اخترنا لكم

خالد الغنامي: صدمة "أويت" في الفلسفة الدينية

هناك العديد من القصص المثيرة القابعة في محيط تاريخ الفلسفة، والغوص إلى القاع واستخراج تلك اللؤلؤ يستحق التعب، لأن قصة حياة الفكر هي القصة الحقيقية، وما سواها هي قصص أكل وشرب. من القصص التي يمكن اعتبارها إرهاصات لزمن الحداثة وانهيار النظام الكهنوتي القديم والانقلاب الراديكالي في الحياة الأوروبية، ما حفظته كتب التاريخ عن بيير دانيال أُويت. كان فيلسوفا وكاهنا كاثوليكيا فرنسيا، ولد في 1630 في "كاين" بفرنسا، وتوفي في 1721 بباريس، مع أنه ارتبط بالإيمانية المناهضة للعقل وهي حركة فكرية ترى أن العقل والإيمان خصمان لا يلتقيان، وإن الوصول إلى الاعتقاد بالدين يجب أن يكون عبر شيء متجاوز للعقل يقوم على التسليم لا المُحاجّة. هذه الأطروحة الإيمانية ذات علاقة تاريخية ببعض أشكال البروتستانتية، بينما ترفضها الكنيسة الكاثوليكية باعتبارها كفرا وهرطقة.

عندما بلغ أُويت الأربعين قرّر أن يصبح راهبا وسرعان ما جرى قبوله وترقى في السلم الوظيفي الديني، إلا أن أبرشيته شكّت بأنه كان مشغولا عن رعايتها بكثرة القراءة، ومع ذلك، لم يلبث أن أصبح من ذوي الحظوة في زمن الملك لويس الرابع عشر، بسبب جهوده التاريخية والفلسفية.

في زمانه، كان يُنظر إليه كأحد أفضل من يقدّمون شخصية الشكوكي المؤمن، وتظهر إشارة إلى طبيعة شكوك أُويت وإيمانه في قصة أطروحة كتبها أحد اليسوعيين في "كاين"، حيث تبنّى هذا اليسوعي الأطروحة القائلة بأنه لا يوجد دليل على حقيقة المسيحية. وهذه القضية أثارت الناس، وطولب الأسقف أُويت بالتحقيق في القضية، فالتقى اليسوعي واتفق معه على كل شيء تقريبا، وأن المسيحية تقوم على الإيمان وحده، وبالتالي لا ينبغي أن نبحث عن دليل عقلي على وجود الله. أبلغ أُويت عن كل هذا بهدوء شديد وصرّح بموافقته على كل ما قيل. وفي ملاحظة له على باسكال، قرّر أُويت أن إيمانيات "الخواطر" عقلانية فقط بسبب حجة الرهان، وقرّر أن باسكال متعصّب، فالدين مسألة إيمان، لا أكثر.

أكثر أعمال أُويت تأثيرا هو "براهين إنجيلية"، وقد كتبه على الطريقة الهندسية، مقلدا سبينوزا في "الأخلاق"، وفيه تظهر بعض الإشارات إلى مواقفه الليبرالية والتجريبية حول الدين. كان عملا واسعا يُظهر الخصائص المشتركة للتقاليد اليهودية/المسيحية وعديد من الثقافات المختلفة، ويميل إلى إبراز أوجه التشابه كدليل مقنع على أن الوحي كان معروفا لجميع الثقافات، ولا يميل إلى ردّ هذا الشبه إلى التفسير الطبيعي الذي جاء فيما بعد.

وقرر أن الأنبياء معروفون في كل ديانة، قديمة وحديثة، وشدّدت كتاباته اللاهوتية على النظرية الإيمانية للمسيحية، وهي مسيحية تقوم على التشكيك في اليقين في كل مجال. بالنسبة إلى أُويت، لا يمكن أن يكون هناك يقين مطلق في علم الرياضيات ولا في اللاهوت، وفيما بعد، حاول تأسيس الحقيقة الدينية بشكل استقرائي من خلال دراسات الدين المقارنة التي بدأت في الظهور في أيامه.

في الأمور الدينية كان يميل إلى دعم الأنشطة الدينية الإنسانية، بغض النظر عن تفاصيل العقيدة. وسعى إلى إظهار العناصر المشتركة في جميع الأديان. ومن الجدير بالذكر أنه خلال كل من حياته السياسية والكنسية، بدا أنه الشخصية الفرنسية الرئيسية الوحيدة التي لم تشارك بأي نشاط في الاضطهاد الذي وقع على الكالفينية، على الرغم من قربه من الملك لويس الرابع عشر، بل وساعد أعدادا غفيرة من البروتستانت على تجنب العقاب. ويبدو أيضا أنه كان محبوبا عند اليهود، وكان منفتحا على النقاش مع الحاخامات والكهنة والقساوسة والناس العاديين. هنا اختلف عن أعظم الشكوكيين المؤمنين في تلك الفترة، بيير بايل، الذي كان عاش مقاتلا طوال حياته. بينما كانت مساهمة أُويت الكنسية الرئيسية، مع صديقه لايبنتز، هي السعي لإعادة توحيد جميع الكنائس وإزالة نقاط الخلاف من جوهر المسيحية.

ما حدث بعد وفاته كان صدمة كبيرة، وإن كانت نزعته البيرونية المسيحية قد تجلّت في فترة مبكرة، واستياء معاصري أُويت منه كان موجودا، ومنهم من رأى فيه تهديدا خطيرا للكنيسة، وحاول بعض خصومه في السوربون وفي البلاط منع طباعة أعماله اللاهوتية.

غير أن الصدمة لم تحدث إلا بعد نشر أشهر أعماله "رسالة فلسفية عن ضعف النفس البشرية" بعد وفاته، وفيه تقدّم مسيحيته البيرونية في أوضح صورها، وقوبل هذا الكتاب باستنكار هائل. أصر أصدقاؤه اليسوعيون على أن النص مزوّر لتشويه سمعة الكاثوليكية، وهاجموا واستنكروا الفلسفة واللاهوت المتضمّنين فيه، خصوصا أنه عانى لفترة طويلة من ضعف الذاكرة والعجز عن التركيز. ولم يكن لدى أولئك الذين كانوا يعتنون به طوال العشرين عاما الأخيرة من حياته أي فكرة عن إمكان كتابته لمثل هذا العمل. إلا أن دعوى التزوير لم تقف على رجلين، لأن العديد من العلماء قد شهدوا بأنهم رأوا مخطوطة الكتاب مرّات عديدة في يده لمدة تقارب الثلاثين سنة، فقد كتبه سنة 1690 ولم ينشر إلا في سنة 1723 بعد موته.

في رسالته الفلسفية، شرح الموقف البيروني كما هو في نصوص سيكستوس أمبريكوس، وأبرز نقاطه المركزية بطريقة واضحة للغاية، ثم جمع الانتقادات الم.فصلة في العصور القديمة والحديثة، وفنّد كل تلك الانتقادات، وأوضح أن الشكوكية نجحت في هدم الدوغمائيات الجديدة، مثل دوغمائية ديكارت، كما نجحت في هدم الدوغمائيات القديمة. وأوصى بتقدير الشك الحميد في العصور القديمة، باعتباره الفلسفة الدائمة التي مُنحت كنعمة للبشرية. الشك عند أُويت، هو الحكمة القديمة التي ظهرت في الشخصيات التوراتية، وفي المفكرين اليونانيين القدماء، وفي قادة الفلاسفة واللاهوتيين في العصور الوسطى، من مثل أبي الوليد ابن رشد وابن ميمون وتوما الإكويني، وكان يرى هذه المنحة في زمانه لدى كبار المفكرين من مثل مونتين وشارون وغاسندي وغيرهم، وخلُص إلى الشك في قدرة البشر على المعرفة الحقيقية للعالم الحقيقي.

لقد رأى العلم التجريبي الذي مثله خير تمثيل "المجتمع الملكي" في بريطانيا باعتباره الموقف المناسب للشكوكي، مع الإبقاء على الإيمان. الوسيلة الوحيدة لاكتشاف شيء عن الله أو الطبيعة أو الإنسان ليست نظرة ديكارت المتعجرفة الأمية المنتحلة، بل كانت فلسفة المجتمع الملكي، التي وجدها الأقرب إلى نفسه. ولم يشعر أُويت بأن عليه أن يدافع عن أفكار الشكوكيين وأفعالهم، لأنه يفرّق بين التفلسف والمعيش، وهو قد عاش مثل أي شخص آخر، وفقا للفهم المشترك والآراء العادية، لكنه لم يعش دوغمائيا.

***

خالد الغنامي

عن المجلة السعودية، يوم: 04 أكتوبر 2023

في المثقف اليوم