اخترنا لكم

عبد الله الغذامي: شجاعة اللغة العربية وجبن حراسها

تحدث ابن جني عن شجاعة العربية ووصف بعض سمات التصريف الأسلوبي فيها ومثّل له بقوله «اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف»، وما هو أهم من أمثلة ابن جني التي ليست أمثلةً حصريةً هي فكرته عن شجاعة اللغة العربية وسر ذلك يأتي من مهارات لغتنا في تصريف الكلام وتحويله بين أساليب تعبيرية لا تقف عند حد، وهذا هو سر العربية ومتى ما سلبنا عنها سرها فستفقد شجاعتها، وهذا الذي يفعله حراس اللغة من أنصاف النحويين وأنصاف اللغويين الذين ابتكروا قاعدة «قلْ ولا تقلْ» ونصبوا أنفسهم على أبواب الألسنة ليتحكموا بها وبذهنيات الإبداع والإنشاء فيشترطوا لصحة أي تعبير أن يكون قد قيل قبلنا بلسان شخص ما، وشرطُه وتأهيله الوحيد أن يكون ذاك الشخص المرجعي قد مات قبلنا بقرون!

ولهذا شاع في ثقافتنا سؤال غبي فرضته عقلية حراس اللغة، وهو سؤال يتجه دوماً ضد أي تعبير جديد بأن نسأل: هل هو قول فصيح؟ ومعنى فصيح هنا هو: هل ورد هذا التعبير عند سلفنا أم لا، فإن تبرع أحد النحاة وقال إن بيتاً ما ورد عن أعرابي مر في سوق المربد في البصرة قبل خمسة عشر قرناً وترنم ببيت من الرجز قال فيه تلك الكلمة فهنا ستسجل العبارة فصيحةً! أما إن جاء طه حسين مثلاً وكتب في كتابه «الأيام» صيغاً لغويةً مستجدة ومن مبتكرات مهارة طه اللغوية والذهنية فسينبري له نحوي تعيس ويصدر كتاباً يكشف فيه مئتي خطأ لغوي وأسلوبي على طه حسين في كتاب «الأيام».

وكذلك مرت فترة كانت إحدى الإذاعات العربية تذيع حلقات أسبوعية بعنوان «قل ولا تقل»، لم يترك فيها مقدم البرنامج تعبيراً صحفياً أو تعبيراً حديثاً إلا وقاسه على مقاييس أقوام ماتوا قبلنا بقرون ولم يروا ما رأينا ولم يعيشوا زمننا، ولكنّ البرنامج الإذاعي اشترط لبلاغتنا الحديثة أن تعيش زمناً مضى وتتلبّس بثوب وذهنية ذاك الماضي، فإن لم نفعل فسنكون غير فصحاء وربما غير عرب وإنما مستعربة، ثم شاعت هذه الفتنة الثقافية في الصحف وأفرد لها باب تحت هذا العنوان «قل ولا تقل» ترصد مجاميعَ من الصيغ والأسلوبيات الحديثة لتصفها بعدم الفصاحة وتقترح غيرها بدائل لها، وهذا إرث ثقافي توارثه تلامذة صنعوا سياجاً سلطوياً يلاحقون به الألسنة كي يحبسها في ثلاجات الموتى. وويحك يا ابن جني إذ تظن بنا شجاعة كشجاعة لغتنا ونحن هنا جبناء أمام كلماتنا نتوسل لأنفسنا عذراً من نحوي شبه جاهل كي يأذن لكلماتنا بأن تمر دون شطبة قلم تعيد نسخ كلماتنا وفق علمه المحدود بمحفوظاته من الألفية النحوية ومن شواهد النحاة التي كان كثير منها مزوراً ليكون على قياس دعاويهم النحوية.

وتلك حال لغتنا العربية ما بين شجاعتها وجبن حراسها.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 27 يناير 2024

في المثقف اليوم