السماء ممثلة في شكل الهُريم، في حين يرى آخرون أن الهُريم يلعب نفس دور الهرم كرمز "للتل الأزلي" الذي بدأت عليه عملية خلق الكون، بحسب العقيدة الدينية في مصر القديمة.

أسهم كتاب "وصف مصر" الذي وضعه الفرنسيون بعد عودتهم من حملتهم العسكرية على مصر (1798-1801) في زيادة الولع الفرنسي بحضارة مصر القديمة، لاسيما بعد تسجيل آلاف الصور لصروح بالغة الضخامة رآها العالم لأول مرة مليئة بنصوص غير مفهومة حتى اكتشف العالم الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون أسرار هذه النصوص المصرية القديمة.

اختيار شامبليون وتناقضه

ازداد الاهتمام بآثار مصر فاستخدمها محمد علي والي مصر (1805-1848) أداة سياسية تخدم مصالحه، مغتنما صراع الدولتين العظميين وقتها، إنجلترا وفرنسا، على مسلتي "كليوباترا" في الإسكندرية وأهدى المسلتين لهما مقابل مساندتهما وتقوية موقفه السياسي أمام السلطان العثماني.

وصل شامبليون إلى مصر في أغسطس/آب 1828 ووطأ أرض الإسكندرية على رأس بعثة علمية تهدف إلى مراجعة صحة منهجه في قراءة النصوص الهيروغليفية، علاوة على فحص مسلتي "كليوباترا"، وتبين أنهما لا تمتان بصلة للملكة، بل أقامهما الملك "تحوتمس الثالث" في القرن 15 قبل الميلاد لوضعهما في معبد الشمس في مدينة هليوبوليس القديمة، ثم نقلهما البطالمة إلى الإسكندرية بعد 13 قرنا، وأُطلق عليهما بالخطأ مسلتا "كليوباترا".

وعندما زار شامبليون معبد الأقصر في جنوبي مصر أعجب بمسلتيه كما يتضح من رسالة أرسلها لشقيقه جاك-جوزيف بتاريخ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1828، وردت ضمن "الرسائل واليوميات خلال رحلة مصر" التي جمعتها المؤرخة هرمين هارتلبن:

"رأيت قصر الأقصر العملاق، تنتصب أمامه مسلتان ارتفاع كل منهما 80 قدما (حوالي 24 مترا)، نحتتا بإتقان من كتلة واحدة من الجرانيت الوردي، فضلا عن أربعة تماثيل ضخمة لرعمسيس الأكبر من الجرانيت الوردي أيضا".

ويضيف شامبليون : "يعجز لساني عن وصف واحد من ألف مما يجب وصفه عند التعرض لمثل هذه الأشياء، فإما أن يظنني الناس مفعما بالحماس أو معتوها مجنونا إذا نجحت في إعطاء صورة ولو شاحبة هزيلة عنها... أعترف أننا في أوروبا لسنا سوى أقزام، وأنه لا يوجد شعب، قديما أو حديثا، بلغ فهم وتصور فن العمارة بمثل هذه الدرجة الرفيعة التي بلغها المصريون القدماء." 

وأمام هذا السحر والإعجاب تراجع شامبليون عن فكرة استلام مسلتي "كليوباترا"، هدية محمد علي، كما قال في رسالته لشقيقه بتاريخ 4 يوليو/تموز 1829:

"أشعر حيالهما بالشفقة والرثاء منذ أن رأيت مسلات طيبة (الأقصر). فإن كان محتما نقل مسلة مصرية إلى باريس فلتكن إحدى مسلتي معبد الأقصر، وستجد مدينة طيبة العريقة السلوى في الاحتفاظ بمسلة الكرنك، التي تعد أروع المسلات جميعا".

أثار موقف شامبليون جدلا بين المؤرخين، لاسيما وأنه دأب في أكثر من مناسبة على طلب الحفاظ على آثار مصر، من بينها مذكرة رفعها إلى محمد علي في هذا الشأن تحت عنوان "مذكرة سُلمت إلى الوالي بشأن حفظ وصيانة الآثار المصرية القديمة":

"ستدين أوروبا بأسرها بالعرفان لسمو الملك إذا تفضل باتخاذ تدابير فعّالة تهدف إلى صيانة المعابد والقصور والمقابر وجميع الآثار الأخرى التي لا تزال تشهد على عظمة وقوة مصر القديمة، والتي تعد في ذات الوقت أروع ما يزين مصر الحديثة".

ويضيف شامبليون في مذكرته : "يمكن لجلالة الملك، بغية تحقيق هذا الهدف، أن يأمر بعدم اقتلاع، بأي حال من الأحوال، أي أحجار أو قوالب طوب منقوشة أو غير منقوشة من الأبنية والآثار القديمة التي لا تزال قائمة في المواقع سواء في مصر أو النوبة".

ويقول المؤرخ الفرنسي روبير سوليه، في دراسته الخاصة "الرحلة الكبرى للمسلة"، إن شامبليون "لم يكن من بين الأجانب الذين كانوا ينهبون التراث المصري بهدف التربح، بل كان يهدف إلى وضع تلك القطع الأثرية في مكان آمن حتى يستطيع العلماء دراستها ويستمتع بها الجمهور الأوروبي".

أما شامبليون نفسه فقد أفصح في رسالته لشقيقه بتاريخ 4 يوليو/تموز 1829 قائلا:

"ستصبح فرصة عظيمة لعرض أثر مثل هذا القدر من الروعة في فرنسا بدلا من الأشياء التافهة والزينة الرخيصة التي نسميها نحن بكل زهو آثارا وطنية، والتي تصلح بالكاد لتزيين صالونات صغيرة ... إن كتلة كتلك المسلة المهيبة تكفي بمفردها للتأثير بشدة على العقول والأعين. كما أن عمودا واحدا من أعمدة الكرنك يعد أثرا بمفرده أكثر من الواجهات الأربعة لفناء متحف اللوفر".

مغامرة شاقة

كيف نُقلت كتلة حجرية تزن 230 طنا من الأقصر إلى باريس؟

استبعد شامبليون فكرة تقطيع المسلة ووصف ذلك بـ "تدنيس للمقدسات"، لاسيما وأن الرومان كانوا قد نجحوا في القرن الرابع الميلادي قبل فرنسا في نقل مسلة من معبد الكرنك، عبر البحر المتوسط، ونصبوها في ميدان القديس بطرس في روما.

شيدت فرنسا لهذا الغرض سفينة مستوية القاع تستطيع السفر في مياه البحار والأنهار، تفاديا لتعدد نقل المسلة من سفينة لأخرى وأطلقت عليها اسم "الأقصر"، غادرت ميناء تولون في 15 أبريل/نيسان عام 1831، وعلى متنها طاقم من 150 شخصا من حرف مختلفة، جميعهم تحت قيادة المهندس "أبوللينير لوبا".

وصل الطاقم إلى الأقصر يوم 14 أغسطس/آب، وبدأ العمل ثم توقف بسبب وباء الكوليرا الذي أصاب 15 فرنسيا، وتسبب في وفاة 128 مصريا، ووصف ريمون دي فرنيناك سان-مور، قائد بعثة نقل مسلة الأقصر إلى باريس، في مذكراته وملاحظاته بعنوان "رحلة السفينة الأقصر في مصر" التي نشرها في باريس عام 1835 مشهد هؤلاء المصريين:

"إن الفلاحين المساكين الذين أصابهم وباء الكوليرا لم يكن لديهم مشروب سوى ماء النيل ولا سرير سوى الأرض، ومع ذلك لم تصدر منهم أي صرخة أو شكوى، فمنهم يتعلم المرء أن احتقار الحياة يوجد في العراء أكثر مما يوجد في كتب الفلاسفة".

لم تُقطع المسلة عن قاعدتها قبل يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول، وكتب فرنيناك رسالة إلى شامبليون :

"ابتهج معنا يا سيدي المواطن، لقد غادرتنا الكوليرا، وخضعت المسلة الغربية بالأقصر أمام أبسط الوسائل الميكانيكية الحديثة. أمسكنا بها أخيرا ومن المؤكد أننا سنحضر إلى فرنسا هذا الصرح الذي لابد وأنه سيزودكم بمادة لدروسكم الممتعة... ستشهد باريس ما صنعته حضارة قديمة من أجل صيانة التاريخ في ظل عدم وجود مطبعة. وسترى (باريس) أنه إذا كانت فنوننا مدهشة، فإن شعوبا أخرى صنعت فنونا قبلنا بأزمنة طويلة لا تزال نتائجها المدهشة تذهلنا حتى اليوم".

لزم الأمر التفاوض مع الأهالي لشراء بيوتهم وهدمها من أجل إفساح الطريق ونقل المسلة على قضبان من الخشب بمساعدة 400 عامل مستأجرين إلى أن وضعت المسلة على ظهر السفينة في نهاية ديسمبر/كانون الأول.

واجهت السفينة بعد إبحارها صعوبات واضطرت إلى الرسو من جديد في مدينة رشيد بسبب عدم قدرتها على اجتياز مياه النيل إلى البحر المتوسط، فاستعانت بواحدة من أوائل السفن البخارية الفرنسية في العصر واسمها "أبو الهول" وقطرت "الأقصر" وسط بحر مضطرب لمدة يومين هدد السفينة بالغرق وهلاك الطاقم والمسلة في قاع البحر، حسبما وصف فرنيناك في مذكراته.

وصلت السفينة إلى ميناء تولون يوم 10 مايو/أيار 1833، وعبرت مصب نهر السين ووصلت إلى باريس في 23 ديسمبر/كانون الأول بعد رحلة شاقة.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم