حوارات عامة

يارا الغضبان: حياتي تشكلت من خلال التجربة التاريخية للنكبة

حاورها: صوفي ألاري [2]

20 نوفمبر2023

ترجمة: مراد غريبي

***

رغم وجود العديد من الفنانين والكتاب الفلسطينيين حول العالم، إلا أننا لا نسمع عنهم إلا القليل في الصحافة حول الحرب الحالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لذلك أجرينا مقابلة مع عالمة الأنثروبولوجيا والكاتبة يارا الغضبان، المولودة في دبي لعائلة فلسطينية لاجئة، والتي تعيش في كندا منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وهي تشرح علاقتها بفلسطين المفقودة، ولكن أيضًا الصدى العالمي لدى الشباب المعاصر الذي يثيره التخلي عن الفلسطينيين ومسألة الاستعمار.[3]3962 يارا الغضبان

* ما الذي يوحد المجتمع الفلسطيني، أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية أو غزة، وأولئك الذين يعيشون في المنفى في جميع أنحاء العالم؟

يارا الغضبان: ما يوحدنا هو تاريخ شعبنا، "النكبة" [النفي القسري للسكان العرب في فلسطين الانتدابية بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948]، جيلا بعد جيل. لقد تشكلت حياتي كلها من خلال هذه التجربة التاريخية التي مزقت أسلافي من أرضهم.

مع المنفى، كان علي أن أعيش في بلدان مختلفة، دون وضع قانوني، حتى وصلت إلى كندا - وينطبق الشيء نفسه على ملايين الفلسطينيين. الرابطة التي توحدنا ليست خيالية. إنه ملموس، حي إلى حد كبير، يمكن إثباته أنثروبولوجيا. لقد شكلتنا هويتنا الفلسطينية: حتى لو اختلفت مسارات المنفى، فإن شبكات التضامن قوية للغاية.

أتذكر مناقشة قبل بضع سنوات مع زميلة كندية من أصل يهودي. لم تستطع أن تفهم لماذا لم أضع القضية الفلسطينية جانبا عندما كان لدي حياة أخرى لأعيشها هنا في كندا. أجبت بشكل عفوي أنه طالما لم تكن هناك عدالة وتعويض عما عاشه أجدادي ووالدي، فلن أتمكن من النسيان وأنني سأظل مرتبطة بتاريخهم. في وقت لاحق، عندما كانت تقوم بحملة إلى جانب حركات السلام والتضامن مع القضية الفلسطينية، أخبرتني كم دفعتها مناقشتنا إلى التفكير.

* في كتابك ("أنا أرييل شارون" مذكرة محبرة "Mémoire d’encrier"، 2018)[4]، لديك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يتحدث وهو في غيبوبة. أنت تجعلينه يدرك التوازي بين الصدمة التي عاشها مجتمعه في المنفى وتلك التي عاشها و يعيشوها الفلسطينيون. لماذا يبدو من الصعب اليوم تحديد مصير مشترك؟

يارا الغضبان: أنا أميز بوضوح شديد بين الطبقات المؤسسية والحكومات من جهة، والشعوب من جهة أخرى. لطالما تميز تاريخ هذه الأرض بالتعددية. نحن موجودون بين ثلاث قارات من العالم القديم، مرت الهجرات البشرية الأولى عبر فلسطين، وأنا فخور بهذا التعقيد الذي يميزنا. أعتقد أن الأيديولوجية الصهيونية سعت إلى بناء هوية فريدة، ليس فقط تجاه الفلسطينيين، ولكن أيضا تجاه الإسرائيليين. لممارسة ذلك، كان من الضروري بناء الجدران ونقاط التفتيش والعيش في الحرب وجنون العظمة. لكن هذه الهوية الفريدة مختزلة للغاية: فهي ليست تجربة الشعب اليهودي ولا تجربة الشعب الفلسطيني. لقد كنا دائما معا، علينا أن نبدأ من ذلك. الاستمرار في العيش معا هو الحل الوحيد الممكن. وأرى جيلا جديدا من الشباب الذين يهتمون بالنضال من أجل العدالة ويؤكدون أن هويتهم اليهودية لا تختزل في دولة إسرائيل. إنه أمر صعب وشجاع، لكنه المستقبل. كما تتحمل المؤسسات الغربية نصيبها من المسؤولية عما يحدث اليوم، وعن الانتهاكات العديدة للقوانين الدولية التي صاغتها هي نفسها والتي هي أول من يتغاضى عنها. إذا كان العالم كله يحشد من أجل القضية الفلسطينية، فذلك لأن جميع أولئك الذين عاشوا سياقات الاستعمار يدركون الآليات السياسية ويقولون لحكوماتهم "ليس باسمنا يمكنكم القيام  بذلك". هذا ما يشجعني اليوم. ويجب على الحكومات أن تكون منتبهة جدا لجميع الشباب الذين يرفضون توريثهم و توريطهم في الإرث العنيف الذي يعيشون فيه وأن يعيدوا إنتاجه. نحن نعيش في نقطة تحول.

* كيف تصفين المجتمع المدني في فلسطين؟ ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه في المستقبل؟

يارا الغضبان: منذ فترة طويلة، هناك انفجار للفن الفلسطيني يعكس تنوع التجارب، بين أولئك الذين عاشوا الحصار والاعتداءات على الأرض، وأولئك الذين عاشوا في الخارج. هذه التعبيرات الفنية أساسية لتخيل مستقبل مختلف، وأنا حريصة جدا عليها. في الحركات الثورية التي أعقبت تاريخ الاستعمار، كانت الثقافة دائما في خدمة الثورة. قبل سنوات، أخبرتني الموسيقية، كاميليا جبران، أنها تعرضت أحيانا لانتقادات بسبب عزفها موسيقى لم تكن سياسية بما فيه الكفاية عندما كانت تعيش تحت الاحتلال في الضفة الغربية. أجابت أنه من الصعب تخيل كيف ستكون فلسطين إذا تم تحريرها يوما ما دون الاعتناء بتراثها الثقافي - لأنه بخلاف ذلك، كيف ستكون إعادة بناء بلد جديد؟ الثقافة هي الخيال. إذا افتقرنا إلى الخيال، فإننا نعيد إنتاج نفس السياقات.3963 يارا الغضبان

* هل نرى حقا أن الحلين، حل الدولة ثنائية القومية وحل الدولتين جنبا إلى جنب، يتحركان بعيدا عن بعضهما البعض؟

يارا الغضبان: لا أعرف ما هو الحل السياسي للغد، لكنني أعتقد أننا يجب أن نبقى منفتحين وألا نضع العربة أمام الحصان. قبل أن نتمكن من بناء حل سياسي، يجب علينا تعزيز سلسلة التضامن، وإجبار حكوماتنا على تغيير خطابها لأن خطابها لم يعد يعمل. ربما يكون من دواعي فخري ككاتبة أن أبقى منفتحة. على نطاق أوسع، نحتاج إلى توسيع خيالنا وقبول أننا نتجه نحو شيء جديد. المهمة الأولى التي يجب القيام بها هي إعادة بناء العلاقات، وتغيير نظام العالم - وإلا فإننا نخاطر بإعادة إنتاج غزة في جميع أنحاء هذا الكوكب. من المغري جدا أن نقول إن معاناتنا استثنائية، لكن لا، إنها جزء من تاريخ طويل من المعاناة الإنسانية والصراعات المشتركة، التي يجب أن نكون قادرين على توحيدها. قد يبدو الأمر طوباويا، لكن جيلا كاملا نشأ دون أن يعيش اليوتوبيا في القرن العشرين. أنا ولدت بعد اغتيال جميع الشخصيات الثورية العظيمة. يبدو الأمر كما لو أننا مقتنعون بأن اليوتوبيا لم تعد ممكنة، وأننا بحاجة إلى التركيز على قدرتنا الفردية على البقاء على قيد الحياة في النظام. إذا كنا حيث نحن، فذلك لأن جيلا كاملا عاش بدون أحلام، في عالم ساخر للغاية. عليك أن تفكر في شيء آخر.

* هل هذا دورك ككاتبة: تخيل بناء مشترك جديد في مواجهة الأزمة الحالية في غزة؟

يارا الغضبان: أثناء العمل على رواية "أنا أرييل شارون"، أدركت أن هذا الرجل ولد في فلسطين، عندما لم تكن دولة إسرائيل موجودة بعد، وأنه بالتالي فلسطيني. تساءلت عما كان سيكون مصيره لو اختار أن يبقى كذلك وأن يبني فلسطين بتاريخه، بهويته اليهودية. وينظر إليه الآن على أنه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، ولكن كان من الممكن أن يكون شيئا آخر. يجب أن يفسح الأدب المجال لهذا النوع من الممارسة. لا يمكنك أن تسأل عن الأطفال المصابين بصدمات نفسية في غزة، ولا يمكنك أن تسأل عن الأشخاص الذين فقدوا عائلاتهم بأكملها، والذين لا يستطيعون العثور على الطعام أو الماء، لذا فإن الأمر متروك لي، أنا التي تعيش في مكان آمن، للقيام بذلك. أعتقد أنه يمكننا إدخال مفردات جديدة في مجال الكلمات المنطقية. أعمل حاليا على رواية جديدة تتعارض مع تيار الخطاب المتوقع من الفلسطينيين، من أمر التخلي، والاستسلام، كما لو كان علينا الخضوع بعد خسارة المعركة. في هذه الرواية، أجرؤ على عكس الخطاب وتخيل سياق تكون فيه فلسطين هي المكان الوحيد الذي لا يزال بإمكان المرء العيش فيه على هذا الكوكب. أردت أن أخلق عالما موازيا لإظهار أن عالما آخر ممكن إذا كانت لديك الشجاعة لتخيله. كثيرا ما يسألني الناس كيف لا يزال بإمكاني الحفاظ على الأمل، لكن الأمر بسيط للغاية، هذا كل ما لدي! وإلى جانب ذلك، أصبح الأمل مشروعا سياسيا للغاية في العالم الذي نعيش فيه. أعتقد أنه في مرحلة ما ستكون هناك كتلة حرجة من الأشخاص الذين يأملون والذين سيكونون قادرين على التصرف وفقًا لذلك.

* لماذا، على الرغم من الانتقادات الإسرائيلية العديدة وبينما الوضع يتدهور، لا توجد دول عربية (مصر والأردن وغيرها) تعرض استقبال اللاجئين الفلسطينيين؟

يارا الغضبان: الوضع ليس جديدا، والدول العربية تستضيف الفلسطينيين منذ 75 عاما. أرفض الدخول في منطق الجدل الذي يرى سلسلة كاملة من الردود والردود المضادة تتكشف. لماذا في المقام الأول لا تحترم الدول الغربية مئات قرارات الأمم المتحدة لحماية المدنيين؟ ولو تم احترامها، لما طرح السؤال حتى. لماذا تطلب منا أن ننسى من أين أتينا؟ بدلا من ذلك، دعونا نفكر في كيفية العيش معا. القادة يواجهون الآن الجدار، وهم غير قادرين حتى على طلب وقف إطلاق النار، إنهم يواجهون مفارقاتهم. لا أريد أن أكون جزءا من هذا الإطار، الذي  يؤدي إلى  لا شيء.

***

انتهى

ترجمة: أ. مراد غريبي

 ..............................

[1]  ولدت عام 1976 في دبي لعائلة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا) هي عالمة أنثروبولوجيا فلسطينية كندية وعالمة  موسيقى عرقية وروائية ومترجمة وكاتبة مقالات.

[2]  صحفية، خريجة المدرسة الفرنسية  للدراسات العليا في علوم الإعلام و الاتصال، مع خبرة دولية في مناطق النزاع والأزمات الإنسانية.

[3]  https://www.philomag.com/articles/yara-el-ghadban-ma-vie-ete-modelee-par-lexperience-historique-de-la-nakba-qui-arrache

[4]  حاصلة على جائزة التنوع- bleu  Métropolis- ميتروبوليس بلوو عن مجلس فنون مونتريال سنة 2019

في المثقف اليوم