الرئيسية

فلسفة العبرة التاريخية عند ابن خلدون

ميثم الجنابيقراءة فلسفية جديدة لفلسفة ابن خلدون (2)

أيا كانت الصورة التي تتلألأ أمام أعيننا حالما نتأمل وندرس ونحلل وننتقد ما وضعه ابن خلدون وأسس له في الموقف من التاريخ بشكل عام، فإننا نقف أمام ثلاثية فكرة التاريخ، وفلسفة التاريخ، وفلسفة الحضارة، وما يرافقها من ثلاثية "التاريخ الطبيعي والماوراطبيعي" أو العمران البدوي والعمران الحضري، و"ديمومة الولادة والموت الملازمين لصيرورة العمران والدولة" و"حتمية الموت الحضاري"، بوصفها خاتمة "الموت الجميل". ووراء كل هذه الاكتشافات الكبرى التي جرى تأسيسها استنادا إلى التاريخ الواقعي للإنسان وأبعادها الماورائية تكشف عن الإدراك الفلسفي العميق لحدود التاريخ في مجرى العمران، وديموته في الإبداع الإنساني، والغاية البعيدة التي تلتمع وراء الوجود بوصفها معاناة الثقافة نفسها التي لا يحكمها المنطق المجرد. لكنها تحتوي في إعماقها على "عبرة" ينبغي الاتعاظ منها وبها من أجل مستقبل أفضل مبني على أسس الحق والعدالة، والرؤية الإنسانية الواقعية والعقلانية.

فقد احتوت فكرة التاريخ وفلسفته عند ابن خلدون على توحيد التفسير العقلي والواقعي للتاريخ ورؤية آفاقه من خلال دراسة نشوء الدولة وانحلالها. ومنها وبأثرها تبلورت عنده فكرة العبرة أو فلسفة العبرة، بوصفها الرحيق السياسي لتأمل التاريخ ودراسة مساره الفعلي والقوانين المتحكمة فيه. ومن ثم احتوت فكرة العبرة عنده على مستواها النظري والعملي، أي مستواها الفلسفي التاريخي والسياسي المستقبلي. إذ نعثر عنده على ما يمكن دعوته بالتأسيس الفلسفي السياسي والحضاري للعبرة. ومن ثم تحتوي على كل ما أراد ابن خلدون قوله. وليس اعتباطا أن يضع هو نفسه فكرة العبرة في صلب عنوان كتابه عندما اطلق عليه أسم (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب....). لقد أراد استخلاص العبر المتنوعة في تاريخ الأمم التاريخية الكبرى ومن عاصرها من خلال دراسة بدايتها ونهايتها في الدولة (الملك) والحضارة (العمران).

ففي مجال العبرة السياسية نراه يتوصل إلى فكرة مفادها، بأن اختلاف الأمة وقتالها فيما بينها فيما مضى "رحمة لمن بعدهم لكي يقتدي كل واحد منهم بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله"1 . وينطبق هذا بالقدر ذاته على اندثار الدول والحضارات، بمعنى إنه يجد فيها "رحمة" للعقل النظري في تأمل الماضي من اجل رؤية مستقبله، من ثم اتخاذ ما يراه مناسبا لتلافي السقوط، رغم ما في المسار التاريخي نفسه من قوة تقهر أكبر العقول ذكاء وأشد الإرادات عزيمة.

إننا نعثر عنده وفي كل ما كتبه واستحصله من نتائج مجردة كبرى على أسلوب جلي حينا ومستتر حينا آخر لكنهما يلتقيان في الحصيلة، ألا وهي إن تأمل ودراسة تجارب الأمم التي يمكن تتبعها بما في ذلك في متون الكتب التاريخية والأدب والفلسفة والأديان، ينبغي أن تهدف إلى صنع الأحكام السياسية منها. الأمر الذي يكشف عن أن تاريخ العبر بالنسبة له هو التاريخ الإنساني ككل. غير أن ما يميز ابن خلدون بهذا الصدد هو تتبعه لمسار الصيرورة التاريخية للفكرة السياسية، والواقع السياسي، ومن ثم التجربة السياسية. من هنا تتبعه ورسمه وتفسيره للمسار التاريخي للمؤسسات والأفكار والقيم والعقائد وليس لتاريخ وسيرة الأشخاص أيا كانوا.

انه يتناول الفكرة السياسية ضمن سياق فكرته عن العمران، أي عن التطور الحضاري للأمم. من هنا، على سبيل المثال، نفيه ورفضه للفكرة التي حاولت أن تجعل من النبي والنبوة قيمة ما فوق تاريخية ولابد منها بالنسبة لبناء النظام السياسي الاجتماعي الأفضل. إذ نراه يشدد على عدم وجوب النبوة في ميدان العلاقات الاجتماعية السياسية. وذلك لأن تجارب الأمم تكشف عن أن "الوجود وحياة البشر قد تتم من دون النبوة"2 . وعندما يتكلم عن أثر المناخ في حياة البشر، فإنه يشير إلى أننا لم نسمع بخبر بعثة النبوة (الرسالة) إلى المناطق التي تتسم بظروف مناخية قاسية (الأقاليم الشمالية والجنوبية). كما أكد على أن التاريخ يكشف عن أن النبوة تظهر في المناطق المعتدلة. بل ونراه يشدد على أن الله يختص بالنبوة أكثر الناس كمالا في خلقهم وأخلاقهم. ذلك يعني، إن قدرة النبوة على العمل والفعل تفترض قدرا من التطور الحضاري. وبدونه تصبح عديمة الفاعلية والتأثير، أو على الأقل أنها عاجزة عن إرساء أسس النظام الاجتماعي والسياسي الأمثل. بعبارة أخرى، إن النبوة بوصفها فكرة متسامية تفترض قدرا من التطور الثقافي والمعرفي. وإن النبوة قضية بشرية صرف. انطلاقا من أن الله لا يمكن أن يغفل بشرا دون آخر لاعتبارات خلقية وأخلاقية. كما يمكن تأويلها بطرق أخرى، إلا أن الجوهري فيها يبقى هو تأثر فكرة النبوة وارتباطها بالمناخ دون أن يرجعها إليه. وينطبق هذا في الواقع على كل القضايا والظواهر التي تناولها ضمن هذا النطاق.

ففي موقفه من الحرب ومذاهب الأمم فيها، ينطلق ابن خلدون من أن الحرب "أمر طبيعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل. وسبب هذا الانتقام في الأكثر أما غيرة ومنافسة، وأما عدوان، وأما غضب لله ودينه، وأما غضب للملك"3 . ففي فكرته هذه وتصنيفه نعثر على أربعة أصناف من الحروب، وهي: حروب الغيرة والمنافسة التي عادة ما تميز حروب العشائر والقبائل المتجاورة؛ وحروب العدوان التي أكثر ما تكون بين من اطلق عليهم ابن خلدون اسم "الأمم الوحشية"؛ وحروب الجهاد (غضب لله والدين)؛ واخيرا حروب الغضب للملك، إي الحروب التي تشنها الدولة ضد الخارجين عليها. ووضع الحرب الأولى والثانية تحت صنف البغي والفتنة، بينما اعتبر الثالثة والرابعة من "حروب الجهاد والعدل"4 . ذلك يعني إنه افرز ما يمكن دعوته بالحروب الظالمة والحروب العادلة. ومع انه اعتبر الحرب بحد ذاتها "انتقام" أي لا عقلانية ومدمرة بطبيعتها، إلا أنه وجد فيها ضرورة وعدلا حالما تكون فتنة مخربة لوحدة الدولة وقوتها. ذلك يعني، انه لم ينظر إلى الحرب بمعايير القيم الأخلاقية، رغم انه لا يلغيها، ولكنه نظر اليها باعتبارها جزء من المسار التاريخي الطبيعي للبشر بشكل عام والدولة بشكل. وبما أن الدولة بالنسبة له هي ذروة الاجتماع الإنساني وأساس الحضارة، من هنا أهميتها المافوق أخلاقية، أو بصورة أدق، أنها الصيغة المنِّظمة والضرورية لفاعلية الأخلاق بشكل عام والسياسية بشكل خاص. من هنا استنتاجه للفكرة السياسية العميقة والمستنبطة من تأمل التاريخ الواقعي عن أن حروب ما قبل العمران لا تصنع غير الدمار والفساد. ومن ثم لا قيمة فيها ولها بالنسبة للتمدن والثقافة والحضارة. على عكس الثالثة والرابعة بشكل خاص، أي تلك الحروب التي تسعى إلى الحفاظ على وحدة الدولة والقضاء على الفتن الداخلية، بوصفه الشرط الضروري للعمران المدني.

وعموما يمكننا رؤية استنباطه للعبر بمختلف أصنافها، التاريخية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية وكثير غيرها. فعندما يتناول على سبيل المثال قضية جباية الضرائب والغرامات، فإنه ينطلق من ضرورتها بالنسبة للدولة. غير انه حالما يتأمل التجارب التاريخية بهذا الصدد يتوصل إلى استنتاج يدعوه بالصفات السيئة لهذه الظاهرة. إذ نراه يشدد على أن ازديادها المستمر عادة ما يكون ليس للاستثمار في العمران بل لتلبية مصاريف البذخ والمتعة. الأمر الذي يؤدي مع مرور الزمن إلى الكساد. وذلك لأن هذا النوع من الجباية كما يقول ابن خلدون يفسد الاعتمار. بينما أقوى "الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين"، بمعنى تقليل الضرائب والغرامات5 . والشيئ نفسه يستنتجه من علاقة الدولة بالنشاط الاقتصادي. فنراه من جهة يدعو إلى تدخل الدولة من خلال تنظيم الحياة الاقتصادية، كما يدعوها إلى دعم الملكية الخاصة والحفاظ عليها لما لها من أثر في تنمية النشاط الاقتصادي. وفي الوقت نفسه نراه ينتقد سلوكها المخالف لهذا الاستنتاج. وتوصل بهذا الصدد إلى فكرة سياسية اقتصادية وحضارية عميقة تقول، بأن تدخل الدولة ومنافستها للتجار والفلاحين يؤدي بالضرورة إلى إفساد الاقتصاد. وذلك لأن الدولة تمتلك من الموارد ما يكفي لخنق المتنافسين، بينما المنافسة بين القوى الاجتماعية الاقتصادية الضرورية للاقتصاد والاجتماع والعمران ومن ثم للدولة نفسها. ليس هذا فحسب، بل نعثر على استخلاص العبر من التاريخ في مختلف الميادين وتجاه جميع القضايا الكبرى والحساسة بالنسبة للدولة والحضارة، أي للتاريخ بوصفه فكرة.

 

ا. د. ميثم الجنابي

..............................

  ابن خلدون: المقدمة، دار الفكر، ص173.

  ابن خلدون: المقدمة، ص34.

  ابن خلدون: المقدمة، ص213-214.

  ابن خلدون: المقدمة، ص214.

  ابن خلدون: المقدمة، ص221.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم