حوارات عامة

حوار مع د. هاشم عبود الموسوي في العمارة والعمران (1)

نشاهد عمارة تسحر العيون بمواد بنائها وبتفاصيلها وبفضاءاتها الداخلية، مقارنة مع عمارة تراثية أفقية متلاحمة بفضاءات محدودة ونسب بسيطة وواجهات صماء، تعود إلى الماضي، وأنتم مازلتم تدعون إلى أهمية التراث في العمارة والمحافظة عليه، فما هي الموازنة في هذا المجال؟

د. هاشم: إن مثل هذه المقارنة، بشكل مجرد، لن تكون في صالح العمارة التراثية . فاعتمادا على الموارد الهائلة من البترول ساد التوجه لاستيراد لا المخططات والتصاميم الغربية لعمارتنا اليوم فحسب، بل كذلك التفاصيل والأيدي العاملة اللازمة لها . إذن نحن أمام موجة شاملة لنقل التكنولوجيا لتزين مراكز المدن بأبنية زجاجية مرتفعة وشوارع مستقيمة تقسم المدن في كل الجهات، حتى أصبحت الأغلبية تردد بدون ملل سلبيات التراث المعماري مع إغفال إيجابياته . فتحولت بسرعة المناطق التراثية إلى مناطق الفقراء والنازحين من الريف، مناطق قذرة تفتقر إلى المقومات الصحية .

لكن الصورة ليست قاتمة تماماً، كما قد تبدو لأول وهلة، فمازالت هناك أصوات تمتدح التراث المعماري، وترفض العمارة المستوردة .

 

م.صبا: يبدو أن موضوع التراث والحداثة في العمارة واسع ومعقد جدا، فأرجو منكم تعريف التراث المعماري؟ وما هو مجاله؟

د. هاشم: يعتقد الكثيرون خطأ أن التراث المعماري يشمل كل الأبنية والنصب والأحجار التي مازالت قائمة اليوم، بغض النظر عن الوظيفة التي بنيت من أجلها أو أصول تواجدها، فالعمارة ليست هي الحضارة، بل هي الشاهد العادي على الحضارة . فلا عمارة بدون ازدهار حضاري . وما نشاهده اليوم من آثار وبقايا، أو ما قرأنا عنه، قد يكون منشآت بدائية أقيمت لحماية الإنسان من أبناء جنسه، أو من الحيوانات المتوحشة، أو الظروف المناخية . هذه الأبنية لم تقم على نظم معمارية، بل كانت تعتمد على طاقة الإنسان ومواد البناء المتوفرة في الموقع (خيمة، أحجار، كهوف ....) العمارة لم تظهر حتى الألف الرابع قبل الميلاد، وتحديداً في البلاد والمدن المتكاملة حضريا (مثل أور ولكش) هذا لا يعني شطب النشاط الإنشائي للإنسان لآلاف السنين قبل السومريين عند متابعة تطور الحياة الإنسانية الجماعية الأولى?، لكنه ليس دليل حضارة . هنالك آثار معمارية قد تبطل استعمالها اليوم، فوظائفها قد تجاوزها الزمن، مثل المعابد والقلاع والخانات والنصب . لذا يمكن تحديد التراث المعماري بكونه الأبنية القديمة التي مازالت مستعملة اليوم، أو تلك التي يمكن الاستفادة منها في العمارة اليوم، كلياً أو جزئياً .

إن محاولة تحديد التراث المعماري وأصوله مازالت غير وافية، الأمر الذي يساهم في تعقيد دارسة جذوره . إن أول ما يواجه الباحث في العمارة الشرقية، والعمارة الإسلامية تحديداً، هو غياب أسماء المعماريين وأي نص توضيحي أو نقدي لنتاجهم . أما أسماء الخلفاء والوزراء الذين أمروا ببناء هذه المنشآت أو مولوها فسجلت أسماؤهم على واجهاتها ومداخلها. وإن ذكرت المصادر أسماء المعماريين فهي على الأغلب مجهولة للقارئ . وتشير الحادثة المعروفة إلى أنه قبل الإسلام قتل "النعمان بن المنذر" مصمم وباني قصره الأسطه "سنمار"، فذهب مقتله مثلاً . كما ذكرت المصادر أسماء مصممي ومخططي مدينة بغداد المدورة بقيادة المعمار الحجاج بن أرطأة . والأستنثاءات قليلة، فأبن خلدون (1332 – 1406) كتب القليل عن العمارة، وما كتبه عموماً لا يفي بمتطلبات البحث العلمي، فقد تجاهل، مثلاً، العناصر الجمالية أو التشكيلية للأبنية . المثال الآخر المتميز هو المعمار العثماني الشهير سنان (1490 -1588) مصمم أشهر مساجد اسطنبول الحالية إضافة للعديد من الحمامات والقناطر، لكنه لم يكتب هو شيئاً، بل ألف أحدهم كتاباً واحداً عن أعماله أثناء حياته هو (تذكر البنيان) وبعد وفاته نشر عنه كتابان هما (تذكرة الأبنية) و(تحفة المعماريين).

 

م.صبا: لماذا لم تظهر لدينا في تراثنا العربي والإسلامي دراسات عن نظرية العمارة والموقف من التراث، مثلما كان ذلك واستمر لدى الغرب منذ فيتروفيوس* والبرتي، وبلاديو، وحتى عصرنا الحالي؟

د. هاشم: لم تظهر في الشرق دراسات مشابهة إلا في القرن العشرين، وقد سجل العديد من الباحثين هذه الظاهرة، لكن أيا منهم لم يحاول تفسيرها . ولكننا نعتقد أنها تعود إلى المعضلة التاريخية الدائمة ما بين التراث والحداثة، نلاحظ مثلاً أن العمارة الإسلامية تفتقر إلى الخلفية المعمارية، فلم تشر التنقيبات الأثرية حتى الآن عن وجود أي عمارة ملموسة ذات قيمة في مكة أو يثرب قبل ظهور الإسلام . لذا كما يبدو، اعتمد المسلمون عند الفتوحات على معماريين وفنانين من حضارات مجاورة، فارسية أو بيزنطية، ولم تذكر أسماؤهم تجنباً لحساسية محتملة لكونهم من أديان أخرى، أو لأنهم أجانب على الأقل . إن ما يؤكد هذا الاستنتاج غياب المؤلفات المعمارية في أرض عرفت أول الحضارات الإنسانية، أرض أول أبجدية معروفة حتى الآن / دونت بها أول القصص الأدبية وأول القوانين والشرائع بل وسجلت فيها وبالتفصيل حياة وأخبار ملوكها . أما ما سجل المسلمون الأوائل بهذا الخصوص فلم يتجاوز جملا سريعة تعكس بدائية معمارية لا تنسجم مع الواقع الحضاري، مثلا، تذكر المصادر التاريخية أن تحديد أول المدن الإسلامية مثل البصرة والكوفة (14 و16 للهجرة) قد تم من خلال رمي السهام في الجهات الأربع، وأن أبا جعفر

* فتروفيوس: المنظر الروماني الاول الذي الف عشرة كتب عن العمارة ومبادئها وموادها وفنونها.

المنصور قد اختار موقع بغداد المدورة (762 م) بعد مقارنته مع مواقع أخرى من حيث الزمن الذي يستغرقه تعفن اللحم في كل منها مع العلم أن مخطط المدينة يعتبر من الناحية المعمارية والحضرية من أهم وأكمل المخططات للمدن الجديدة . فأوروبا لم تعرف مخططا مشابها له إلا في أواخر القرن التاسع عشر حين قدم هيوارد (1898) مقترحه للمدينة الحدائقية . إن مصممي بغداد اجانب بالتأكيد، بقيادة معماريين عرب، حيث يلاحظ على المخطط تأثيرات مبادئ تخطيط المدن الرومانية المعتمدة على الشارعين المتعامدين .

الاحتمال الثاني المفسر لضعف أو عدم تسجيل ما يخص العمارة والفن عموما في الحضارة الإسلامية يعود إلى إشكالية العلاقة ما بين الإسلام والفن، إذ يرى البعض أن الإسلام يحرم العمارة والفن بشكل عام، وهو موضوع واسع لا مجال لبحثه الآن، لكن الذي يهمنا هنا هو التأويلات لنصوص قرآنية أو أحاديث نبوية تدعم مبدأ التحريم، ورغم وجود تيار رافض لهذه التفسيرات، لكن التهميش مس المعماريين والفنانين .

لكل ذلك يواجه الباحث الكثير من الصعوبات والارباكات اليوم فيضطر للاجتهاد أحياناً في الأصول والمبادئ الفنية لعموم فن العمارة، وهو ما أدى إلى ضبابية وضعف البت في العديد من خصوصيات النتاج المعماري، وساهم في استمرار الجدل حتى اليوم حول مفهومي العمارة الإسلامية أو العمارة في العالم الإسلامي والفرق كبير بين المفهومين لذا لا نستغرب اليوم من تعدد الحجج والاجتهادات لمن يهاجم التراث المعماري وهو جاهل له، ومن يدافع عنه وهو لم يفهمه ! .

 

م.صبا: هل ترون بأن النسيج العمراني التراثي في بعض مدننا العربية هو تراث إسلامي والمحافظة عليه هو نوع من المحافظة على الهوية الإسلامية؟

د. هاشم: يعتقد البعض أن النسيج العمراني المتضام لمدن التراث المعماري يعود إلى أصول إسلامية، وتسمى? مدن الشرق أحياناً المدن الإسلامية في حين أن هذا النظام الخاص بالأحياء الشرقية أو الصحراوية عرف قبل الإسلام بمئات السنين، ثم كان بعد ذلك ملائما من الناحيتين الاجتماعية والمناخية، لطبيعة المجتمع الإسلامي، أن المناخ لم يكن العامل الوحيد المؤثر على شكل ومحتوي النسيج العمراني فالعامل الاجتماعي كان له دور فاعل في تحديد الشكل النهائي لهذه المدن، لنلاحظ مثالا على ذلك من مدينة (غدامس) الليبية الواقعة على الحدود مع الجزائر . فجراء العلاقات الاجتماعية المحافظة المتشددة، بالإضافة طبعا للعنصر المناخي، نلاحظ أن النسيج العمراني لا يوضح النسيج المتضام فحسب، بل تم أيضا اعتماد توزيع خاص للوحدة السكنية داخل الأحياء بحيث يتألف المسكن من ثلاثة مستويات : الأرضي، بمستوي الزقاق، وهو مخصص للمعيشة والاستقبال، والطابق الأول مخصص لفضاءات النوم، في حين يكون الطابق الثاني مخصصا للمطبخ وفيه مساحات ملائمة لعمل ربة البيت لتدبير شؤون المنزل المختلفة، وبسبب تلاصق البيوت، تستطيع الإمرأة الحركة بحرية تامة في سطح دارها أو الانتقال إلى أسطح الجيران دون رقيب أو عائق ! فالسطح أصبح فضاء حركة خاصا بالنساء لا يسمح للرجال باستعماله، في حين أن الزقاق أصبح بالنتيجة فضاء خاصا بالرجال، فلا تمر النساء فيه إلا في حالات الضرورة القصوى .

 

م.صبا: نادرا ما نجد من هو ضد التراث، مع أنه ليس هناك من هو مستعد للسكن أو العمل في المبني التراثي . هل السبب هو أننا نقول ما لا نفعل؟ أو السبب في التراث المعماري نفسه؟

د. هاشم: قد تتعدد الأسباب، لكن لا ريب أن التراث المعماري يتحمل المسؤولية الأساسية، فهو لم يواكب التطور الواسع الذي حدث، خاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر، بحيث فأجاتنا معضلة التراث المعماري الذي ظل منزويا وعاجزا عن توفير مستلزمات حضارية جديدة وفي مقدمتها الحاجة إلى أبنية من طراز خاص ووظائف جديدة ظهرت فجأة، مثل محطات القطارات، والطرق، والجسور، ومناطق الاستراحة، والمصانع، والمخازن ذات المساحات الكبرى، والبنوك، والمطارات، ودور السينما، والمكتبات والجامعات الحديثة، هذه الأبنية أصبحت ضرورية لا يمكن لأي مجتمع أن يستغني عنها . التراث بكل عمقه التاريخي، لم يكن مهيأ ليتكيف مع مثل هذه الوظائف، بل هو في الواقع عاجز عن توفير حتى المسكن بالمفهوم الحديث، فقد تحول المفهوم الخاص بالسكن من الفضاء خاص للراحة إلى فضاء للراحة والعمل، وهو ما يستلزم اليوم المطالعة واستعمال الكمبيوتر والتلفزة والراديو والفيديو والانترنيت مع العديد من الأجهزة المنزلية والكهربائية، لا يمكن توفير كل هذا في بناء يستلزم من جملة ما يستلزم فناء مفتوحا وغرفا وفضاءات مباشرة على هذا الفناء .

للإنصاف نقول إن التراث المعماري الأوروبي لم يكن أفضل من حظ تراثنا فحتى نهاية القرن التاسع عشر كان المعماريون ينهلون من تراثهم الغني، وعصر النهضة لم يكن له مصدر سوى التراث . والفرق الأساسي بين ما واجه التراث الغربي والشرقي هو أن الأول استطاع أن ينسجم مع التطور الحضاري في أوروبا، خاصة منذ القرون الوسطى?. لكن فعل هذا التراث كان قد توقف، على أيدي رواد العمارة الحديثة الأوائل الذين أداروا ظهورهم للتراث كلية وتوجهوا إلى العمارة العالمية، أما تراثنا المعماري فتوقف عن التطور منذ بداية القرن الثالث عشر الميلادي، ومع مطلع القرن العشرين وصلت بوادر الحضارة الأوربية بقوة نسبيا إلى بلداننا ومعها العمارة المختلفة شكلا ومضمونا عن الواقع المعماري المحلي، وبدأ انتشار الفيلات المبنية على النمط الأوربي، وظهرت أولى? الأبنية العامة الكبرى الخدمية والإدارية والعسكرية، ثم المتاحف ودور السينما والملاعب الرياضية والمستشفيات. إن بداية ظهور هذه الأبنية رافقته حملة متصاعدة ضد التراث والعمارة المحلية، وفجأة اختفت مواد البناء المحلية اللازمة وفقدت الأيدي الفنية والماهرة اللازمة للبناء المحلي، وإن وجدت فهي ذات أجور عالية جداً، والبناء المحلي بطبيعته يحتاج إلى وقت، والوقت أصبح بالتدريج مالا.

 

م.صبا: أيعني كل هذا أن علينا أن نهمل التراث المعماري؟

د. هاشم: الواقع أن العمارة الحديثة القادمة لنا من أوربا قدمت حلولا عديدة لمعضلات من الصعب حلها في المعمارة التراثية، لكن مضاعفات العمارة الأوربية عندنا سرعان ما تفاقمت حتى اعتبرت اليوم من مصادر ومظاهر (التلوث) على مستوى? مفهوم تخطيط المدن المعاصرة . لقد ساعد على سيطرة العمارة الحديثة الدعم التكنولوجي المتطور بشكل سريع ومتصاعد مع تغيب أو غياب مواد البناء المحلية، فوق كل هذا لقد اختفت العديد من الوظائف والفضاءات الهامة التي كانت ضمن العمارة المحلية، بل عجزت العمارة الحديثة عن توفير بدائل عنها فالفناء المفتوح (الحوش) يعتبر قلب الدار، وأفضل مثال للفضاء المتعدد الاستعمالات تتم فيه كافة الفعاليات اليومية أو الموسمية أو السنوية، مثل الأفراح والاتراح، إضافة إلى أن الحوش يعتبر أفضل فضاء لربة البيت، تقضي فيه متطلباتها اليومية في الطهي أو الغسيل، لقد استبدلت الصالة بهذا الفضاء الهام أو الفناء المغلق المخصص للحركة من وإلى فضاءات الدار المختلفة، وهو بالتالي فضاء غير مريح نفسيا وجسديا . لأن معظم الفعاليات الاجتماعية عادة ما تتم في أشهر الصيف، تضطر العائلة في فعالياتها الواسعة وفي المناسبات إلى استغلال مسكن الجيران أو نصب خيمة مؤقتة خارج الدار تزعج الجيران أو المشاة وحتى مرور المركبات. العمارة الحديثة تجاوزت أيضا المدخل المنكسر (المجاز أو السقيفة)، فأصبح باب الدار يُفتح مباشرة على الصالة مما يستدعي غلقه دائما فصار يُعرقل ليس حركة الإنسان فحسب، بل أيضا يمنع عملية التهوية الطبيعية عبر الباب. كما أصبح السطح فضاء مهملا مغبرا ومرتعا للحشرات والطيور بدلا من سطح الدار الشرقية، وذلك الفضاء الحميم في أمسيات الصيف أو ساعات النهار شتاء. فهو أفضل فضاء مفتوح للمسامرة والمطالعة واللعب وتناول الطعام ونشر الغسيل والمغازلة ! هكذا تم بسرعة تجاوز الكثير من فضائل الدار الشرقية.

 

م.صبا: هل ترون أن التراث المعماري هو الحل؟

د. هاشم: في الواقع لا العمارة التراثية ولا العمارة الحديثة تستطيعان توفير الحل الملائم، الذي يلبي المتطلبات اليومية النفسية والجسدية للإنسان الشرقي اليوم . والحلول الوسطية مستحيلة، فهذا الأمر لا يتحمل تنازلات متبادلة . فإسقاط مخطط بيت شرفي على مواد بنائية حديثة كالأسمنت والحديد والزجاج سيفقد المعني للمخطط الأصلي . كما أن محاولة تقديم مخططات معاصرة بمواد محلية تقليدية أمر غير ممكن أيضا .

من صفات العمارة الحديثة مرونتها وإمكانية تقديم مختلف المخططات والتفاصيل . ويعود ذلك إلى مواد بنائها المختلفة، الخفيفة والمقاومة، وإلى هياكل إنشائها المتعددة والمرنة. ولكن هل تعاني العمارة التراثية من الجمود؟

التراث المعماري ليس جامدا، كما يزعم البعض. فقد احتفظ بمبادئه التصميمية رغم تباعد مناطق وجوده واختلافها تضاريسيا، فقد تكيف بشكل ناجح، كما لاحظنا مع تلك الفوارق وانتشر على رقعة واسعة جدا واستمر لمئات، بل لآلاف السنين، فهذا دليل على مرونته، لاحظ الفناء المفتوح، مرة أخرى، والموجود دائما في أي مخطط ورغم ذلك ليس له مقاييس محددة مع أنه فضاء اعتباطي التصميم فتحديد نسبه وشكله وموقعه واتجاهه يتم عبر الخبرة المتراكمة مع ضمان أن يكون ارتفاعه أكبر من أي ضلع من أضلاع قاعدته، إضافة إلى المرونة في نسب الفضاء ارتباطا بالظروف المناخية أو شروط الموقع أو حجم العائلة . الفناء له تكيف متعدد معماريا، بدءا من إمكانية اختلاف المناسيب للفناء الواحد أو احتمال وجود عدة (طارمات) ممرات مسقوفة وأروقة أو أعمدة، بل يمكن أحيانا غلق الفناء تماماً، كما في المناطق الصحراوية، حين تشتد العواصف الرملية أو الحرارة صيفاً، ثم أن الدار الشرقية في المناطق الحارة عادة ما تكون بطابق أرضي ذي هيكل خفيف وطابق أو أكثر انغلاقا (عدا الدور المتصلة مباشرة بالزقاق) وذلك بهدف مرور الهواء وتغلغله من الفناء خلال الطابق الأرضي إلى الخارج لضمان التهوية الطبيعية صيفا . هذا الأمر يكون معكوسا تماما في أحياء أوربا ذات الطابع الشرقي التي بناها العثمانيون، مثل اسطنبول وسراييفو وغيرهما، حيث يبني الطابق الأرضي من جدران حجرية سميكة، في حين يكون الطابق الأول من هيكل خشبي خفيف . السبب هنا هو ضرورة مقاومة الطابق الأرضي للعواصف الثلجية شتاء فتحتمي فيه العائلة أما الطابق الأول فيكون فضاء للمعيشة صيفا والمناخ فيه لطيفا عموما .

يختلف تناول التراث المعماري، في العمارة الحديثة، باختلاف قيمة التراث والخلفية التكنولوجية لكل بلد ومدى ارتباطها بالتكنولوجيا العالمية، وهناك توجه يُدافع عن التراث المعماري بدون دراية كافية . هذا التوجه، مع الأسف، هو المنتشر في الغالب اليوم، أنه عمارة التزويق وتناول التفاصيل المعمارية التراثية بشكل اعتباطي في الواجهات، إنها (العمارة المؤذية) كما يطلق عليها بحق المعماري العراقي رفعت الجادرجي.

 

م.صبا: هل يحق إذاً للمدافعين عن التراث المعماري أن يعتبروه مستقبل العمارة؟

د. هاشم: كثيرا ما نقرأ ونسمع مثل هذه الآراء المتحيزة . علينا عدم الانغلاق على التراث رغم أهميته وملاءمته . لكن الحاجة تدعو اليوم إلى استخدام أبواب وشبابيك مصنعة، وطوابق تحت أرضية مقاومة للرطوبة، وأرضيات جاهزة، بل ومتحركة، وسقوف ثانوية، وتسطيح مع عازل، وقواطع متحركة، وفضاءات خاصة، للبحث أو للحاسبات المتقدمة، أو للعمليات الدقيقة والطبية، نقية تماما من الغبار والرطوبة والحشرات والفيروسات . مع هذا يبقي التراث مبدئيا، غير عاجز عن الوفاء بهذه الحاجات، ضمن هياكل إنشائية وتكنولوجية وعمارة معاصرة، أو ما بعد المعاصرة، تضاهي أرقى? ما يقدم اليوم من عمارة، لكن بهوية، وليس عمارة دولية لا طعم لها، ليس عمارة يقال عنها جاهزة لأي مكان وهي في الواقع غير ملائمة لمناطقنا . علينا ان ندافع عن التراث لا من خلال تقديسه، بل من خلال الإفادة من مضمونه ومعرفة الأسباب وراء استمراريته وتشخيص ما هو ملائم فيه لمتطلباتنا اليوم. ندافع عن التراث من خلال فضح الاستيراد لعمارة البضاعة الرخيصة الكاسدة في أوربا. علينا أن نفضح عمارة الإزالة الشاملة للأحياء التراثية بحجة العصرنة أو الحداثة، وان نفضح عمارة (الجرافات) التي تزيل كل التراث لتزرع بدله (مكعبات وعلب كبريت) لا قيمة لها. رغم كل هذا، تستمر اليوم، مع الأسف، عمليات التدمير والتحطيم لكل المؤشرات التراثية حتى أصبحت الأحياء (الجديدة) في بغداد والقاهرة وصنعاء وتونس وفاس وغرداية متشابهة، عمارة باهتة لا فرق بينها.

انني اطرح السؤال الاتي:

هل المدن الغربية وحدها لها رموزها مثل، برج أيفل في باريس، ونافورة جنيف، واكروبولس أثينا وجامعة موسكو وتمثال الحرية في نيويورك وساعة بيج بن في لندن ... الخ ألا نملك رموزا معمارية تراثية،  لست اهدف من خلال هذا السؤال الى خلق رموز مفتعلة، بل ادعو إلى معرفة المدينة الشرقية والتعمق في دراسة التراث والخزين الحضاري لكل مدينة لأجل إحيائه.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1480 السبت 07/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم