حوارات عامة

من اجل مسرحنا .. حوار مع الفنان القدير عزيز خيون (1) / احمد جبار غريب

لاتهملها الذاكرة وقد نال الجوائز والتكريم أينما حل تثمينا لانجازاته الثرة وهو احد رهاناتنا المسرحية للمرحلة المقبلة في التطلع نحو واقع مسرحي أكثر تطورا ومواكبة لحاجات الناس واستيعاب مشكلاتهم بخطاب لغته الجمال والحب والإبداع ..التقيته وهو مثقل بالأفكار والهموم الفنية التي لاتبارح خيالاته وتأملاته من اجل مسرح عراقي معافى يتوق للقمة لإثبات ريادته في الخلق والإبداع في إرجاء المعمورة وقد طرحت عليه سيل من الأسئلة الجدليةاالتي تناقش جوانب مهمة من واقع مسرحنا الحالي اجاب عليها بروح الشفافية والفهم العالي ودقة التصويب في تشخيص مكامن الخلل ومعالجته

 

س1) في مسرحنا العراقي هناك خلق متفرّد وإنجاز متصاعد، رغم البيئة المضطربة، لمن تعزو ذلك؟

ج) أقول – هكذا أدعي – أن من يعيش جدول حياتنا المتغيّر الفصول، العنيف الهبوب، الذي ما أن تضع عواصفه أسلحتها المدمرّة، التي تقضم ظهر المنجز الحضاري والثقافي لعراقنا المبدع معنىً ومبنى، تقضم روح العراقي وحلمه الوثاب، حتى يهبُّ هذا العاصف المجنون ثانية، ليأتي على ما بُني وعُمرِّ وأزهر .. من يعيش تجربة حياتنا، عمقها التراجيدي، لا اعتقد أنه بقادرٍ أن يُثمر شيئاً، وإن صادف وأثمر، فلا يمكن لحاصل الثمر هذا أن يكون بقوة وجاذبية ما أسسنا له وربحناه .. لذا فإن ما أنجزه العقل العراقي الخلاق في مجال المسرح، وعلى مدى عقود من السنين، ما هو إلا تحصيل لعقل مركب، ومبدع، شهد له من شهد منذ أن خاطر عقل ذاك العراقي القديم وخطَّ السطور الأولى، لأول ظاهرة مسرحية حين أبدع أول ملحمة في الكون ألا وهي "ملحمة كلكامش" .. وبرغم أن عمر المسرح العراقي الحديث قارب القرنين من الزمان، إلا أن العقل العراقي المبتكر استطاع أن يسير جوار إبداع هاته الظاهرة المسرحية الجديدة .. المسرح، وأن يقدّم أطروحات هامة كتابة وتمثيلاً وإخراجاً، نقداً، وبحثاً برغم تحديات الزمن، ألاعيبه التي لا تنتهي، وتغير إيقاعات الظروف من صعب إلى أصعب، استثني من هذا الحساب الفترات التي تميزّت بهامش من الهدوء.

السبب الآخر في صعود الظاهرة المسرحية في العراق وتطّور ألوانها، أن هذا الفن وأعني به المسرح قد نما وسط رعاية متميزة من لدن الحركة الوطنية، حيث كان بمثابة السلاح لها، تنكبته لإيصال رسائل الكفاح والنضال لتنوير الجماهير العراقية وتثويرها من أجل طرد كل مستعمرٍ وغازٍ .. سبب آخر لهذا التطور والتميّز، هو أن مركب هاته الظاهرة المسرحية المهمة، توّفر له وبقصد تحركّه الفاعل نخبة من المسرحيين العراقيين الأفذاذ وضمن فترات مختلفة، ممن اتخذ من فن المسرح منهجاً وطريقة حياة، ومنحه من وقته وروحه الكثير كي ينتعش ويُعطي ...

لكن العامل الأهم بتقديري في خاصية تطور المسرح العراقي وخارج إرادة الظروف التي يتعرض لها الوطن هي الطبيعة العراقية، هاته الطبيعة العنيدة المخاطرة والمبتكرة هذا العراقي التوّاق أبداً لإنجاز ما يُثير ويُدهش ويخدم، العراقي الذي يرفض الإقامة في المناطق المعلومة، بل هو دائم التحليق والتطواف بحثاً عن موقع قدم غير مأهول يفلح به إبداع وثراء عقله الخلاق..

ومن الأسباب الأخرى التي جعلت من فن المسرح فناً عراقياً يتطور، توفرّ الإرادة لتشييد صرحين لدراسة هذا الفن وضمن اشتراطاته العلمية ألا وهما "معهد الفنون الجميلة" و "أكاديمية الفنون الجميلة" والفضاء الآخر لهذا التطور هو دراسة المسرح في الدول التي أشرّ لها الحظ في الاستقرار والأعمار، فحققّت فيه قفزات نوعية في طريق التطورّ وعلى الصعد كافة .. والذي يضاف لهاته الأسباب مجتمعة سبب لا يقل أهمية ألا وهو وجود فنانين ينطلقون من ثوابت اجتماعية ووطنية خاصة، وأعراف وتقاليد راسخة، فنانون تشبثوا بهذه الأرض .. طينها وماءها، رمادها وذهبها، جنتها ونارها، ربيعها وخريفها، سلمها وحربها، أقول تشبثوا بهذه الأرض الذهب، وانطقوها بكل ما هو لافت ومدهش، دون أن تضيق بهم دائرة الاعتذار أو الشكوى أو يتنازلوا عن شرف المهمة ...

هذه الأمور وغيرها، جعلت من الظاهرة المسرحية في العراق معملاً دائماً لإنتاج الجديد والمتطور، على الرغم من تحدّيات الدهرّ أنىّ كان لونها ...

 

س2) هل هناك ضرورة ملّحة لمسرحة واقعنا السياسي المرتبك واقتحامه بشكل فنّي من خلال صور مسرحية نقدية مباشرة أو مشفرّة في استخلاص هذه التجربة الوليدة ونقدها وإيجاد الحلول والرؤى والمعالجات البناءة إليها؟

ج) يطيب لي أن أقول أن المسرح مسارح، ألوان واتجاهات وتجربة تتجدّد، لا ولن تعرف التوقف والجمود، وإن حصل وتوقفت، فهذا يعني نهايةُ الإنسان، لأن التجربة المسرحية تتطوّر بتحرّك وتطوّر الإنسان، آلياته، منظومات عمله، حاجاته، تحدياته .. لذا فإن من مميزات هذا اللون الإبداعي قدرته الفذّة في التعامل مع أية ظاهرة إنسانية، ولكن هناك شرط ينبغي توافره ألا وهو الشرط الإبداعي، وهذا ما يُميز المسرح عن غيره، أو هو ما يميز أيّ نشاط فني، ما أريد قوله أنه من الممكن جداً، أقول من الممكن، في حالة تمكّن المسرحي من تأشير الزاوية المحددة للتعامل مع المشكلة السياسية المطروحة وبشكل ينتمي إلى الجمال، أي أن هاته المشكلة في حالة ولوجها بوابة التجربة المسرحية، كيف يتم التعامل معها نقداً ومعالجة إن أمكن، أو أن يتم عرضها بطريقة جمالية تنأى بها بعيداً عن لغة الخطاب اليومي، ودون الدخول في منطقة الحلول، كأن ينجح المسرحي في توفير حالة الاستفزاز جهة المتلّقي الذي تعب من هذه المشكلة، وملَّ الدخول في عتمة دهاليزها، بسبب الفترة الزمنية التي استغرقتها، والتضحيات الجسام، المادية والبشرية .. إذن أيّ سحرٍ تمتلك هذه الرؤية المسرحية للمشكلة السياسية المطروحة بحيث أنها قادرة على أن تُدير رقاب الجماهير العريضة صوب ضفتها، هذا جانب، الجانب الآخر ويحكم طبيعة المسرح التأملية بقصد استخلاص دروس التجربة وتقديم العِبرة، أو الدواء الشافي إذا جاز لي التعبير، فإن المسرح في العادة لا يدخل فضاء المشكلة أيّاً كان نوعها إلا بعد أن تتوّضح آفاقها، أي أنه لا يقترب منها أبّان صيرورتها المتحركة ومناخاتها المتغيرّة القلقة، لأن الواقع السياسي وفي المراحل المتأزمة واقع يتحرّك بسرعة، حتى لا يستطيع الخبر الصحفي، أو التحقيق التلفازي اللحاق به، وتقديم الإجابات والفوز بالنتائج، فكيف الحال بالمسرح، ثم إن المسرح وفي واحدٍ من تجلياته العديدة يرغب أن يكون فناً خالداً، لا أن يتعرض لموضوع ما، يناقشه اليوم وينقضه غداً ... ولكن عودة لاستهلال إجابتي من أن المسرح مسارح وهو بحكم كونه فناً حراً، فأن هذا العنصر التعبيري الفعّال يستطيع أن يدخل المعترك السياسي ضمن رؤية ما تجعله مقبولاً دون أن يقدّم خسارات كبيرة في هذا المجال قد تكلفه الندم لاحقاً، بحيث أنه من الممكن جداً الاستفادة من لون مسرحي، سبق وأن انتشر في بعض الدول الأوربية في مرحلة العشرينات والثلاثينات ألا وهو "مسرح الصحف الحيّة"، وهو تجربة كانت تستفيد مما ينشر من أحداث ووقائع سياسية في الصحف اليومية، ويتم إعدادها بطريقة ممسرحة ومن ثم طرحها إلى الجمهور .. والعرض يتطوّر بتطور المشكلة صوب التعقيد وصوب الحل، بحيث يضاف أليه ما يستجد، ويحذف منه ما يخفت أواره، ويضعف بريقه ...

أما على المستوى الشخصي فأنا لا أُجيز لفن المسرح أن يدخل ميدان مشكلة مازالت في طور الخصومة وعدم الوضوح، ممكن تتّم الإشارة لهذه المشكلة أو تلك بشكل أو بآخر في أي عمل مسرحي يتناول المشكلات والقضايا الكبرى .. أما إذا توفرنا على تجربة تُناقش المشهد السياسي دون الوقوع في سذاجة التسرّع وبساطة المتداول وفضيحة اليومي، بل تأخذ بأيدينا جهة الجمال، فمرحباً بهذه التجربة .. لأن المسرح من شأنه أن لا يغلق الأبواب، بل يجعلها مشرعة على الدوام، فتلك مزيته، وتلك طبيعته الحرّة ..

 

س3) من أفضل برأيك الشخصي في خلق التأثير الحسّي والذوقي لدى المتّلقي، المسرح الشعبي أو مسرح النخبة الذي يعتمد النص العربي غير الدراج؟

ج) قد يحتاج الدرس الأكاديمي، أو المنّظر المسرحي في سعيه لأن يُقـرّب الصورة لجمهور المتلقين طلبة وقراء، أن يلجأ إلى تسميات عديدة وتوصيفات معينة، ولكن بالنسبة لي كرجل مسرح، أجد أن الواجب يدفعني لأن أقول أن ليس هناك مسرحاً شعبياً بالرغم من وجوده، وليس هناك مسرحاً تجارياً، وليس هناك مسرحاً للنخبة أيضاً على الرغم من وجوده، إنما هناك مسرح أو لا مسرح .. مسرح ينتمي إلى جمهورية الإبداع، وينتمي إلى الجمال، بحيث يستطيع أن يخاطب الإنسان البسيط والمثقف على السواء، لأنه إذا حدث وأن أخطأت الأذن في استقبال بعض الأشياء، فأنا لا أشكُ أبداً في طاقة التلّقي العظمى التي تمتلكها العين والروح، ثم أن وظيفة المسرح وضرورته الاجتماعية هي التعليم والتثقيف المسلفن بالإمتاع والفائدة، وهذا الهدف الجمالي لا يفرّق في سعيه ونشاطه بين عامة الناس والشريحة المثقفة، فالتعليم والتثقيف والإمتاع، حاجة لا حدود لها، وتهم الجميع .. فالجمهور وبعامة شرائحه، حتى الأميّة منه يشاهد أفلام على درجة عالية من التعقيد، ويستطيع أن يتعامل معها، يفّك مغاليقها ويقيم حواراً معرفياً وجمالياً دون أن يشكو ويتذمر، ويحصل على المتعة الكاملة ..

إذن يستطيع المسرح الذي أعني وأحدد، أقول يستطيع هذا المسرح الحديث المتطوّر، المعاصر، الباحث، الممتع، المثقف ومن خلال صياغاته الجمالية أن يخاطب كل الأذواق مجتمعة بما يبتكره من جمال وسحر .. ثم أن هذا المسرح لا يقتصر في علاقته مع المتلّقي على تحديد واسطة واحدة للقول، فهو يتوسل اللغة الفصحى في إيصال مراميه وأهدافه، كما يتوسل اللهجة العامية، ولغة الإيماءة والإشارة "البانتومايم" على السواء، والأهم من ذلك هي ليس طبيعة الخطاب، إنما معناه، مضمونه وشكل وغنى صياغته .. هذه الأمور وحدها من تستقطب ذائقة المتلّقي صوب العرض المسرحي، وتفتح مساحات تفاعلاته واستقبالاته ..

من جانب آخر أن المسرح الشعبي ليس هو من ينطق باللهجة الدارجة، العاميّة بل هو الذي ينطق باللغة الفصحى .. أن من أسباب هاته التسمية أن يسمى المسرح الشعبي شعبياً، لأن قصصه، ومضامينه طالعة من عمق الشعب، معاناته، حقبه، معاركه، أيامه، حضاراته، قممه التاريخية. ولهذه الأسباب سمي بالمسرح الشعبي، لأنه يستثمر تراث الشعب لإبداعه أعمالاً درامية..

تكثيفاً لما أقول أن المهم في التجربة المسرحية ليس لسانها، دارجاً أم فصيحاً إنما مضمونها والشكل الذي يُعتمد في نحت هذا المضمون وإيصاله إلى المتلّقي دون التفريق بين شريحة وشريحة، إنما يكون هذا الخطاب وفي سعيه الجمالي الخلاق مستعداً لإرضاء الحاجة المعرفية والذوقية ولعامة الشعب.

       

       البقية في الجزءالقادمة

          احمد جبار غرب 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2180 الجمعة 13/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم