تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

اخترنا لكم

عبد الله الغذامي: الإنسان بوصفه جهازاً مفاهيمياً

هل الإنسان كائن مفاهيمي؟ أي هل تنتجنا المفاهيم أم نحن ننتجها؟ ولا شك أن الإنسان حزمة معانٍ، فهو ابتداءً يولد في فراغ ذهني ثم يأخذ ذهنه بالتشكل بمقدار ما يتلقى من معانٍ وما يأتيه من إشارات لغوية عبر حافلة تسمى الألفاظ والألفاظ تنقل المعاني من الكبار العارفين إلى الصغار الذين سيصبحون عارفين وورثة للسابقين في شحن الألفاظ بالمعاني، غير أن المعاني أكثر من الألفاظ، ولذا يلزم أن يعني اللفظ أكثر من معنى (ابن سينا)، ويظل اللفظ قادراً على إسكان مزيد من المعاني وتخزينها فيه دون كلل ولا امتلاء، وكلما تعرض الذهن للغة أخرى غير لغته الأم تضاعفت معانيه بتضاعف ما يتلقاه من ألفاظ جديدة على ذهنه، وكل لفظ جديد سيتزاوج مع ما هو قار في الذهن.

وكلما تعددت معاني أي لفظ زاد شرف اللفظ الثري وتعدد حضوره في صيغ تتوالى مستضيفة له، وكما قال شاعر إنجليزي: ويلٌ لشاعر لا يجمع بين لفظين لم يجتمعا من قبل، فالجمع هنا مهارةٌ إبداعية، ولا يحجر الألفاظ سوى المعاجم التي تحدد أعداد المعاني ويأتي بعض أنصاف اللغويين ويجعلون مراصد المعاجم حجةً ضد أي لفظ يكتسب معنى لم يرد فيه من قبل، ويواجههم المبدع بتحدي قيودهم على الألفاظ في معركة معهودة على مر الثقافات كلها، وبالتالي فالإنسان نفسه مخزنٌ هائل للمفاهيم التي ستختلف حتماً بين إنسان وإنسان مما يشعل حرائق النقاشات، وفي المقابل يعمر شجرة اللغة ويمدد فروعها، ويحدث إشكال مفاهيمي من حيث إن الألفاظ ملوثةٌ بأنفاس الآخرين حسب تعبير رولان بارت، فالذين مروا من قبلنا وأورثونا لغتهم لتصبح لغتنا ما يزالون مختبئين في صيغ لغوية كانوا ورثوها ممن سبقهم، ومن هنا تختزن الكلمات أنفاس السابقين، وتظل في الوقت ذاته قادرةً على تخزين ما نصبه فيها، وهذا هو الثراء اللغوي لأي لغة بشرية بمقدار ما تتعاقب عليها الأجيال، فهي تتنامى تعبيراً ودلالات ومشاعرَ وتعدداً في الذهنيات، فتصبح اللغة بهذا قوةً معنوية هائلة تحتوي ناطقيها وتقيدهم، ولكنّ أفراداً يجنحون للتمرد على ذواكر اللغة ومحاولة صناعة أثر يخصهم ويتطبع بأنفاسهم، وهؤلاء هم الذين يثيرون دهشتنا بتعبيراتهم المختلفة أولاً والقادرة على لفت النظر مما يصنع الإبداعات الكبرى في معركة متصلة بين المشاكلة التي هي سمة المقلدين والمخالفة التي هي علامة المبدعين.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي، عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 21 أكتوبر 2023

في المثقف اليوم