الرئيسية

مقاربة العلوم الإنسانية المعاصرة لظواهر العالم الإجتماعي

علي رسول الربيعيعندما عندما نواجه الظواهر في المجتمع نسأل لماذا حصلت هذه الظاهرة وكيف اصحبت ممكنة الحدوث؟ يشير السؤال لماذا الى الحافز: هل نحن نتاج غرائزنا، أو عبيد للنظام (السستم) القائم، أم نحن فاعل حر مستقل؟ بينما يشير السؤال عن الكيف إلى التنظيم (كيف يتم تعبئة الناس وتحريكهم، وكيف يتم أدارة الظاهرة أو تمويلها مثلا؟) عند التفكير في هذه الأسئلة لامفر حينئذ من الدخول في النقاش الأساس الذي يتعلق بالوجود (الأنطولوجيا) والمعرفة (الإبستيمولوجيا). تدرس الأنطولوجيا الوجود (وجود الظواهر) وتتعلق بالأسئلة مثل، من نحن او ماذا يحركنا ويحفزنا؟ أما الإبستيمولوجي فتشير الى المعرفة التي يتعلق بأفكار حول معرفة العالم الإجتماعي وظواهره . ما يكمن خلف السؤال عن كيف ولماذا هذه الظاهرة هي الأفكار التي تدور حول ما الذي يدفع البشر إلى هذا الفعل مدعومة بالأفكار عن المعرفة: أيً، كيف نعرف ما ندعي معرفته عن ظاهرة؟ وهنا لابد من الاشارة الى أن هناك نظريات عديدة في العلوم الأنسانية المعاصرة في تفسير الظواهر في المجتمع وتأتي في أغلب الأحوال طبقا لترجيح أحد الأسباب المنتجة للهذه الظواهر على حساب الأخرى، فقد تختلف هذه النظريات او تتكامل مع بعضها، وقد يمكن بناء مركب نظري أو أنموذج نظري لتفسير الظواهر في المجتمع. وقد تكون هناك ظواهر معقدة يمكن أن تُفهم وتُفسر فقط من خلال مقاربة تتداخل فيها فروع معرفية متعددة. ما أريد الأشارة اليه هنا هو ما يجمع بين المقاربات المختلفة أجمالا من ناحية الموقف والمنهج في تناولها للظواهر في المجتمع. سأشير الى المواقف الأنطولوجية والإبستمولوجية والتي تنطلق من سؤألين هما: لماذا تحدث هذه الظواهر، وكيف تكون تلك الظواهر ممكن الحدوث، يتعلق الأول بالباعث أو الحافز، بينما يتصل الـثاني بالنظام والتنظيم.

وكما اسلفت هناك تقاليد نظرية عديدة في العلوم الإجتماعية عن مقاربة الظواهر يمكننا وضعها تحت مجموعتين: انطولوجية، وإبستمولوجية. تعبر النظريات التي تؤكد على الفرد أو النظريات الفردية والأخرى البنيوية عن الموقف الأنطولوجي بينما تعبر نظريات " التفسير" و " الفهم" عن الموقف الإبستمولوجي.

المجموعة الأولى، الأنطولوجية تُصاغ النظريات فيها من موقفين حول ما يعبئ الناس ابتداء، فهناك تقسيم أنطولوجي اساسي في العلوم الإجتماعية بين مقاربتين تحاولان تقديم وصفا واسبابا للفعل البشري من خلال الرجوع الى الحركة/ التعبيئة التي تقوم بها البنية الإجتماعية. ومقاربة أخرى تأخذ الفعل الفردي كمادة محركة للتاريخ وتعتبر البنية نتيجة للأفعال الفردية.

لذا هل البنية هي التي تحدد أفعال الافراد أم أن افعال الأفراد هي التي تحدد البنية ؟ أي هل نأخذ أفعال الأفراد نقطة البداية في التحليل أم نختار التأكيد على البنى التي تجبرهم على الكيفية التي يقومون بها في أفعالهم الإجتماعية ؟ هل تبدأ الظواهر بسبب الضغط البنيوي أم هي نتاج تخطيط وتوافق الأفعال الفردية؟ وهل تعبر هذان المقاربتان عن موقفين مختلفين جذرياً أم يمكن أن يكون أحدهما مكمل للآخر للكشف عن طبيعة هذه الظواهر في المجتمع؟

ترى المقاربة الفردية أن مصدر ظاهرة معينة في المجتمع تعود في اسبابها الى الفعل الفردي، بينما ترى المقاربة البنيوية أن مصدر الظاهرة يتعلق بالنظام الإجتماعي، فتُفهم الظاهرة الإجتماعية بوصفها ناتجاة عن التوتر والتناقض الذي يصدر بدوره عن الطريقة التي يـُبنى فيها النظام الإجتماعي. لنأخذ مثالا توضيحيا وهو انعدام الأمن، تهتم النظريات الفردية بالكيفية والأشكال التي يسلك فيها الناس في حالة انعدام الأمن (مثل الهوية، الأقتصاد، الأمن المادي وغيرها)، وكيف تترجم تلك السلوكيات والأفعال في الصراع؛ بينما تركز النظريات البنيوية على اسباب انعدام الأمن: كيف يننتج عن عدم توازن (مجاعة، ظلم، تهميش) مـعين بنيويا. واجمالاً يدافع الموقف الأنطولوجي الفردي عن فكرة هي أن الوحدة الأساسية في الحياة الإجتماعية هي الفرد. ولكي نفسر المؤسسات الإجتماعية والتغيرات الإجتماعية علينا أن نكشف كيف تنشأ هذه كنتيجة لفعل الأفراد وتفاعلهم. بالمقابل تركز الأنطولوجيا البنيوية على على قوة البنى التي تكمن في المؤسسات ذاتها، وهي أبعد من نطاق سيطرة الأفراد. فـتُبنى أفعال الناس من خلال قواعد تخبرهم أو تُحدد لهم غالباً كيف يمارسون حياتهم الإجتماعية. بالتأكيد يبقى الموقف الانطولوجي مجرد دوغما اذا لم يرتبط بالموقف الإبستيمولوجي. لذا لابد من الأشارة الى هذا الموقف.

ينقسم الموقف الإبستيمولوجي في العلوم الإجتماعية أساساً الى قسمين. قسم أول يرى أن أفضل طريقة فحص للعالم الإجتماعي تكون من الخارج، أيً: التفسير، بينما هناك موقف آخر يرى أن افضل طريقة لدراسة العالم الإجتماعي هي من الداخل، أي: الفهم.

ينطلق الأول أي التفسري من فكرة أنه يمكن تحديد الفعل البشري والتنبوء به. بالمقابل تزعم الإبستيمولوجيا التأويلية (الفهم) أنه بدلا من النظر في في اسباب السلوك علينا البحث عن معنى الفعل، فالأفعال تستمد معناها من الأفكار المشتركة وقواعد الحياة الإجتماعية. وأن بنية المعنى تُحدد تاريخيا وثقافيا ويمكن دراستها من خلال سياقها، ومن خلال دمج منظورات الوعي الذاتي للناس والمعلومات التي يقدمونها عن أنفسهم. أنا مع وضع نسيج واحد يربط الموقفين الإبستمولوجيين مع الموقف الأنطولوجي مؤيدا هنا طريقة Martin Hollis (التي وضعها في كتابه :The philosophy of social science) في رسم خرائط الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها النظرية الاجتماعية في النسج بين الموقفين حيث تسمح لنا بوضع نظريات الظواهر المختلفة في موقعها الأنطولوجي والابيستيمولوجي الصحيح.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم