حوارات عامة

حوار مع د. هاشم عبود الموسوي في العمارة والعمران (2)

والمباني الذكية، فهل هذه المصطلحات من نسج الخيال أو التنبؤ بالعلوم التي ستكون مُتداولة بين البشر في الألفية الثالثة من تاريخ البشرية؟ وما نريد أن نتبين أمره في هذه المقابلة هو ما يخص المدن الألكترونية، فما هو شأنها؟

د. هاشم: تعيش المجتمعات البشرية مرحلة تحول جذري في مجمل قطاعات الحياة بسبب الثورة الالكترونية المعلوماتية والتي اخذت تجتاح كل جوانب الحياة , ووفق هذه المعطيات الجديدة لم يعد الثبات على اساليب التخطيط التقليدية امراً مجدياً, في ظل هذه التغيرات الجذرية والمتسارعة الخطى. واصبحنا كمخططين للمدن لابد من التساؤل : هل هناك اسباب حقيقية تدعونا لانشاء المدن الالكترونية في مجتمعاتنا التي لازالت في دور النمو, وما هي المؤسسات المسئولة عن انشائها, وما هي فوائدها ومزاياها في ظل بيئة تكنولوجية معلوماتية اجتاحتنا منذ مطلع القرن الحادي والعشرون. ان خبراء العلوم المختلفة) وبما فيهم خبراء الجغرافيا والتخطيط العمراني (منشغلون حالياً بشكل حقيقي في موازنة الوضع الراهن لهذه المجتمعات المختلفة مع الطوفان المعلوماتي واستخدام اجهزة الاتصال الحديثة فيها. لقد ارتبطت اساليب التخطيط الحضري التقليدية بعاملي احتساب المكان والزمان وحركة الانسان في داخل المدينة بين مكان سكنه ومكان عمله واماكن ممارساته المختلفة في قطاعات وظيفية مختلفة للمدينة مثل العمل والترويح والتعليم وممارسة التجارة والزراعة والصناعة وغيرها.

وعلى اساس المسافات التي يقطعها الانسان للوصول الى هذه القطاعات تم تخطيط المدينة, وتحديد وسائط النقل التي تساعد على اجتياز هذه المسافات, والتي ارتبطت هي الاخرى) اي وسائط النقل (بعامل تلويث اجواء المدينة وايجاد سلبيات معروفة لبيئتها.

وعندما حلت الثورة الالكترونية والمعلوماتية وتوفرت وسائل الاتصالات المتقدمة والسريعة فقد تم إلغاء الكثير من المسافات البينية عندما أصبح الإنسان يتعامل مع البريد والجامعة والمكتبة والمصرف وهو جالس في بيته, وأصبح السكن مرتبطاً )في بعض التخصصات( بمكان العمل.. فقد أصبحت المسافة صفراً. ولابد من أن يطرح علينا هذا التطور المشفوع بايجابيات بيئية من ضرورة إعادة النظر في إبعاد الحيز الجغرافي للنشاط الاجتماعي والاقتصادي الذي يتحرك فيه الإنسان في البيئة العمرانية الجديدة بعد ظهور ملامح بيئية جديدة للحياة الاجتماعية, وما يرافق ذلك من إعادة صياغة لشكل العلاقات الاجتماعية والقيم المجتمعية والنواحي النفسية بين الأفراد والجماعات بعد أن أصبح الحاسب الالي واحداً من أفراد العائلة.

ولابد من إعادة النظر في حجم ومساحات مرافق الترويح والاماكن العامة والخدمات التي ستكون أكثر استقبالاً لروادها بعدما سوف تختصر ساعات العمل وتصبح ساعات الترويح بنسبة عالية من حياة الإنسان اليومية, وبعدما اختصر الوقت اللازم لمزاولة الأنشطة اليومية الاجتماعية والاقتصادية والإدارية في الحياة اليومية الحضرية التقليدية.

 

م.صبا: هل ترى بأن مدننا العربية مُرشحة إلى أن تكون مدناً الكترونية؟

د. هاشم: تعاني المدينة العربية من مشكلات عديدة ومتباينة وربما تكون أهم مشكلاتنا في الوطن العربي بهذا الصدد هي مشكلة الإدارة بشكل عام والإدارة الحكومية بشكل خاص، أكثر من كونها مشكلة فقر أو نقص في الموارد، فالموارد الطبيعية والبشرية في وطننا العربي ثرية ومتوفرة ومتعددة الجوانب، لكن الإدارة والتخطيط لها هي المشكلة الرئيسية على اختلاف أسبابها ومقوماتها، وبعد أن ظهر دور المعلومات وبرزت أهميته وأصبح يلعب دوراً خطيراً في أجهزة الإدارة الحكومية المعاصرة، على مُستوياتها المختلفة ومن أهمها الجانب التخطيطي، ولقد أصبحت المعلومات الرقمية سلاحاً استراتيجياً في التعامل مع الظروف الحالية التي تتصف بالتغير السريع ولابد من التغلب على كافة المعوقات الروتينية من جهة والتواؤم مع طبيعة العصر ومنتجاته الالكترونية من جهة أخرى لكي يمكننا رسم سياسة استراتيجية للتنمية العمرانية متكاملة وواضحة على أسس ومعلومات دقيقة وسليمة.

 

م.صبا: كيف يتعامل التخطيط العمراني في ظل الثورة الرقمية؟

د. هاشم: تتعامل عملية التخطيط العمراني مع وظائف متعددة وقطاعات ومستويات مختلفة، فيتحرك التخطيط من مستوى تخطيط دولي إقليمي فتخطيط محلي على مستوى المدينة أو أجزاء من مدينة وصولاً إلى تصميم مواقع على مستوى حي أو حتى مجموعة سكنية أو بلوك سكني وهو كذلك يتعامل مع وظائف متعددة من استعمالات أراضي مختلفة وتوزيع الخدمات وتخطيط شبكة المرور آخذاً في الاعتبار البعد الاجتماعي الاقتصادي كما يأخذ في الاعتبار البعد السياسي الثقافي والبعد البيئي فنحن في العملية التخطيطية نتعامل مع الامكانيات والاحتياجات، نتعامل مع الإنسان في كافة المراحل المختلفة وبالتالي فنجد هناك مدخلات INPUTS من بيانات وإحصائيات ومعلومات يجب أن تتوافر في العملية التخطيطية [دراسات الوضع الراهن] ثم اختيارات واحتمالات [دراسات تحليلية] يجب أن تتخذ لكي تعطي بدائل تصميمية [دراسات النماذج والبدائل التصميمية] لتعطي في النهاية منتج تخطيطي [Output Urban- Planning] يخدم مجموعة من الناس تعيش في مكان وبيئة محدودة ويعبر عن رؤية ووجهة نظر مستقبلية.

لذلك نجد بطبيعة الحال كلما تطورت تقنية جمع البيانات والمعلومات كلما حصلنا على سرعة ووضوح ودقة هذه البيانات وكلما تطورت وسائل وتقنية تحليل المعلومات كلما اتسعت أمامنا القدرة على الرؤية والاختيار وصولاً للبدائل التصميمية الأفضل.

إن دقة عملية التنبؤ المستقبلي تتيح وضع الاحتمالات المتعددة وبالتالي وضوح وقوة الحلول والبدائل التصميمية المختلفة.

 

م.صبا: ما هو تصوركم لمدن الغد؟

د. هاشم: هناك حتمية وجود رؤية مستقبلية لمدينة الغد حيث تؤثر التكنولوجيا الحديثة ومدخلاتها من التكنولوجيا الرقمية وتكنولوجيا الطاقة وتكنولوجيا الإنشاءات ومواد البناء مثل تطور اللدائن ودخولها مجال مواد البناء، وتكنولوجيا وسائل المواصلات وتزويدها بتقنية الاتصالات الحديثة واتصالها بشبكات الستالايت مع إمكانيات استخدام الطاقة الشمسية في المركبات وكذلك الأنواع المتطورة من القطارات فائقة السرعة، وكل تلك التطورات في التكنولوجيا عامةً ستؤدي إلى وجود إمكانيات جديدة مما ينشئ احتياجات متغيرة ستؤدي إلى أساليب جديدة للحياة، هذه الأساليب تتأثر بأبعاد مختلفة مثل البعد البيئي والبعد السياسي الاقتصادي والثقافي، إلى غير ذلك.

وبالتالي تظهر لنا مدن الغد برؤية ومعايير متعددة وهذه المعايير نتصور بأنها ستحكمها محاور ثلاث:-

1-    المحور الأول: المحور التكنولوجي.

2-    المحور الثاني: المحور البيئي.

3-    المحول الثالث: المحور الحضاري الثقافي.

 

م.صبا: ماذا يمكن لنا أن نعرفه في مجال السكن الرقمي؟

د. هاشم: بما أن السكن الرقمي أصبح في متناول الحديث، فلابد أن نقول بأنه استطاعت التقنيات الحديثة توفير كثير من الخدمات للسكان في منازلهم من خلال شاشات الكمبيوتر والدخول على الإنترنت فمثلاً أصبح الآن من السهولة الحصول على خدمات التسوق عن طريق خدمة الإنترنت ووصول تلك الخدمات مباشرة إلى المسكن دون الحاجة للحركة من المسكن إلى مناطق التسوق ومن المؤكد أن اتساع هذه الخدمة وقدرتها لتشمل نطاقات أوسع بل اتساع النطاق لتشغيل بعض أجهزة السكن الكهربائية مثلاً عن بعد عن طريق الكمبيوتر الدفتري والمساعد الرقمي المحمول والتواصل لاسلكياً مع السكن وإرسال رسائل إلكترونية والدخول على الإنترنت وعلى? شبكات المعلومات كذلك على شبكات المؤسسات الداخلية وكل ذلك في سرعة وسهولة بالغة، وأثر ذلك على الحركة من السكن إلى المراكز التجارية والحركة من السكن إلى مراكز العمل، وما يتبعه من كثافة الحركة وعدد الرحلات اليومية من وإلى السكن.

سهولة الحصول على الخدمات الإدارية عن طريق شبكة الاتصالات مثل التعامل مع البنوك، والضرائب، واستصدار الأوراق الرسمية [شهادة الميلاد – قسيمة الزواج- إلخ] وغيرها من الخدمات الإدارية وتوفير إمكانية التعامل مع مؤسسات الدولة والمراكز المالية والإدارية بدون التحرك من السكن، وأثر ذلك على الحركة من وإلى؟

لقد أدى التطور السريع لأجهزة الكمبيوتر سواء كطاقة تشغيلية، أو كمساحة تخزين، وأسلوب عرض للرسومات البيانية والصور والأشكال بطريقة أكثر وضوحاً ودقة وسرعة، كذلك مع ظهور أجهزة العرض الجديدة كشاشات الكمبيوتر المتطورة، والشاشات كبيرة الحجم ذات تكنولوجيا الكريستال السائل [شاشات البلازما العملاقة] كل هذا مع استخدام الشبكات اللاسلكية فائقة السرعة فساعدت هذه التكنولوجيا الرقمية المتقدمة إلى سهولة الحصول على الخدمات التعليمية عن بعد بدون الحركة من السكن إلى مراكز التعليم، وأثر ذلك على كثافة الرحلات اليومية من السكن إلى الخدمات التعليمية؟

سهولة الحصول على وسائل الترفيه مثل الأفلام السينمائة – المسارح- عروض الأوبرا- الموسيقى إلى غير ذلك عن طرق شبكات الاتصال، بدون الحركة من السكن، وأثر ذلك على كثافة الرحلات اليومية من السكن إلى الخدمات الترفيهية؟

إن الخدمات الطبية أيضاً كان لها نصيب واضح فأصبح من الممكن التدخل الطبي والجراحي عن بعد وأصبحنا نسمع  عن كونسولتو من الأطباء عن بعد لتشخيص الحالات في أماكن متعددة.

سهولة أداء الكثير من الأعمال عن طرق تكنولوجيا الاتصالات وبالتالي تأثر كثافة الحركة من المسكن إلى العمل.

إن تلك التقنية متواجدة فعلاً وتظهر في المعارض المهتمة بتكنولوجيا الاتصالات وهي دائماً في تطور مثمر ومذهل وأصبحت تستعمل في الكثير من البلاد ومنها من تعتبر بلاد نامية، من المؤكد أن تطور هذه الإمكانيات وتأثيرها على عمليات التخطيط واضح فإذا كنا نتصور أن التخطيط الجيد ينشأ لخدمة الاحتياجات المختلفة للسكان ويتحقق عن طريق خلق تناغم بين استعمالات الأراضي وشبكة الطرق والمواصلات فما هي الرحلات اليومية التي يمكن على أساسها حساب كثافة الحركة من السكن إلى العمل أو من السكن إلى مناطق الترفيه ثم تحديد علاقة كل احتياج بالأخر وقوته فنخرج بشبكة الطرق والمواصلات التي تخدم هذه الكثافة الحركية، وهنا أنا لا أتحدث عن التطور التكنولوجي المنتظر في وسائل المواصلات أو وسائل الطاقة أو في مواد وأساليب البناء الجديدة وهي كلها عناصر في غاية الأهمية في تشكيل مدينة الغد ولكنني أتحدث فقط عن عنصر الحركة وكثافة تلك الحركة وتأثير ذلك على توزيع استعمالات الأراضي وانعكاسها على الهيكل العمراني.

م.صبا: ماذا بشأن المحور البيئي في هذا المجال؟

د. هاشم: إن الدراسات البيئية وانعكاسها على العمران تعددت وكثرت ولقد انعكست أهمية البعد البيئي في الدراسات التخطيطية العمرانية، لقد ظهرت بوضوح أهمية الدراسات البيئية منذ سبعينات القرن الماضي وظهرت الكتابات التي تحذر الدول من أثر الاستخدام السيئ للبيئة، ثم تكونت الجمعيات والأحزاب مثل الأحزاب الخضراء في مختلف أنحاء العالم لتنادي بالمحافظة  على البيئة وأدى ذلك إلى مؤتمر "ريودي جانيرو" 1992 ثم قمة الأرض 1996، وبالتالي انعكس هذا في الكتابات التي أهتمت بالتخطيط البيئي العمراني فكانت الأبعاد البيئية المحور الأساسي لبعض الرؤى مثل دراسات جنكس JENKS وبيرتون التي بحثت في أشكال المدن وظهرت في تلك الفترة 1980 – 1995 الأفكار التي تتبنى مبادئ ما يسمى بالعمارة الخضراء ومن أهمها كتابات روبرت وبرندا فالعمارة ذات التأثير الإيجابي على البيئية واستخدام العمارة التي تستفيد من مصادر الطاقة المتجددة في إطار متكامل للبيئة المبنية ومن المؤكد أننا لا نريد هنا الخوض في تفاصيل هذه الورقة البحثية لا تبحث هذه النقطة ولكننا ننوه فقط بالمحور البيئي وأهميته في تشكيل مدينة الغد وذلك عند دراسات الرؤية التخطيطية لمدن المستقبل.

 

م.صبا: هل لديكم تصور للهوية المحلية وكيفية المحافظة عليها في زمن الثورة الرقمية؟

د. هاشم: عندما نتحدث عن المحور الثقافي الحضاري فإننا نفيد بما يلي:

قد يتصور البعض أن التطور السريع والكبير المنتظر في تكنولوجيا الاتصالات عامةً سيؤدي بالضرورة لاختفاء الحدود بين البشر والثقافات المتعددة لكي تنصهر في حضارة عالمية واحدة وهذا ما يتنبا أو يتمناه الكثيرين ونرى كتابات كثيرة لمفكرين تدعوا لصراعات الحضارات إيذانا لميلاد حضارة عالمية واحدة ولكننا نتصور أنه بالرغم من وحدة البشر في كثير من الاحتياجات وتقارب كثير من المفاهيم خاصة المفاهيم الإنسانية عن الخير والشر، ولكن عبقرية الحضارة الإنسانية كمنت وستكمن باستمرار في تعددها واختلاف روافدها وهذا السبب وراء الثراء الحضاري، إن المحاولات الرامية لإدراج العالم كله تحت ثقافة وحضارة واحدة سيكون إيذانا بموت الحضارة الإنسانية ولذلك نتصور أن كثير من أبناء الحضارات العريقة سيحاولون دائماً الحفاظ على خصوصية هذه الحضارات وتأكيد قدرتها على التفاعل والتعامل مع الآخرين وهذا التفاعل والتعامل متعدد ومتنامي وليس له حدود وهو الأساس الرئيسي لنمو الحضارة الإنسانية.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1482 الاثنين 09/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم