الرئيسية

(تشهّي الخراب... العظـيم !).. تحليل رواية (التشهي) للمبدعة (عالية ممدوح) (ق4)

ومن الانتباهات الشديدة الحساسية التي تجسدها الروائية من خلال عرض وجهات نظر شخصياتها و"أصواتها" وسلوكياتها وصراعاتها هي تلك الإضاءات الحساسة التي قدمتها عن نواح حاسمة من سمات شخصية الفرد العراقي. ومن المفروغ منه أن نقول أن ليس من واجب الروائي أن يكون محللا نفسيا أو منظّرا اجتماعيا، ولا أن يكون مؤرخا كما سنناقش ذلك لاحقا، لكنه يتعامل مع " نفوس " لها طموحاتها وخيباتها وغرائزها ورغباتها، وفي مسار كشفه لتلك الغرائز والرغبات، وعرضه لأبعاد تلك الطموحات والخيبات ولنتائج الصراعات الملتهبة بين بعضها البعض، فإنه سيكون محللا نفسيا " جماليا " إذا جاز التعبير. وليس عبثا أن النتاجات الإبداعية وخصوصا الروائية منها هي مصدر من مصادر دراسة الشخصية القومية لأي شعب. تقول كيتا:

(.. في إحدى الندوات الحزبية في صوفيا وقتذاك، كل شيوعي عراقي قابلته كان يريد أن يحتل موقع الداعية، الأستاذ والمناضل المبجّل والوطني الذي على الجميع، رفاقا ومناضلين وأخيارا ومن جميع الجنسيات، توفير النفوذ والوجاهة والمال وتنظيف الآيديولوجية مما أصابها من ترهّل وتخشّب – ص 58). وكيتا – ومن ورائها الكاتبة طبعا – تشخص سمة متأصلة في الشخصية العراقية وتتمثل في أن الفرد العراقي ليس حيوانا ناطقا واجتماعيا حسب، بل حيوانا سياسيا والوصف أصلا للمعلم الأول أرسطو. إن هذا الإنشغال السياسي المبكر يحيلنا إلى ما "اكتشفته" كباحث في أسطورة الطوفان العراقية القديمة التي هي من أغرب أساطير الشعوب القديمة عن الطوفان. ففي كل الأساطير القديمة التي راجعتها لأغلب الشعوب – وحتى في الكتب المقدسة الثلاثة – فإن الله يغضب على البشر ويقرّر محقهم بالطوفان لأنهم انغمسوا في الشرور ونسوا طريق السماء وخصوصا الإنغماس في المحارم. إلا في بابل وسومر حيث يغرق الإله الأعظم العراقيين لأنه يريد أن ينام وهم يتناقشون و (يلغون) بأصوات تصل من الأرض إلى السماء فتقض مضجع الإله !! طبعا هذه تورية عظيمة عن جسامة هموم أرض الرافدين التي يعاني منها سكان هذه البلاد والتي ينشغلون حدّ الإفراط في مناقشتها وتداولها حتى أنهم يهملون شروط احترام الآلهة وتحذيراتها المرعبة. وكيتا تضيف إلى ذلك هذا الشعور المتأصل بـ " الوجاهة " والمسؤولية المضخمة في سلوك العراقي الذي يشتغل على السياسة. ولكي لا ننساق كثيرا في طريق النرجسية المفرطة يمكن لناقد آخر أن يقلب ما تقوله كيتا على وجه سلبي سافر ومناقض يتمثل في وصف الشاعر علي الشرقي: قومي رؤوس كلهم.. أرأيت مزرعة البصل !!.

 

- السمة السادومازوخية:

إن كون فئة من البشر تقوم بتحطيم ذاتها بصورة لاواعية في كثير من الأحوال هو أمر لا جدال فيه من ناحية أطروحات علم النفس في الوقت الحاضر. ففي النفس البشرية غريزة للموت تقابل غريزة الحياة، وغريزة الموت هذه يمكن أن توجه نحو الخارج في صورة عدوان على الآخرين أو على الممتلكات (نزعات سادية)، أو أنها تتجه نحو الداخل وترتد نحو ذات الفرد لتصبح هدفها (نزعات مازوخية). هذا ما عبر عنه يوسف وهو يخاطب سرمد:

(أظن أن لدى العراقي غددا قادرة على تخصيب الهلاك والخراب – ص 236)

ولعل الأنموذج الأكمل للحالة السادية التي بلغت مستويات وحشية لا محل فيها لأدنى رحمة هو مهند. فلم تقف نزعات مهند العدوانية عند حدود العمل الإستخباري والاغتيالات والتصفيات الجسدية التي كان يقوم بها وملاحقة الخصوم السياسيين بلا هوادة حسب بل تعدتها إلى أقرب الناس إليه وهما أخيه سرمد وحبيبته " ألف ". لقد حطّم حياة أخيه تماما، فقد أبعده عن العراق إلى أوروبا، وكان يراقب كل تصرفاته ويصوّرها ويسجلها. وقد أبعد سرمد من أجل أن يستولي على حبيبته ألف. وقد حصل عليها فعلا وتزوجها بعد أن لاحقها طويلا – هو وأفراد حمايته -. وعندما " هرب " سرمد متخليا عنها، أظهرت رفضا ومقاومة لمهند. لكنه جرّدها من كل سند وهشم إرادتها على المواجهة حيث صفّى عائلتها كلّها. فقد قام بقتل أبيها الجرّاح المعروف " رياض العزاوي " ورماه في أحدى السواقي، وقد ترتب على ذلك إصابة أمها بالشلل. اختفى أخوها سيف.. ثم اختفى ولداها.. وكل ذلك بترتيب وحشي من مهند. والأدهى من كل ذلك هو أنه، وبعد أن أكره ألف على الزواج منه، كان يعرف تماما أن مشاعرها مع سرمد وليست معه. وفوق ذلك كان يعرف أن ألف تسجل رسائل صوتية عن فعلهما الحميم وترسلها إلى سرمد في لندن !!. لقد بدأ الخلاف بين الشقيقين كشكل من أشكال الصراع القابيلي (نسبة إلى قابيل، وبالمناسبة فإن جريمة قابيل كانت بدافع محارمي لتعلقه بأخته الأجمل " أقليما " ورفضه زواجها من شقيقهما هابيل، أي أن أول جريمة في الخليقة كانت محارمية). لكن الأمر انقلب ليصبح ممتزجا بمازوخية عالية حيث كان مهند يعرف حتى المضاجعة التي حصلت بين ألف – زوجته – وسرمد أخيه خلال زيارتها للندن !!.

أما أنموذج المازوخية الحي فهو سرمد. فحين قال له سرمد غادر العراق غادره ببساطة متخليا له عن حبيبته. ولا نعلم متى يقدم العاشق على التضحية في سبيل حبيبته؟؟ وهل من الرجولة واشتراطات الحب أن يتخلى كل عاشق عن حبيبته – ثم وطنه - لمجرد أن شخصا أقوى منه وقادر على تصفيته أمره بالمغادرة؟؟ هل سيبقى حب وأوطان في حياتنا بعد الآن؟؟.

وهنا يظهر البعد الرمزي لألف والذي أفترض أنها تمثل المدينة الأم، البلاد الأصل التي تركها عشاقها لمجرد أن سلطة طاغية وباطشة أمرتهم بالمغادرة. هربوا وتركوا حبيبتهم يتلاعب بها مهند الطاغية كيف يشاء. يقول سرمد:

(في ذلك الوقت قال لي مهند:

" هيّا يا سرمد غادر، فغادرت "

الغدر والمغادرة. اجتزت النظر والبصر والصوت والعلوم الطبيعية واللغة الانكليزية وأرقام الهاتف الدولي التي كنت أتصل بها يوميا بـ " ألف "، ولا أحد يردّ علي في دارها فجميع الخطوط كانت دوما تحت المراقبة وجميع الأصوات أيضا – ص 214).

وهذه الأنثى الرمز / المدينة الأم هي التي تسأل عن أبنائها " الغادرين ".. لقد أطلقت على رحلة سرمد التي بدأت بالمغرب والتي لم يعد منها حتى اليوم: رحلة التخلّي والخيانة – ص 228. ورغم ذلك تحملت المخاطر من أجل تأمين الاتصال بأبنائها "الخائنين".. فقد باغتت ألف مهندا بعد زواجهما وذهبت إلى بيت أهله في الوزيرية لتتصل بسرمد حيث لا يخطر ببال مهند أنها ستفعل ذلك من بيت أهله. كانت تسخر بالهاتف قائلة:

(سرمد هل لازلت يساريا لو تحب أقول لك ماركسيا. اليوم هذا الأمر صار كالعاهة التي لا شفاء منها – ص 214).

تثير عالية ممدوح تساؤلات مأزقية لا يمكن السكوت عنها: أليس الواجب هو أن يقف المناضل ضد الطغاة والطغيان؟؟ أم أنه يفر من أمامهم عندما تتوفر أول فرصة للنجاة تاركا مشروعه / حبيبته / مدينته / قضيته تحت رحمة سياط القتلة واللصوص؟؟

إن نوعا من استمراء الخيانة كان يجري حتى في خيالات سرمد وهو في لندن بعيدا عن ألف.. نوع من الاستدعاء التبصصي الممزوج بروح "القيادة" السافرة حيث لا تتورع المخيلة عن استدعاء أعتى صور انذلال المحبوب:

(كان شباب ألف أمامي.. تنورتها عادية لكنها فوق الركبتين بقليل وساقاها منجزان بصورة مثلى.. تحت بلوزتها كان النهدان واضحين منفصلين واقفين ومعذبين بالشهوة... كنت أشتهيها وأحب شهوتي لها.. وفيما بعد أدركت شهوة مهند لـ " ألف ". أتخيلهما وهو ينزعها جمالة الصدر فأراهما تماما أمامي. يشعران بشيء من الذنب. مذنبان هما، أعني النهدين.. – ص 21.).

إن التشهي هو العامل الخرابي الأساس في شخصيات الرواية: تشهي السلطة والغدر والمال والخسة والعدوان والنذالة ممثلا بمهند وأبي مكسيم، تشهي الجنس والملذات ممثلا بسرمد، تشهّي العذاب والصمود والمثابرة ممثلا بألف، تشهي الإختفاء ممثلا بيوسف، في حين أن التشهي الصحي، رغم تطرفه، كانت تمثله ألف، وعبرت عنه حين قالت لسرمد بأن مهند – كمتشهٍ عصابي – يبحث عبثا عنه في ثيابها وعروق يديها.. وأنه – أي سرمد – لن يعثر هو ذاته عيه فيها.. لأنها ابتلعته وفرمته وبدأت تتناوله خارج الوجبات – ص 2.2.

 

- سمة التضاد الوجداني:

ولعل من التعبيرات المثلى التي تعكس جانبا مهما من التركيبة المتضادة – ambivalent في شخصية الفرد العراقي، وليست الازدواجية حسب وصف العلامة الراحل علي الوردي، هو ما قالته ألف لسرمد في أحد أشرطة التسجيل التي أرسلتها إليه بعد رحيله مباشرة:

(أنا أحب البنزين، ألا تذكر ذلك؟ قلت لك هذا ونحن نمشي فوق الجسر الحديدي في طريقنا إلى النهر: نحن شخصيات معمّدة بالنفط والنار والماء والأحقاد والعهود القديمة والأضداد العجيبة. نصير في بعض الأحيان مصدر خزي وأحيانا مبعث عظمة وهكذا ترى أن الوثوق بنا شحيح وبشكل عام نبعث على الضحك والرثاء – ص 2.9و21.)

ولعل هذا التشخيص ينطبق على سرمد بدرجة أكبر، فألف لم تكن تخاف مهند أبدا، ولا تتردد أمامه حتى أنه هو نفسه أعلن لها هذه الحقيقة قائلا: أنت لا تخافين ولا تخشينني. في الوقت الذي فرّ فيه سرمد من أمام أخيه الطاغية بعد أول تحذير. وفوق ذلك فقد كانت ألف – ورغم الرقابة المكثفة التي فرضها مهند عليها – تعلن لمهند عن أملها في أن سرمد سيعود. كان سرمد بالنسبة لها " منتظرا " منقذا سيأتي ليحقق لها الخلاص. وسرمد منشغل بعشيقاته.. ومدمن على مشاهدة الأفلام الإباحية. وفي الوقت نفسه هو يدين الشيوعيين الذين تخلوا عن تجربتهم وينتقدهم.. خلطة عجيبة تنطبق عليها عبارة ألف التشخيصية السابقة.

- التشهي في شخصية الفرد العراقي:

إن كل سلوك الشخوص العراقيين في الرواية، وهي لمحة نفسية تحليلية شديدة الرهافة من الكاتبة – وقد ذكرت سابقا أن ليس عبثا أن معلم فيينا كان يقول أن الأدباء هم أساتذتي في دراسة النفس البشرية - لا يجري وفق " متصل - continuum " كما يوصف في علم السلوك البشري حيث يمتد السلوك من الإيجابية التامة إلى السلبية الكاملة عبر تدرّجات شديدة التنوع، بل يتنقل بين قطبين هما: أما سلبي تماما، أو إيجابي تماما، على نقطتين متطرفتين شديدتي التناقض، أما أن يغلي السلوك في درجة المائة مئوية أو ينجمد ويهمد عند درجة الصفر المئوية !! كل الشخصيات العراقية لا تعرف حدا وسطا أبدا. يقول سرمد لكيتا: (عندنا في العراق طريقة طريفة للملاطفة غير جميع ما سمعت. ترى هؤلاء جميعا يستلطفونك ولكن بالطريقة العراقية، فنحن حين نحب نكسر العظم وحين نبغض نكسر الرقبة. دعينا من هذا الحب القاتل، أنا سأقول لك شيئا آخر، حين نعجب بإحدى الفتيات نطلق عليها اسم أكلة يحبها الصغار والكبار: كيكة، كل شيء نرغبه ندونه في خانات الأكل. أنت كيكة يا كيتا – ص 51).

- ارتباط التشهّي بالخيانة:

 يشير سرمد إلى مقتل الدكتور رياض العزاوي – أبي ألف – فيقول: (اختفى الجراح ووجد بعد أسابيع مشروطا بمشرطه من الرأس إلى أخمص القدمين ومرميا في إحدى ضفاف قناة الجيش – ص 227). لكن الأخطر والأشد ارتباطا بنا، هو الشيء التاريخي الذي غُيّب غيابا مديدا ومتطاولا، هو أن الحركة الرضوخية والانهزامية المفتاحية التي اقترفها سرمد بخضوعه لأمر مهند بأن يغادر بغداد إلى المغرب - وهي مغادرة تذكرنا بمغادرة أخرى قريبة فتحت أبواب الخراب - وهو يقول له مطمئنا:"عليك أن تؤمن بي"، هي باب الخراب الذي انفتح على مصراعيه فاكتسح البلاد ودمر العباد، أحرق الزرع، وجفف الضرع، ولن تفيدنا الصحوة المتأخرة وهي صحوتنا بعد أن هزت وعينا المُغيّب دراما الخراب الساحقة التي تلت ذاك التصرف المهادن الذي اقترفناه من خلال سرمد وهنا يتجلى جانب خطير آخر من جوانب هذه الرواية التي كما قلت تجعلنا نحيل ما هو إفراز للمخيال الروائي إلى تصور واقعي احتفظت به ذاكرتنا:

(صعب اليوم قول هذا. أشعر بالخزي الفسلجي الذي يجعل لساني مربوطا بالدم والجثث وأنا أتصور أن هذا كان مجرد البداية لما حصل لـ " ألف " وفيما بعد لأفراد أسرتها. سيف، شقيقها اختفى هو الآخر ولكن لم يعثر على جثته لليوم، والدتها المهندسة المعمارية المرموقة أصيبت بفالج أقعدها، ربما لليوم فأنا لا أعرف جميع ما حدث لي ولها ولنا جميعا – ص 227).

لكننا في الواقع نعرف تماما ما حصل لنا جميعا، كنا نخفيه وننكره، كان مفتاح خراب حياتنا تشهي الإخفاء والإنكار، ولكن عالية ممدوح هي التي فجّرت القوقعة المهادنة التي كانت تخنق المسكوت عنه وتكتم أنفاسه وتعيقه عن الإفصاح.

 

- بعض السمات الأسلوبية:

- استثمار طاقة المفردات العامية:

تدرك الكاتبة أن هناك مواضع تكون فيها المفردة العامية أكثر طاقة من المفردة الفصيحة في التعبير عن الاحتدام النفسي المرافق لاستدعاء الذكريات الملتهبة أو وصف المواقف المزحومة بالانفعال. لم تلجأ إلى الإفراط في استخدام اللغة العامية التي لا تصلح أبدا لكتابة نص سردي كامل ومقتدر. وقد جرب بعض الروائيين العرب (أولهم لويس عوض في روايته " مذكرات طالب بعثة ") كتابة رواية كاملة بالعامية ولم يحققوا التأثير المرتجى. تبقى اللغة الفصحى الأم هي اللغة القادرة على التعبير الجمالي والسردي المناسب، لكن هناك – كما قلنا – حالات يشعر فيها المبدع أن المفردة العامية " تبرز " تلقائيا لتقدم نفسها بديلا جاهزا، متلأليء الطاقة التعبيرية عن ما يجيش في نفس الكاتب خصوصا حين يكون الفعل السردي متمحورا حول استدعاء ذكريات مرتبطة بالمكان الأم، أو بذكريات الطفولة أو بالتعبيرات البذيئة. ومن المهم الانتباه إلى واحدة من الأطروحات المهمة للتحليل النفسي حول مآل الصدمة الإدهاشية التي ترتبط بامتلاك الطفل للغة أول مرة. ففي تلك المرحلة المبكرة يشعر الطفل فعليا بنوع من القدرة الكلية – omnipotence، حيث يقول للشيء " كن فيكون "، وتحضر الأم بشخصها وتستجيب لحاجاته بكلمة وبلا صراخ او بكاء.. إنه يبدأ بـ " تسمية " الأشياء، وحين تُسمّى الأشياء فإنها تبدأ بأن " تنوجد " و " تحضر " في محيطه وبين يديه.. " تُخلق ". ولكن مع التقدم في العمر تتبلد المفردات وتصدأ بفعل الرتابة في الاستخدام والتعوّد البارد على المعاني المكررة. هنا يأتي الشعر ليفرك الصدأ عن وجوه المفردات ويفجر طاقاتها التعبيرية.. ثم تأتي عبارات التجديف والشتائم والأوصاف البذيئة لتحمل وجها استعماليا أخّاذا رغم إنكارنا الظاهري لذلك، ورغم أن في الفصحى طاقة كبيرة على التعبير عن ذلك إلا أن اللغة العامية لا تقل عن ذلك إن لم تفقها أحيانا:

- (.. أنت يا سرمد برهان الدين العادي العجول المذعن... أحاول أن أرفع ما بقي من قضيبي فأبدأ بالتبوّل عليّ وعلى من خلّفني وأخاطبه بصعوبة كنت أظن أنه يفهم جميع ما حاولت القيام به من استحكامات وخنادق وساحات قتال واندحارات وانتصارات..وها أنا أتأكد أن العمل به قد انتهى، بدا رخيصا وبشعا... وأنا أتأرجح ابتداء من أصوات صواريخ عابرات الأعضاء والنهود والفروج والآلات. الأصوات لا تتباطأ ولا تضطر للتوقف، وهنا لا شيء يخصني فأنا لا أقوى حتى على مسك صاحبي بيدي – ص 217و218).

- (باريس، الجميع يردّد وهو يطأها: أحبك يا ابنة القحبة – ص 218)

- (أطلقتُ ضحكة فاجرة وأنا أردد أمام المرآة: نيسان (أخرى) الشهور والفصول والأعوام – ص 28).

- (وقتها ترجمت هذه السطور للشاعر لورانس راب. لكني وأنا أعيد تلاوتها بدأت بتقطيع الأوراق المترجمة والتغوّط عليها – ص 95).

في موقف آخر " تعشّق " الكاتبة اللغة، تشحنها بالطاقة الحسّية التي منها خُلقت أصلا وهذا يلغي كل نظريات نشوء اللغة، وأهمها نظرية البنيويين في أن العقل سجين اللغة التي أضاف إليها ميشيل فوكو " غطّة " ختامية فجعل العقل البشري سجينا للكلمة المفردة في كتابه: " الكلمات والأشياء " والإنسان اختراع حديث اكتشف منذ مائتي سنة وسيختفي قريبا. اللغة مطية اللاشعور.. هو الذي خلقها ومنحها أصواتها وطاقاتها التعبيرية وها هو يتلاعب بها عبر توهجاته الشعرية.. وهذا ما تجسده الكاتبة التي تحاول خلق لغة موازية: (رفعت كيتا رأسها وابتسمت.. كنت أشاهد في تلك الابتسامة مبيضها ومهبلها وبالحجم المكبّر. شاهدتها وأنا أخترقها على السرير.. كانت بين ذراعي وهذه الضحكة كانت تصلني كهديل "الفختاية" فوق تيغة حوشنا بالوزيرية – ص 51).

ولا أعتقد أن مفردة تحمل من الدلالة البليغة على الظلام الدامس مثل مفردة " هندس " العامية العراقية. و " هندس " هو اسم الوكالة المصرفية التي افتتحها مهند في بيروت وتخصصت بالصفقات المشبوهة وغسيل الأموال. وكان أبو العز يعتقد أن هذه المفردة مشكلة من حروف اسمي الأخوين مهند وسرمد، لكنه حين سأل سرمد عن معنى هندس بالضبط أجابه الأخير: بالعراقية المحلّية تعني الظلام الدامس – ص 237).

ثم يأتي استخدام عامي يقطّع القلب، استخدام باهر يعكس الإنجراح العميق الذي خلّفه حب سرمد لألف في روح الأول.. استخدام يكشف التعلق الفريد الذي يعتصر الروح فينضح هذا الاعتصار دموعا تبقى معلقة " حدر الجفن ".. يذكرني هذا الوصف بقصيدة المبدع الكبير " مظفر النواب " " مرخوص بس كت الدمع حدّ الجفن ". يقول سرمد:

(من الجائز، أن اسم " ألف " هو نوع من الترانيم السومرية والأناشيد. أنا شئت ونفذت ما أشاء في مخاطبتها هكذا، أن تكون كذلك، فاحتشدت عيناي بدموع ما كانت ترى بالعين، لكن بمقدور بعض البشر مشاهدتها والإمساك بها وتعداد قطراتها ومسحها بمنديل حريري نظيف. بقيت دموعي معلقة " حدر " الجفن لا تنزل ولا تبقى في المآقي – ص 191).

 

- السمة التحرّشية:

وترتبط بمحاولة إعادة النصاعة الأخاذة إلى وجه المفردة الكئيب المتبلّد، التعبيرات التي ترتبط بالروح التحرّشية بما هو جمعي مؤسس وراسخ في الوجدان وخصوصا ما هو مرتبط بالجوانب الدينية والروحية التي أصبحت تابوات مخيفة ورادعة في البناء اللاواعي لنفس المتلقي. وكنت أعجب من قول بعض المبدعين – ومنهم الراحل البياتي – إن للمبدع دور النبوة !! في حين أن الحياة ليست بحاجة إلى أنبياء بل إلى شياطين. فألق الحياة البشرية وبهاؤها مرتبط بالجانب الشيطاني السرّاني في النفس البشرية المستند إلى التفاعل الخلّاق بين غريزتي الجنس والعدوان، والمنطلق من لحظة العصيان الإبليسية. وهذا هو المبدأ الأكثر فاعلية في العملية الإبداعية خصوصا. يقول " أندريه جيد ":

(المشاعر السامية تأتي بالأدب الرديء، لا وجود لأثر فنّي دون مشاركة الشيطان فيه، أجل كل أثر فني إنما هو بؤرة احتكاك، أو هو، إذا أردتم، خاتم زواج يربط الأجزاء العليا بالأجواء السفلى. ومما يقوله " وليم بلاك ": إن السبب في كون " ملتون " يصف الله والملائكة وهو في حالة ضيق، وفي أجواء الحرية يصوّر الأبالسة والجحيم، هو أنه كان شاعرا حقيقيا، ومن حزب الشيطان دون أن يدري.. تذكّروا الكلمة التي قالها " لاكوردير " حين كان الناس يهنئونه بالخطبة الرائعة التي فرغ لتوّه من إلقائها: " لقد سبقكم الشيطان إلى ذلك ".. وما كان الشيطان ليقرّ له بجمال الخطبة لو لم يكن مشاركا فيها بنفسه) (5)

وأندريه جيد نفسه يلخّص هذه الرؤية بمعادلة تقول: " لا فن مع القديسين.. ولا قداسة مع الفنانين "، معبّرا بذلك عن أن الإبداع بأكمله هو عمل شيطاني يحاول المبدع من خلاله التحرّش بما هو مؤسس ومتفق عليه وتابوي حاكم. ومن دون هذه الروح يأتي الإبداع بهتا مكرورا ووعظيا. وفي بطانة هذا الموقف تكمن حفزات الدفاع ضد إرادة الآلهة في رسم المسافة المخيفة بين الأرض والسماء، والإنسان والله ممثلة في الخلود الذي احتكرته لنفسها ويحاول المبدع مستميتا الحصول عليه. وإذ يفشل كما هو متوقع حتما فإن واحدة من أهم سبل التقرّب هي التحرّش بما عدّه المجتمع البشري المحيط بالمبدع، وعبر قرون من التعوّد الذي يميت الحس المتوهج، ويلجم إرادة الانطلاق، حراما تخلق محاولات خرقه رهبة مُعوِّقة وشعورا شديدا بالإثم في النفوس العادية.

وقد يأتي هذا التحرّش من خلال استعارة أوصاف وتعبيرات لها طابع القداسة، والهبوط بها من عليائها إلى أرض المدنّس كما هو الحال حينما يتحدّث سرمد عن عدم استجابة قضيبه لنداءاته الجزعة:

(اعتقدت أنه سمعني وأنا أنادي على ألف فهو شديد الغيرة، لكني بقيت أناديه بأسماء محسنة منتظمة الإيقاع مثل الصخّاب الرفّاص الدقّاق المتلاف المغوار الخريان. فأشعر أن جميع الأسماء والنعوت دون مستوى نواياي وبصيرتي – ص 28).

أو أنه يأخذ مسارا معاكسا وذلك من خلال الصعود بما هو أرضي مدنّس إلى سماوات القداسة القصيّة حيث تضفى على الفعل اليومي المبتذل صفات مباركة لها مسحتها المتعالية. من مثل ذلك وصف سرمد للطريقة التي تحاول بها عشيقته المغربية " البيضاوية " استنهاض قضيبه وتهييجه بضراوة بلا جدوى:

(.. أنا ممدّد على ظهري فاتحا ساقي إلى آخرهما... ولمّا لم يتحرك قط ما بين صوتها وحركات يديها الإلهية بدأت تردد بصوت ضعيف: " أظن ما هو إلا حادث عرضي ولن يدوم طويلا " – ص 24).

ولعل من نتائج هذه الحضارة الوحشية هو أنها قد غرّبتنا عن أجسامنا وأفعالنا الطبيعية حتى صرنا نحسبها شيئا دخيلا علينا، بل مستهجنا. لقد كان الإنسان القديم أفضل حالا منا في تعايشه المطمئن مع جسده وفي إلفته المستريحة للأفعال الحيوية المعبرة عن حاجاته البيولوجية. لم يكن يرى فيها شيئا مستكرها أبدا، بل فعاليات لها كرامتها مهما كانت طبيعتها. كان القضيب نفسه والفرج الأنثوي يحتلان مكانة سماوية شديدة المهابة. ففي فصل الجفاف يتجّـول الراقصون من هنود الأمازون – على سبيل المثال لا الحصر - وهم يرقصون حول قريتهم بقضبان (أعضاء تذكير) طويلة وفي لحظة معينة ينفصلون ويقفز كلٌّ من جانبه وهو يزمجـر مع حركات عنيفـة من الجماع. يداعبـون بأيديهـم اليمنــى أعضــائهــم التناسليـة، وعندمـا يتـدفق المني ينشرونـه فـي كل الاتجاهات وهـم يلوحـون بأيديهـم الممتـدة ويعملون حركـات عنيفـة في الهواء. ومن السهل تصنيف هذا الاستمناء على أنّه وسـواس طقوس وشعائر بدائية. لكن يمكن التأويل بأنّ الأمر على العكس من ذلك. فالخاصية القضيـبّية للإلـه التي تعبّـر عنـه لن تنفى في الحفلات الأكثر طهارة من حيث ظاهرهـا. حتى أن إسم الآلهة غالبـاً ما يكون ثراً بالمعلومات. وسـواء أكـان ذلــك هـرمس أو باخـوس هو الذي يُعبـد.. وسابـازيوس وليبر أو يهوه، فأنه دائماً القضيب السماوي المشخّص. وقـد أوضح (جون أليغرو) بشكل جيّـد أن الجذور السومـرّيـة لباخوس ولهرمس أو سابازيـوس كـان لها جميعـاً معنى (القضيب المنتصب) وأحياناً معـنى (القضيب السماوي المشيّد). ونشيد القضيب الذي أعطانا (أريستوفان) مثــــــلاً عنـــه كــان يسمــى ديـتـــــامـــب -Un Dithyrambe مــــن الســـومـريــة (DE – DI – DUL – AN – Bi – Us) الذي يعنــي (نشيد مـن أجل إنعاظ القضيب). وفي العبريـة كانت للكلمـة التي تــدل علـى على انتحابات النسـوة معنـى (المقوّم ــ redresseur) وأن الإسـم السومـري للمنشـد يعنـي (منشّـط القضيـب). وأسطورة أوزيريس والممارسات الجنائزية تصادق أيضاً بكل وضوح على التضامن الغيبي بيـن الانتصــاب والبعث وحتى أنهـــا جعـلت مـن الانتصــاب شرطــــاً كافيــاً للبعث... لقـد أعادت أيزيـس جمع أشلاء زوجها أوزيريس عدا قضيبه.. وطالما أن الربة السـاحرة لم تجـده فأن سحـرها بأجمعه لم يكن فعالاً مطلقاً كي يوقظ الإله القتيل، لكنها ما إن أضافت إلى جثته قضيباً مصنعاً حتى بعث أوزيريس. ومن خلال التحليل المتأني لرواية عالية ممدوح هذه نلمس إعادة مستترة – هي طبيعية بالنسبة للإنسان القديم ذي اللاشعور العاري، ومتغرّبة عن الإنسان الحديث المستلب - لتلك المعاني التي تحيلنا إلى الجذور الجنسية للفعل الإخصابي والإنبعاثي وإن اتخذت طابعا ساخرا. من بين هذه الإحالات هي الموقف الذي يشتري فيه سرمد – وهو في لندن – بروجكترا ضخما يصدر بركانا من الإشعاعات وذلك كي يرى، أخيرا، صاحبه / ذَكَرَه المختفي والمغتر بنفسه:

- (نعم من الجائز سيخبرني [ = البروجكتر ] أخيرا أن عضوي موجود ومتعافى ولكن لنفسه ولا يظهر للعيان، خاتل بالغيبة، مختف بصورة غامضة، رزين وصلب ويعرف الأصول. يغيب حين لا أعيره انتباها وأشيح عنه بوجهي وما ملكت أيماني ويداي وعيناي، فأصرخ وأنا وحدي: من يملك أعضاءه؟ لا أحد – ص 27).

وهناك مسار تقرّبي آخر، مسار استدراجي مغيّب، يمتد عبر أسطر طويلة يتحدث فيها سرمد عن الفعل الجنسي.. الإنهمام بالطاقة الإيروسية المستترة للغة وهو ينطق حروف الجنس حسب طلب " فيونا ".. كيف يكون للحروف – وهذه فرضيّة أساسية حول الأصل الجنسي (والأوسع من وجهة نظري: الجنسي، الجسدي، النفسي اللاشعوري) للغة – فعلها في تأجيج إلتهاب ألسنة الغريزة.. كيف (يصب) العاشق حروفه المشبقة (في) أذن معشوقته لحظة الإلتحام الجسدي الفائق فتحصل مداورة رهيبة شديدة المكر تكشف الوظيفة الحسّية لجهاز السمع.. وتوسّع الروائية هذه التداعيات التي تتم في لحظة ملتهبة حين تستدعي أطروحات تحليلية وإسم معلم فيينا وسط تشابك المصطلحات الجنسية المباشرة من بظر ومهبل وفروج، لتتوّجها باستعارة تحرّشية غير محسوسة تمر سريعا أمام بصر المتلقي المنتشي أو المخدّر الذي ستُرسم إداراكاته وفق السياج الحسّي المغوي الاستدراجي. يقول سرمد عن ذكرى مواقعته لفيونا:

(.. وها أنا أبجّل المهبل والبظر وأستحضر اسم الفرج باللهجات المحلية والعربية وبصوت عالٍ كي أستثار أكثر، وأنا أهيم وسطها، فاللغة أخطر وسيط في المضاجعة وهي وحدها التي تشترط ما لديّ من جروح وعاهات. هي التي قالت ذلك وذكرت اسم فرويد، علمتني أن لا يصيبني الشرود. فكانت تجبرني على النظر والنظر كأحد القواعد لخديعة البصر ذاته، فأصرخ بصوت، قالت عنه فيما بعد، إنه كالإعصار: أدخليه سالمة – ص 43و44).

وحين تتطلب فيونا منه أن يتكلم لتسمع لحظة الإتصال الجنسي، في حين تجبره على الإمعان في النظر الفاحش، فلأن المرأة – في الاستثارة الجنسية – " سمعية " عموما، والرجل " بصري " عموما أيضا. وما قلته قبل قليل عن المكانة المقدّسة التي كانت تحتلها الأعضاء التناسلية البشرية خصوصا الفرج الأنثوي لدى الإنسان القديم، صاحب " اللاشعور العاري " كما أصفه الذي كان أكثر رقيا منّا نحن الكائنات المتنفجة " المتحضرة " – كان الزوج والزوجة السومريان لا يمارسان الجنس إلا بعد أن يدلكا جسديهما بالزيت ويشعلا البخور.. وكانت الإلهة عشتار تكتب القصائد عن الكيفية التي دخل فيها حبيبها وعدد المرات، وهو عدد مميت (عشرون مرّة !!)، التي أولج قضيبه في فرجها المقدس -، أقول: أن تلك المكانة – وهذه فرضية – قد انسربت في تراكب المعاني الجنسية والمادية والمعنوية والتحامها في المفردة الواحدة خصوصا تواشج ما هو مقدس وما هو مدنّس – ولو أنني لا أقر هذا الوصف على الفعل الجنسي المبارك الذي لا يدينه سوى المعقدين المعصوبين أمثال " فرانتز كافكا " الذي يقول أن ما يُعطى للجنس يؤخذ من الإبداع، ناسيا أن الجنس هو الإبداع الحق، بل هو مصدر الإبداع الكتابي وممول جذوته -، ولو أخذنا مفردة الفروج الكريمة التي يهتف بها سرمد بكل اللغات، فسنجد أن الجذر واحد (فرج) ومن معانيه عورة المرء قبلا ودبرا ومهبل المرأة الباهر وبطن الوادي ومتن الطريق.. وفرج فرجاً اللهُ الغمَّ عنه: كشفه وأذهبه.. وانفرج الرجل من ضيقةٍ تخلص منها.. والفرجة اسم لما يتفرج عليه من الغرائب، سُمّيت به لأن من شأنها تفريج الهموم.. وكل ذلك مرتبط بأن الفرج هو الفرجة التي ينطلق منها ما هو محبوس من غمّ وهمّ وعذابات. ولعل أعظم فرجة، وأصل كل الفتحات تلك الفتحة العظيمة التي هي أصل الحياة والوجود.. تلك التي تحدث عنها سرمد ولم يكن هو ولا نحن ندرك قواها الجبارة وكيفية عبادتها كما كان يفعل " المتخلفون " في الأزمان الغابرة، وقد شعر بهذا الفارق الشاسع عندما تربّى جنسيا وتناسليا على يدي فيونا الحكيمتين، وهذا ما قاله لصديقه الدكتور يوسف في الهايد بارك بعد سنين طويلة:

(من قال لنا وكذب علينا بأننا كذا وكيت.. كلّ هذا وذاك هراء.. أنا كنت في الحدود السفلى وفيونا بلا حدود، تلك الإسكتلندية، فعلّقت على فرجها وسام جميع حروفي الخسرانة. كانت تضاجع لكي تستمر في العالم، وأنا، وكأنني أغادر الدنيا – ص 44). وهذا أيضا تجسد في موقف جنسي لاحق حين دفعته كيتا عنها وهي تصرخ: أنت لا تضاجع لكنك تنتقم !!.

وتتلاعب الكاتبة بكل ما هو مقرر ومؤسس مرجعي بلا هوادة، تؤكد من خلاله أن جانبا كبيرا من عوامل تدهور حال الأدب والفن في المجتمع العربي عموما والعراقي خصوصا، من ناحية تأثيرهما في المتلقي هو أن الكاتب العربي - في أغلب الأحوال وليس في كلها طبعا - لا يتمتع بالجسارة المطلوبة التي تحصّنه وتسلّحه بالسمة الأساسية التي تساعده على التوغل في مجاهل اللاشعور.. كيف يمكن لمبدع لا يقوى على الوقوف أمام مرآة لاشعوره عاريا تماما وبلا تردد، أن يكشف سرائر لاشعور الآخرين ويعرّيهم؟؟. هذه المهمة هي واحدة من المهمات الثورية التي تصدت لها الكاتبة بشراسة هائلة. وأقول ثورية لأن من مهمات الكتابة الآن خلق ثورة في الحياة العربية.. ولعل رأي المفكر العربي جورج طرابيشي في أن الأدب العربي - وتحديدا الشعر ثم الرواية - هو أول حقل حققت فيه الأمة العربية حركة الحداثة بصورة جيدة هو ما يمكن أن ينطبق على جهد عالية ممدوح ليس في هذه الرواية حسب بل في منجزها الإبداعي بأكمله. وصف البعض من قصار النظر والمتقولبين المخصيين جهد الراحل نزار قباني بأنه جهد " نسوي " متناسين أنه أول مبدع عربي معاصر نظر إلى ظله الأنثوي الكامن في لاشعوره وفجّره.. فأشعل شرارة وعي المرأة العربية بحريتها التي تنطلق أولا من الوعي بحرية جسدها.. بحريتها في " التصرّف " به كممتلكات شخصية شديدة العزة.. وهذا الإحساس يتطلب التعبير عنه.. والتعبير يتطلب لغة مناسبة.. والحداد يريد فلوس والفلوس عند العروس المبدعة.. وهكذا كان أعظم ما حققه قباني هو أنه خلق للمرأة لغة خاصة في الخطاب الشعري تعبر بها عن صراعاتها ورغباتها وإحباطاتها، والأهم عن عطايا جسدها المبارك. وها هي اللغة الجسور والاقتحامية تؤسس ركائز بناها الأولية ومسيرة الألف ميل - حسب المثل البليد - تبدأ بخطوة صغيرة ناسين أن الإنشلال الشمولي قد يجعل الخطوة الصغيرة أكثر من هم جبل خانق على النفس، ولذلك فإن مسيرة الألف ميل لابدّ أن تبدأ بميل معرفي - نفسي جسور خصوصا – وهذه الرواية: " التشهي " هي مشروع – لو قيظ له الاهتمام النقدي التحليلي والإنتشار الإعلامي الكافي، وفي كلتيهما الذراع الثقافية العراقية كسيرة ومازوخية في حق نفسها انطلاقا من الشعار الخطير والفطير الذي يعلن أن مغنية الحي لا تطرب – فسوف يزرع بذور نهضة حداثوية تذكرنا بما كانت تقوم به النصوص الأدبية العظيمة من تغييرات جذرية وتحفيز للهمم السائبة. يقول سرمد عن فيونا: (وها أنا أبجل المهبل والبظر وأستحضر إسم الفرج باللهجات المحلية: أدخليه سالمة !! ص 44).

 

تابع القسم الخامس من الدارسة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم