روافد أدبية

ثمان وأربعون ساعة في الهاوية

almothaqafnewspaperإلى أبي العزيز وأمي..الى عائلتي التي أحب..

حاولت أن أهتّك غشاء الصمت.. أن أصرخ في وجه القدر.. أن ألطم وجه الحياة الّتي قصمت ظهري مرارا لكنّي لم أفلح.

أكتب بعد فوات الأوان، بعد أن أوصدت في وجهي أبواب الأمل، فما عاد الموت يخيفني.. فأنا على شفير "الهاوية".

حين تصلكم رسالتي سأكون في مكان بعيد جدّا وقد فات الأوان،  فكلّ ما أطلبه منكما أن تأخذا الأمر بهدوء، وأن تتقبّلانه لأنّي قد اتخذت قراري وحسمت أمري.

"أمل"

..............

غريب هذا القدر. تتنهّد "أمل" في سكون يرتعد جسمها الهزيل. تطلّ من شرفة غرفتها فترى الحركة شبه منعدمة، رايات سوداء في كل مكان. هدوء مستفزّ هي الآن بأرض "الخلافة" مع مجموعة من الفتيات بالكاد تعرف أسماءهنّ. فجأة يطرق باب الغرفة بشكل مريب،  فتلج امرأة بعباية سوداء قائلة:

- السّلام عليكم، أرجو أن تكون ليلتكنّ الأولى بأرض الخلافة قد مرّت بسلام.

تلتفت الفتيات إلى بعضهنّ ويتمتمن في اضطراب، فتزيح السيّدة النّقاب عن وجهها ثمّ أردفت:

- حان موعد الفطور جهزن أنفسكنّ، ينتظرنا يوم حافل بالأعمال.

على الضّفة الأخرى من العالم تجثو والدة "أمل" باكية، وينهار والدها من هول الصّدمة. فقد حاولا عبثا فهم ما حصل، ولكن غيابها المفاجئ قصم ظهرهما ولم يكن لهما من بدّ سوى اللّجوء إلى السّلطات المعنية لاقتفاء أثرها علّهما يظفران بإجابة.

لم تكن أمل على اقتناع تام بقرارها هذا حتّى أنّها لم تنم تلك اللّيلة كما يجب. كانت الأفكار تنهش!!جمجمتها الصّغيرة. هل هي مستعدّة للموت وما الّذي ينتظرها الآن.. وكيف تقبّلت عائلتها الموضوع؟؟

هل ستتأقلم مع قوانين الدّولة الصّارمة، فلطالما سمعت من وكالات الأنباء عن جرائم "داعش"  وتعطّش الجنود للدّماء وعن عمليات بيع وسبي للنساء، أتهرب من قدر سيّء إلى آخر أسوأ،

أم ينتهي بها الأمر جثّة مقطوعة الرّأس على قارعة الطّريق.

فجأة تلج سيّدة أخرى إلى الغرفة، فتعرّف بنفسها " أم سلمان"، في يدها اليمنى ورقة:

السّلام عليكم، أرجو من الأخوات اللّواتي يسمعن أسمائهنّ أن يقفن على يميني، سنقسمكنّ

إلى مجموعات.

- أية.. أسماء.. مريم.. عائشة.. بلقيس، ستذهبن اللّيلة إلى الموصل. 

حافظن على هدوئكنّ رجاءً،  مهمتكنّ سهلة للغاية ستعدن إلى الرّقة حالما تنتهين منها نحن بأرض الخلافة حيث الأمن والسلام. أنتن محظوظات آلاف الأخوات يرغبن بالانضمام إليكن، والهروب من ظلمات الفسق والفجور إلى نور الإسلام والهداية..

قالت كلماتها هذه، وهي تبتسم في مكر بعد أن لاحظت أن منسوب التوتّر اختفى تدريجيا. وإنّها استحوذت على ثقة الفتيات. لكن في طريقها إلى غرفة القائد لعنت نفسها مرارا، وسئمت من تلك الأكاذيب الّتي تردّدها في كلّ مرّة. وقد ملّت من هذه المسرحيّة الّتي تؤدّيها منذ سنوات، والّتي راحت ضحيتها آلاف الفتيات في عمر الزّهور. عبثا طلبت من القائد أن يقتلها، أو أن ينفيها بعيدا. كان دورها أساسيا هو الاستقطاب والتّأثير. هي الشّيطان المختفي في زيّ فتاة تقيّة وبريئة...

فلكلّ شخص في هذا المكان قصّة أو فاجعة قادته إلى حفرة الجحيم هذه. هنا حيث لا صوت يعلو فوق سطوة السيف، هنا حيث تقطف الرّؤوس جورا وبهتانا، هنا حيث يتجوّل شبح الموت بكلّ طلاقة، ويهمس ساخرا: "من التّالي".

تسير الحياة هنا بشكل بطيء ومستفز، وينتظر كلّ شخص مهمّة مّا قد تؤدّي إلى حتفه. الفتيات آلائي أرسلن إلى الموصل، تمّ توزيعهنّ على القادة هناك، وتمّ اغتصابهنّ بشكل شنيع، بل أكثر من ذلك لقد تمّ توزيعهنّ في اللّيلة الموالية على المقاتلين. وهكذا دواليك حتّى أنّ أحداهنّ كانت تدعى "أسماء"، أقدمت على قطع شريانها، فأهدر دمها، بعد أن قطع رأسها في حضرة صديقاتها.

حاولت "مريم"  مرارا أن تتّصل بأمل لعلّها تنجو بنفسها، أو لعلّها تستفيق من سباتها. وتركت لها رسالة توضّح فيها تفاصيل مريعة. لكن هذه الأخيرة أحجمت على فتح بريدها الالكتروني مخافة أن تتّصل بها عائلتها، فيؤنبها ضميرها على فعلتها.

في الواقع تفطّنت السّلطات لسفرها إلى تركيا، ومن ثمّة إلى سوريا. فعلم الجميع أنّها الآن باتت في حكم المفقودين، وأنّه لا أمل لهم سوى الانتظار علّها تتّصل أو تحدّد موقعها.

مضت السّاعات الأخيرة متثاقلة، حتّى كأنّ الوقت يبدو لا نهاية له، فقد باتت الغرفة شبه فارغة ولم يبق بها سوى " أمل"، وثلاث فتيات أخريات، قد تمّ اصطحابهنّ صباحا إلى منطقة قريبة من الرّقة.

اللّيلة إذا ستكون هي اللّيلة الموعودة ستستلم " أمل" بعد انقضاء ثمان وأربعون ساعة مهمّتها. في الواقع هي مافتئت تستغرب هذا التّأخير، بل أنّها تتوجّس من المهمة الّتي قد تحظى بها.

 من يعلم قد تأخذها المنيّة في رحلة أخيرة، أو قد ينتهي بها الأمر كصديقاتها،  كلّ شيء جائز في حفرة الجحيم هذه حيث زجّ بها القدر.

فجأة يراودها شبح الماضي، فتفتح حاسوبها لتلقي نظرة على صور عائلتها. فتعترضها رسالة من شخص مجهول: "أمل أنقذي نفسك قبل فوات الأوان سيتم إرسالك إلى حتفك الليلة".

جثت على الأرض واضعة يدها على فيها، والدّموع تنهمر من عينيها بغزارة. ترى ماذا ستفعل الآن وكيف ستواجه مصيرها المحتوم. ترى هل ستستطيع الفرار من مكان يحاصره الجنود من كلّ  !مكان. هي الّتي قادت نفسها إلى هذا السّجن المريع، فكيف لها الهروب من سجّانها  

 

نسرين الأحقاف

 

في نصوص اليوم