حوار مفتوح

المثقف في حوار مفتوح مع الأديب ا. د. عدنان الظاهر (6)

 

حمودي الكناني، قاص / العراق

أبا أمثل، استاذي الكريم، لا اريد أن اثقل عليك ولكني اريد ان استمتع بما تقوله وتصرح به على أساس الرؤية، رؤية الرجل الذي عركته الحياة وخبر دروبها السالكة وغير السالكة ... ولكني وجدتُ نفسي محتارا كيف اتمكن من ولوج عالمك المترع بفروع المعرفة المختلفة ولا غرابة في ذلك وما يهمني هنا هو الجانب المتعلق بالأدب كجانب مهم في حياتك والرؤية السياسية التي تكونت لديك بعد كل ما مر على العراق وأمة العرب .. ولهذا اسمح لي ان اخلط بين الجانبين الادبي والسياسي مع بالغ تقديري وشكري الجزيل لك يا استاذنا العزيز وأين هو صاحبك العامري الذي تتهددني وتتوعدني به؟

 

س63: حمودي الكناني: لم ينشدْ أبو الطيب المتنبي شعرَه وهو قائمٌ في حضرة سيف الدولة وانما كان ينشده وهو قاعد، وورد أن سيف الدولة كان يُجلِس المتنبي الى جانبه وأحيانا يترك له حتى كرسيّه ليجلس عليه ... ما سر هذه الحظوة وهل صادف أن قرأت أن أبا الطيب يعود نسبه الى آل البيت؟

ج73: د. عدنان الظاهر: صحيح ... كان أبو الطيّب المتنبي يقرأ أشعاره جالساً في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب ... هذا ما قرأناه ولهذه المسألة دلالة كبيرة لا تُخفى على أحد .

وفيما يخص الشق الثاني من سؤالك أقول: هذه مسألة حديثة أثارها بعض المعجبين بالمتنبي من شعراء وكتاب ونقاد أخص منهم بالذكر الأستاذ عبد الغني الملاّح . لم تكن هذه المسألة زمان المتنبي ذات شأن ولم يلاحقهاً أحدٌ بجديّة سواء من قبل خصوم المتنبي أو من قبل مناصريه والمعجبين به . كان خصومه يركزون على مسألة وضاعة أصل المتنبي ومن أنَّ والده كان سقّاءً في الكوفة وأنه ليس يمانياً من كندة اليمن . إستند الذين زعموا أنَّ للمتنبي نسباً بآل البيت على ما قال هو في بعض أشعاره من هذا البعض على سبيل المثال:

أنا الذي بيّنَ الإلهُ بهِ ال

أقدارَ والمرءُ حيثما جَعَلهْ

جوهرةٌ تفرحُ الشِرافُ بها

وغصّةٌ لا تُسيغها السَفِلةْ

...

أنا ابنُ مَنْ بعضُهُ يفوقُ أبا ال

باحثِ  والنجلُ بعضُ مَنْ نَجَلهْ

لم ينسب المتنبي لنفسه أي نسبِ شريف عدا ما قال في هذه الأبيات وليس فيها ما يدل على خلاف ذلك . نعم ، فيها مبالغات وشطحات لكنها لم تكن الأولى كما لم تكن الأخيرة .

الأمر الأكثر غرابة هو ما أضاف طه حسين وتطرف فيما أضاف إذْ شكك في ولادة المتنبي حتى جدّفَ وأساء لدينه فادّعى أنَّ المتنبي إبن سفاح لوالده مع جدته لأمه ! أو أنَّ والده كان قد تزوج من هذه الجَدّة فكان المتنبي وليد هذا الزواج الذي يحرّمه الإسلام ! لقد رددتُ على طه حسين مطولاً في مقالة خاصة منشورة . إدعى طه حسين أنَّ المتنبي لا يعرف أمه الحقيقية ولم يذكرها في أشعاره فبينت له بالأدلة وبشعر المتنبي أنَّ الرجل ذكر أمه في شعره ثلاث مرات وليس مرة واحدة .

 

س64: حمودي الكناني: من خلال قراءتي المتواضعة لشعر المتنبي وما كُتِب عنه وجدت أن لدى الرجل طموحا كبيرا حتى أنه كان يفرد لنفسه مدحا في القصيدة اكثر من ممدوحه، ما السرُّ في ذلك؟

ج64: د. عدنان الظاهر: هذا سؤال وجيه نجد جوابه في شخص وشخصية المتنبي نفسه .  كان كبيراً في نفسه وقد قال:

إذا كانت النفوسُ كباراً

تعبتْ في مرادها الأجسامُ

ثم قال:

أيَّ محلٍ أرتقي

أيَّ عظيمٍ أتقي

وكلُّ ما قد خلقَ اللهُ

 وما لم يخلقِ

مُحتقرٌ في همّتي

كشعرةٍ في مَفرقي

واحتار الناس في هذا " المفرق " ... أهو مفرق شعر الرأس أم مفرقُ ما بين الوركين؟

وعليه فلا غرابة أنْ نجده يخصص لنفسه من القصيدة ما يخصصه لمن يمدح . إنه يقيم حالة توازن تُرضي كبرياءه الشخصي وقدره كشاعر يعرف قيمة نفسه ومكانة شاعريته بين شعراء عصره . لا يتنازل عن هاتين المكانتين أمام ممدوحيه أبداً وكانت تلك إحدى سماته المعروفة .

 

س65: حمودي الكناني: إن ما لقيه المتنبي عند سيف الدولة كان بالغ الاثر في نفسه مما جعله مرتاحا من التنقل بين الامراء والسلاطين لكن راحة بال المتنبي هنا لم تدم فمن خلال قراءتك العميقة لهذا الشاعر ما هي الاسباب مجتمعة تلك التي اودت الى فك عرى العلاقة بين أمير بني حمدان وأمير المدح والهجاء والحكمة والغزل؟

ج65: د. عدنان الظاهر: سؤالك للأسف غير محكم السبك والصياغة خاصة في مبتدئه . لهجر المتنبي لصاحبه وصديقه سيف الدولة الحمداني أسباب كثيرة تراكمت مع مر السنين حتى بلغت حالة الغليان فالإنفجار . كان  في حاشية سيف الدولة خصوم للمتنبي كبار المنزلة منهم صهر وابن عم سيف الدولة الشاعر أبو فراس الحمداني الذي كان يرى نفسه أفضل من المتنبي في أمور كثيرة بما فيها الشعر ، ثم درجة قرابته من أمير حلب . ثم كان هناك اللغوي إبن خالويه فضلاً عن عدد من صغار الشعراء من المتملقين وشحاذي صالونات الأمراء وقد استخدم أبو فراس العديد منهم لسب المتنبي والتعرض له وذمه والحط من قيمته . وكانت قصيدته العصماء خاتمة حقبة المتنبي مع أمير حلب حيث نفثَ فيها ما في قلبه من جروح وصبر وما كان قد تحمّل من عناصر تلك الحاشية ... أعني قصيدة " واحرَّ قلباه " حيث بها أنهى المتنبي وجوده في حلب الشهباء وقرر الرحيل إلى مصر حيث كافور الإخشيدي . كتب المتنبي في مقدمة قصيدته المعروفة " كفى بكَ داءً "  ما يلي ( فارق أبو الطيب سيف الدولة ورحل إلى دمشق وكاتبه الأستاذ كافور بالمسير إليه ...) .

بعض أبيات تلك القصيدة ففيها آيات واضحات للنهاية التي قررها المتنبي:

وا حرَّ قلباهُ ممن قلبُه شَبِمُ

ومن بجسمي  وحالي عنده سَقَمُ

 

ما لي أكتّمُ حبّاً قد برى جسدي

وتدّعيَ حبَّ سيفِ الدولةِ الأممُ

 

قد زرتهُ وسيوفُ الهندِ مُغمَدةٌ

وقد نظرتُ إليهِ والسيوفُ دمُ

 

يا أعدلَ الناسِ إلاّ في معاملتي

فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحَكَمُ

 

أعيذها نَظراتٍ منك صادقةً

أنْ تحسبَ الشحمَ فيمن شحمُهُ ورمُ

 

وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرهِ

إذا استوتْ عندهُ الأنوارُ والظُلَمُ

 

سيعلمُ الجمعُ ممن ضمَّ مجلسنا

بأنني خيرُ من تسعى بهِ قَدَمُ

 

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني

والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

...

لم يتحمل سيف الدولة أكثر مما قال المتنبي في نفسه فيقال رماه بمفتاح أو محبرة أسالت الدم في وجه الشاعر فقال إرتجالاً:

إنْ كانَ سرّكمُ ما قال حاسدنا

فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ

 

ثم كان الرحيل المعروف ورفقة المتنبي لكافور في مصر وتجربته المرة معه وما قال فيه من ذم طبّقت شهرته الآفاق .

 

 س66: حمودي الكناني: لكل حكيم أثرٌ ورؤية في الحياة، ما الفرق بين رؤية المتنبي ورؤية صاحب معرة النعمان رهين المحبسين أبي العلاء؟

ج66: د. عدنان الظاهر: لا من سبيل للمقارنة بين الرجلين فالباصر غير البصير رهين المحبسين . لم يغادر أبو العلاء المِعرّي معرة النعمان إلا مرة واحدة زار فيها بغداد واختلط بكبار علمائها ومشاهير أهل بيوتها وكتب قصيدة يُرثي فيها والد كل من الشريف الرضي وأخيه الشريف المرتضى قال في تقديمها ( قال ببغداد يُرثي الشريف أبا أحمد الموسوي الملقّب بالطاهر ويعزّي ولديه الرضي أبا الحسن والمرتضى أبا القاسم ) . كما اختلف إلى دور العلم وزار مكتبات بغداد وكتب قصيدةً خاطب فيها " خازن دار العلم ببغداد " أبا أحمد عبد السلام إبن الحسن البصري؟ قال فيها:

هاتِ الحديثَ عن الزوراءِ أو هيتا

وموقدِ النارِ لا تكرى بتكريتا

 

ثم جادل وناقش ومدح بغداد وماء دجلة  وكان يزور مضيفي كل من الشريف الرضي وأخيه المرتضى . ثم عاد إلى محبسيه في معرة النعمان وأمضى حياته هناك . المتنبي غامر ومدح ودخل السجن وتملّق لساجنه وزار العديد من بلدان زمانه يمدح ويأخذ ويُقيم أو يرتحل ولم يقرّ له قرار لفترة طويلة خلا فترة مكوثه في حلب مع سيف الدولة الحمداني . ليس للمتنبي سوى ديوان شعره أما المعري فله ديوانان من الشعر هما سقط الزند ولزوم ما لا يلزم وعدد من الكتب منها مُعجز أحمد فضلاً عن كتابه " رسالة الغفران " . مع ذلك فالمعري كان شديد التأثر بالمتنبي من حيث منهجه في الشعر وطرق نظمه حتى قيل فيه إنه تلميذ المتنبي في مجال الشعر . صنّفُ النقاد أبا العلاء أنه رجل شكّاك ومرتاب في أمر الدين والرسل ويُنسب إليه أنه كان يقول بألاّ ضرورة للرسل فالعلاقة بين البشر ورّبهم علاقة مباشرة لا تحتاج إلى وسيط . ألم يقل في بعض لزومياته:

في اللاذقية  ضجّةٌ ما بين أحمدَ والمسيحْ

هذا بناقوسٍ يدقُّ وذا بمئذنةٍ يصيحْ

كلٌّ يعززُ دينه يا ليتِ شِعري ما الصحيحْ؟

كان المتنبي واضحاً وصحيح الإسلام رغم إتهام البعض له بغير ذلك وشعره طافح بالدفاع عن الدين الإسلامي فضلاً عن معرفته الدقيقة والعميقة للقرآن.

 

س67: حمودي الكناني: هل للمتنبي علاقة بالقرامطة من بعيد او قريب؟

ج67: د. عدنان الظاهر: كان قرمطياً أوائل شبابه لكنه وبعد أنْ أثرى وأسرى في البلدان وقرر الإستقرار في مسقط رأسه الكوفة صار يناوئ القرامطة ويعيب عليهم حتى أنه قاتلهم حين ثاروا في الكوفة وذمَّ زعيم ثورتهم أقذع ذم في قصيدة قالها عام 337 منها:

وجيشَ إمامٍ على ناقةٍ

صحيحِ الإمامةِ في الباطلِ

يُشمّرُ للجِّ عن ساقهِ

ويغمرهُ الموجُ في الساحلِ

 

وله قصيدة أخرى يذم فيها تمرد بعض الخوارج من بني كلاب في الكوفة حيث قال:

 

أرادتْ كلابٌ أنْ تفوزَ بدولةٍ

لمنْ تركتْ رعيَ الشويهاتِ والإبلِ

 

أثرى المتنبي وتنعّم فترك قرمطيته وثورويته كما هو الشأن اليوم مع الكثير من ثوار أمس ... لكنَّ المعري لم يفارق إسماعيليته أبداً وظل أميناً لها .

 

س68: حمودي الكناني: العيش في بلاط السلاطين والملوك والأمراء يعني القرب من معترك السياسة وإفرازاتها كالحروب والهدنة والصلح وما الى ذلك وتلك كانت سمة العصر لكن متى يحتاج الحاكم الشاعر ويجعله من المحظيين عنده؟

ج68: د. عدنان الظاهر: كان الشاعر (الكلام عن زمان المتنبي) يومذاك يمثل وزارتي الثقافة والإعلام والناطق الرسمي لملك أو أمير أو حاكم هذا البلد أو ذاك أي أنه كان يلعب أدواراً لا غنى عنها سواء في زمن الحرب أو السلام . كان المتنبي لا يفارق سيف الدولة في بعض حروبه خاصة مع الروم وله قصيدة ترقى إلى مصاف الملاحم يصف فيها ما كان يجري من معركة مع الروم .. أعني قصيدة " الرأي قبل شجاعة الفرسان ":

الرأيُ قبلَ شجاعةِ الفرسانِ

هو أولٌّ وهي المحلُ الثاني

ومن روائع ما فيها حيث صور الحرب كأنَّ الشاعر سجّلها على جهاز فيديو:

قادَ الجيادَ إلى الطعانِ ولم يقُدْ

إلاّ إلى العاداتِ والأوطانِ

 

إنْ خُلّيّتْ رُبطتْ بآداب الوغى

فدعاؤها يُغني عن الأرسانِ

 

في جحفلٍ سترَ العيونَ غبارُهُ

فكأنما يبصرنَ بالآذانِ

 

يرمي بها البلدَ البعيدَ مُظفّرٌ

كلُّ البعيدِ له قريبٌ دانِ

 

فكأنَّ أرجُلَها بتُربةِ مَنبجٍ

يطرحنَ أيديها بحصنِ الرانِ

 

حتى عبرنَ بأرسناسَ سوابحاً

ينشرنَ فيه عمائمَ الفرسانِ

 

يقمُصنَ في مثل المُدى من باردٍ

يَذَرُ الفحولَ وهنَّ كالخصيانِ

 

والماءُ بين عجاجتينِ مُخلِّصٌ

تتفرقانِ به وتلتقيانِ

 

فتلَ الحبالَ من الغدائرِ فوقه

وبنى السفينَ له من الصلبانِ

 

وحشاهُ عاديةً بغير قوائمٍ

عُقُمَ البطونِ حوالكَ الألوانِ

...

هل قرأت عزيزي الأستاذ الكناني أكثر روعةً أو أكثر بلاغةً من هذه الأبيات في وصف ساحة حرب وما جرى فوقها خاصة وصفه لنهر أرسناس وكيف خاضت فيه عبوراً خيول الحمداني؟ هنا في هذا الموقف وسواه تبرز أهمية الشعراء بالنسبة لحكام ذاك الزمان حيث لا مراسلو صحف وفضائيات ولا أجهزة تصوير ولا مركبات فضائية تصور المعارك من علٍ . ليت المتنبي كان شاهد عيان الحملة التي جرّدها الخليفة العباسي المعتصم إستجابة لإستغاثة المرأة التي صرخت " وامعتصماه " ! لم يشارك فيها الشاعر أبو تمام لكنه قال للمعتصم قصيدته المعروفة:

السيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ

في حدّه الحدُّ بين الجدِ واللَعبِ

 

فقارن بين شاعرين وموقفين .

 

يمكن توجيه الاسئلة عبر الاميل الاتي

 

[email protected]">[email protected]

 

 

 

للاطلاع

 

حوار مفتوح مع الأديب ا. د. عدنان الظاهر

 

  

 

خاص بالمثقف

 

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2275 الخميس 15 / 11 / 2012)

 

في المثقف اليوم