تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

روافد أدبية

خيبة أمل

MM80سمعتها تئن وتقول بصوت أجش حسبي الله ونعم الوكيل، ثم أخذت تنشج نشيجا مؤثرا وهي تستغيث: أيها الرجل الطيب أنقذني حفظك الله وجازاك عني خيرا، أكاد أهلك..

أسرعت الخطى نحو مصدر الصوت المستغيث، ومن حسن حظها أنني رفعت بصري إلى الأعلى في ذلك المكان المعتم المشبع بالرطوبة، فوقعت عيني عليها، يا لفظاعة الأمر وجهها شاحب وشعرها أشعث أغبر لايأبه بها أحد، أمسكت بيدها وأخرجتها من المأزق الذي كانت فيه، الوهن البادي على جسمها يشي بأنها تعاني من الهزال إما بسبب سوء التغذية، وإما بسبب فقر الدم، كيف لا يصيبها هذا الداء وقد ظلت حبيسة ذلك المكان الضيق البائس مدة لا يستهان بها من الزمان، ولأنها كانت تعاني من عسر في التنفس، فلقد تصدقت عليها بشيء من أكسيجيني، معتمدا تقنية رجال الوقاية المدنية وحراس الشواطئ في نقل الهواء لرئتي الضحايا المهددين بالاختناق نفخت فيها من أنفاسي حتى انتعشت رئتاها الضامرتان. بعدما التقطت أنفاسها ومسحت عن محياها الغبار بكفيها المرتعشتين؛ سألتها عن أولئك الأشخاص الذين كانوا بجوارها ولم يبادر أي واحد منهم لنجدتها ومواساتها في محنتها، بل الأنكى من ذلك لاحظت على ملامحهم علامات الاستهزاء بها، ولم أنج من نظراتهم المبطنة بالغموض والريبة؟ قالت لما عاد إليها رونقها وهي تدعو بالويل والثبور على من كان سببا في الزج بها هناك.

- أرأيت صاحب اللحية الهوشيمينية، الذي ما انفك يمشطها بأنامله المعقوفة؟

- دعيني أفكر إنه يشبه يشبه يشششش..

- إنه محمد زفزاف.

- هو بالذات.

- وذلك الذي بجانبه صاحب القبعة التونسية عريض الجبين؟

- إنه طه حسين؟

- وذو النظارتين الطبيتين السميكتين الغارق في التفكير؟

- إنه صاحب نوبل العربية نجيب محفوظ.

- وأما ذو السحنة الغامضة التي تجمع بين الحزن والسخرية.

- إنه زكريا تامر.

- والجالس عن يمينه؟

- صاحب البيرية السوداء والشارب الأبيض، أكاد أسمع نهيق حماره إنه توفيق الحكيم.

- أجل إنه هو.

استغربت من تصرف خيرة أدبائنا وتجاهلهم لأنين المسكينة المغلوبة على أمرها، وعزمت على أن أقصدهم مستفسرا سر تجاهلهم نداء المستغيثة. فما كان منهم إلا أن سخروا من نخوتي هذه وقد عبّر طه حسين عنها بقهقهة مجلجلة حتى كاد يرتد بصيرا، والشيء نفسه فعله توفيق الحكيم حتى اسود شاربه وتزحزحت عن رأسه بيريته، وأما نجيب محفوظ فلقد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة ارتجّت على إثرها زبيبته وهو يقول يالك من عيّل ظريف وغرّ، وقد استحسن كلّ من زفزاف وزكريا تامر هذه المداعبة من نجيب. وفجأة أطرق الجميع وخيم الصمت المطبق على المكان. بقيت هنيهة مشدوها لما بدر منهم، إلى أن أحسست بيد تجذبني لمغادرة المكان إنها يد الصغيرة الهزيلة جدا.

للانعتاق من نير محتجزها ولآخذها معي، كان لابد أن أدفع عشرين درهما ثمن حريتها - ثمن قليل وأجره كبير-. على جناح السرعة توجهت بها إلى أقرب مقهى لمعرفة قصتها كاملة دون نقصان، فأنا أومن بالحكمة البليغة القائلة: - تكلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر-.تكلمت بكلام مقتضب وقصير جدا جدا جدا، قلبت صفحاتها الواحدة تلو الأخرى، حتى وصلت إلى الفهرس لعلّي أجد فيها ما يكشف عن هويتها، فلم أجن سوى ضياع الوقت والسخرية من سذاجتي من قبل توفيق الحكيم وجماعته. أمسكتها من معصمها وتسللت خلسة إلى المكتبة التي أخذتها منها مكمما فاها بيدي حتى لا أثير انتباه جماعة الحكيم، فيغسلونني تشفيا وسخرية، بخفة الساحر الحاذق وضعتها من حيث أخذتها.

وأنا أوليها أخمص حذائي مطلقا ساقي للريح، تفرقعت في أذني القهقهات التي تحاشيت قدر المستطاع سماعها.

 

أحمد بلقاسم ** المغرب

بركان -20-02-2015

 

في نصوص اليوم