مدارات حوارية

ابراهيم أوحسين يحاور الكاتبة داليا الحديدي في مدارات حوارية

في هذه الحلقة من مدارات حوارية تستضيف المثقف الكاتبة داليا الحديدي، وحوار شامل وصريح أجراه معها الكاتب والأديب: ابراهيم أوحسين، فاهلا وسهلا بهما فيالمثقف.

الكاتبة داليا الحديدي: معنى النجاح في شرعتي يرادف القيمة بمعناها الحق لا الانتشار فحسب.

ابراهيم أوحسين: لم تجرفها سرعة الحداثة، ولم تؤد فروض الطاعة والولاء لمن سبقوها لحمل القلم وتسطير لواعجهم، ولم تحركها إغراءات الفضاءات الرقمية التي تقدس تكثيف الرأي واختصار الفكرة؛ إنما كتبت وتكتب بما تمليه وتفرضه صروف الحياة التي تأبى إلا أن تشيّد لكل فرد منا بيت أحزان. إنها الكاتبة المصرية المتألقة "داليا الحديدي"، المبدعة التي قبلت فتح قلبها لمنبر المثقف بكل أريحية؛ وكان هذا نص حوارنا معها كاملا :

س1: ابراهيم أوحسين: قال عباس العقاد: " للإنسان ثلاثة تعاريف: الإنسان كما خلقه الله، والإنسان كما يعرف نفسه، والإنسان كما يعرفه الناس"، فمن هي داليا الحديدي من بين هاته التعاريف؟

ج1: داليا الحديدي: بداية، أشكر مجلة المثقف لإتاحة الفرصة للتواصل مع قُرَّائها، وفيما يتعلق بالسؤال، فصدقًا لم أكن يومًا عبدة تعريفات، إذ لم تكن تعنيني من حيث هي، بقدر ما كنت أسعى سعي احتياج لمعرفة نفسي للبحث عن الجانب الماضوي فيها أو بالمصطلح الانجليزي: I was digging into myself

وللحق فقد أضطررت لمعرفة نفسي لغرض نفعي، نتيجة لمُلحة كانت تدفعني لمقاومة وطرد الفشل، أضف لذلك أن معرفة الإنسان لحاله هي أحد الخطوات في درب معرفته لربه. إذ كيف يعرف الإنسان ربه وهو يجهل نفسه أو لم يفكر فيها من الأساس، سيما أننا نعيش في مجتمع يصنف المفكر كمهنة. فقد اتفق الناس ووافقوا أن هناك من هو معنى بالتفكيربالنيابة عنهم، وعليهم الرضوخ وقبول ما فكر فيه كبار المفكرين!

وللتعريف عن نفسي فأنا من أسرة مصرية ولدت ونشأت في العاصمة رغم جذوري الصرف الريفية، وقد فوجئت أن أسرتي ككثر من الأسر في مجتمعاتنا العربية تتباين فيها المستويات الإجتماعية والمادية تباينًا فاقعًا، لكن المدهش أنهم يتقاربون ثقافيًا.

والدي كان طيارًا حربيًا، وقد لمست الصعوبات الحياتية اليومية التي عانتها أسرتي لإحداث توازن بين مستواها المادي المتوسط ونظيره الإجتماعي المرتفع نوعًا، ما فسر الطبيعة العملية الصرفة للبعض من أفرادعائلتي، فعلى سبيل المثال، فالليمون في بيتنا لم يكن يُعتصر، بل كان يُعض عليه بالنواجز، بالقواطع بل وبالأنياب. فأي قطرة تضيع منه هي بمثابة ضياع فرصة أو خسران مبين أو تفريط في مال يعتازه افراد العائلة لأن المصارف متنوعة، سواء لتلبية متطلبات العيش الكريم أو للتعليم والصحة بخلاف المجاملات والطوارئ والظهور بمظهر يتكافئ مع المكانة الإجتماعية التي تكافح العائلات لعدم التفريط فيها.

في ظل هكذا تحديات تواجهها أسرة مصرية، يكاد يتلاشى الوجود البارز لدور الثقافة او الكتاب أو الفنون، اللهم الا لمجارة المجتمع في محفل ما.

لكن بالمقابل، كانت عائلتي تولي عناية حقيقية بالتعليم النظامي لأنه في شرعتها مضمون، "إن تذاكر.. تنجح"، لكن يبدو أن الثقافة بالمعنى الدقيق كانت تُعامل كترف أو كماليات تعجز ميزانية الأسرة عن تكبد كُلفتها، فبيتنا على سبيل المثال كان يفتقرلمكتبة، بل مجرد "نيش" صغير تُصَف به بعض الكُتب التي تُعد على الأصابع من بينها كتب المكتبة الخضراء، فيما تضم أدراجه بعض الكراسات القديمة وبعض الهدايا والتذكارات بخلاف اللعب والكراكيب والصور، كما لم يكن هناك حرص على حضور المسارح أو الحفلات الموسيقية أو الندوات الفكرية إلا اليسير منها، فميزانية الأسرة لم تكن تسمح بهكذا ترف إلا في حدود ضيقة.

عادة ما قد تنبئ او يتوقع ثمار العلم من بيت تزرع فيه بذور الحكمة، إلا أنني لا استطيع الإدعاء اني سليلة بيت كان يُعنى بالثقافة والآداب والعلوم بشكل مُتأصل وإن كان يُقدرهم –كقيم- كل التقدير. لكن لم تكن بيئتي تمهد لميلاد كاتب أو أديب، رغم أن الأديب عبد العزيز سيد الأهل المستشار الثقافي السابق لمصر بلبنان والأستاذ بمعهد الدراسات الإسلامية ذو الثمانية والسبعين مؤلفًا، والحاصل على نيشان المعارف من الطبقة الأولى (لبنان 1959)، هذا الأديب الكبير كان من قرابة عائلة والدتي. لكن عدا عنه، كان كثر من أفراد عائلتنا يعملون بالتجارة.

 بالمقابل، أذكر أن أمي أنفقت من وقتها في تعليمي ثلاث لغات، ولن أنسى ما حييت يوم كنت أمية لا أضع سوادًا في بياض، وكانت تضع يدها فوق يدي وتنقش على الدفتر:

 A Majuscul

a miniscule

او يوم علمتني قاعدة نحوية فرنسية

Deux verbes qui se suivent, le deuxieme se met a l’infinitif.

أعود فاقول، إن القراءة لم تكن طقسًا يمارس في بيتنا، فوالدي كان مريض ضغط -ربما بسبب الطيران- وحينما وجدته يوما يقرأ رواية، أطريته، فاستوقفني قائلًا: للأسف يا داليا، أنا لا أعتبر نفسي قارئا جيد، فمتابعة كتاب تصيبني بالصداع الشديد وحتى قراءتي تكون على نحو ال Skipping ، أي القراءة السريعة، ولكم أكبرت فيه خصلة عدم الإدعاء الزائف ولكم استوقفني صدقه معي ومع نفسه. أما والدتي فلم يكن لديها من الأساس وقت للإطلاع رغم شغفها بالعلم، كما أخبرتني مرارًاأنها لطالما كانت تقرأ في الصغر .. هذه البيئة فسرت لي لماذا تهت طويلًا في الدرب.

- تعلمت في واحدة من أرقى مدارس مصر "المير دي ديو" وهي مدرسة فرنسية، وملء قلبي إمتنان لكل من علموني. لكن هل التعليم في مصر يساعد الطالب على معرفة نفسه أو يعينه على اكتشاف مواهبه؟

أحسب ان الإجابة معروفة سلفًا، لكن على أية حال، بالنسبة لي، ربما كانت مدرسة اللغة العربية "مدام سميرة" هي أول من نبهني لتميزي في الكتابة، حين منحتني تسعة ونصف من عشرة في مادة التعبير، سيما عندماأخبرتني أنها كانت على وشكمنحي العشرة كاملة اللهم إلا لخطأ املائي ..وفي العام ذاته، منحتني "مدام جورجت" مدرسة الفرنسي أعلى نمرة حازتها طالبة في التعبير الفرنسي، بل وقرأت ما كتبت على زملائي في الفصل، ولا انسى"مدام ليلى" وكانت تدرس لي الفرنسية في الصف الخامس الابتدائي.و أذكر أن فرط انسانيتها كان مثيلًا لما قرأت عنه في أشعار "جبران" فقد كانت بلسمًا على هيئةإنسان بكل ما تعنيه الكلمة.

لكم يؤثر فينا من علمونا.

قلبي عامر بالإمتنان لهؤلاء ولكل من نحت وجداني وأثقله بإهدائي من خيريته ولكل من صدق أن كل أخضر مهما كان غَرًا غريرًا سيثمر ذات يوم بالعناية والسُقيا والرفق.. لكنأحسب اني كنت بحاجة لجرس إنذار اقويلإرشادي للإستمرار في مسار الكتابة حيث كنت بطيئة البديهة وقليلة الثقة بقدراتي، لدرجة ان والدي سألني يومًا: ماذا تفعلين؟

فاجبته: لقد انتهيت للتو من قراءة "الأيام" لطه حسين

فقال: استحالة

المدهش أني صدقت "استحالة" أن أكون قرأت كتابا لعميد الأدب العربي وأنا دون الرابعة عشر.. فقد أعدمت التقدير من الأهل في وقت ما، ما جعلني أفتقر للثقة في أن مثلي يستطيع القراءة لكاتب كبير، ناهيك عن استيعاب مراده. إلي ان جاء يوم كانت أسرتي تجري تجهيزات استعدادًا لاستقبال ضيوف كبار، وكانت هناك سفرجي من "جروبي"يساعد والدتي، كما كنت أساعد بنفسي كون السفرجي يجهل أماكن الصحون.. وحين طلبت مني والدتي احضارغرضًا من غرفة الطعام، ذهبت لإسعفها لكني فتحت الدرج الخطأ، وإذ بي أجد زُهاء ثمانية كتب لأسماء كبار:"يوسف ادريس، إحسان عبد القدوس المنفلوطي، توفيق الحكيم وغيرهم...، " فوقع بصري على "الطعام لكل فم" للحكيم. لكن سرعان ماأغلقت الدرج وعدت أدراجي لمساعدة والدتي دون إخبارها بضالتي.. وبعدما انفض الجمع ومضى كل إلي غايته، عدت لغرفة الطعام وانتزعت الرواية من مخبأها والتهمتها في أيام، لكن لم أُطْلِع والدي على اطلاعي على هذا النص خشية التشكيك في قدراتي. لكن أمام نفسي، تيقنت من أهليتي وقدرتي على مطالعة الأدآب وأنه ليس بالصعوبة التي قد يُعتقَد أنه عليها.. وقد وصلني الحكيم للمنفلوطي ثم قادني الأخير لجبران وبدوره، سلمني جبران لأبي ماضي ومنه للعقاد ثم لغابريل غارسيا مكاركيز ومن ثم لبلزاك ولايزابيل الليندي وصولًا لجورج اورويل وهكذا دواليك، كاتب يرشدك لأخر وأديب يفتح لك أفاقًا لمعرفة المزيد من المعارفومن ثم معرفة نفسك، وشيئا فشيئا تكتشف أن ذهبك تحت طينك – فقط- إن أجدت التنقيب لاستخراجه من منجم الدرج بغرفة الطعام، لتكتشف في نفسك موهبة القراءة التي قد تساهم في أن تجعل منك كاتبًا أو أديبا.

لا أنكر صعوبة البدايات، لأن الخيارات تكون على مصراعيها أمامك وأنت وحدك عليك التنقيب في نفسك للتعرف على موهبتك، ثم كيف ستستخدم تلكالموهبة الخام لغزلها ونسجها وتكوين منتج رائج وقيّم منها، أقبل عليه الناس أم زهدوه، علمًا بأن كلمة موهبة بحد ذاتها كانت تحتاج لتفسير في الصغر. فلقد عشت زمن التلقين وقد أدخلوا علينا أن النجاح يعني الحصول على علامات نهائية للالتحاق بكليات قمة تسعفك للتعلق بوظيفة تؤمن لك بدورها راتبًا مقننا، وتحقق لك استقرارًا ماديًا يحول بينك وبين التسول .. وأزعم أن عملية الانسلاخ من تلك المفاهيم لم تكن هينة، أما التحقق نفسه فلم يكن مطروحًا أو مأمولًا أو مفهموًا من أساسه. بل لم يكن لدينا الجرأة على أن نحلم حلما مضفر بالرجاء ومعقوص بالطموح في جديلة سمراء متماسكة وطويلة .. لذا فمن الطبيعي أن أكون عشن ضمن الجوقة الذين ضلوا الطريق بكل ما تعنيه كلمة الضلال لفترة طويلة.. والمؤسف انك في صباح حياتك يتلبسك إعتقاد انك الوحيد الذيتعاني في معركة البحث عن الذات، ثم ما أن تشب لتدق أبواب صيف الحياة، وإذ بك تفاجأ بنيران شمس التجربة تلحفك، فتدرك أن الكائنات معك غرقى فيبحر تموج أمواجه بملوحة عرق الكادحين الذين ينقبون فيأنفسهم عن كنوز أودعها الله فيهم فيها صرة المواهب ..واحسب ان صدق الانسان مع حاله يجعله يناهض فكرة التميز المزيف باي شكل..فيرفض ان يستمر في وظيفة لا تحققه أو هواية لا تشبعه، وسرعان مايهجرها ليستوطن نفسه.

لذا، فلربما لا أخجل اليوم إن اعترفت أني كنت من هؤلاء الذين جربوا مهن شتى وهوايات مختلفة كمحاولة لمعرفة هل ستناسبني هذه المهنة، هل سأعلق مع تلكم الهواية، علمًا بأني لست سريعة الفهم، كما كان دراكي في الصغر بطيء نوعًا وكنت سهلة التشويش أوؤمن على معتقدات الكبار، وأعول على فكرة أن الأهل يعرفون مصلحتك أكثر منك.

 لكني بنهاية المطاف ترسخت لدي قناعة أن الله وحده هو من له قدرات ربانية تجعله يعرفك بشكل أكبر، لكن يظل التحدي الأكبر هو أنه بالرغم من قدراتك المحدودة، فعليك أنت نفسك وبنفسك معرفة حقيقة نفسك كونها ستقودك لمعرفة أحق مع ربك.

 وتبت ألسنة الناس وتب، وما أغناك عما يعتقدونه فيك.فهؤلاء لم يعيشوا حياتك ولم يختبروا ظرفك ولم ينتعلوا حذاءك، كما أنهم لن يتألموا لأوجاعك ناهيك عن كونهم لن يصرفوا مليمًا لعلاج تلكم الأوجاع. فكيف تعول على رأيهم فيك؟!

س2: ابراهيم أوحسين: أنتم من الكتاب والمدونين الحاضرين بقوة في الفضاء الرقمي، وتحظون بمتابعة هامة. في رأيكم، ما هي بعض أسباب النجاح عموما في تلكم الفضاءات الافتراضية؟

ج2: داليا الحديدي: بالنسبة لي الفضاء الرقمي كان فرصة لنشر كتاباتي قبل أي شيء، وقد يكون معيار النجاح لدى البعض هو الانتشار المحقق للشهرة. لكن بالنسبة لي فلكم استهدفت أن تُقرأ أعمالي على نطاق واسع. على أن معنى النجاح في شرعتي يرادف القيمة بمعناها الحق لا الإنتشار فحسب. ودائما ما يحضرني قول رب العالمين في سورة الرعد:

" فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ" (17)

فالمعنى القيم الخالد والفكرة الصادقة النافعة والمؤثرة في الناس هي معيار النجاح، سواءلاقت قبولهم أم عانت صدهم. ففي النهاية، لن يصح إلا الصحيح. ولن يبقى سوى القيم الذي ينفع الناس، أما عدد اللايكات، التعليقات والمشاركات فليست معيار للقيمة ولا يجب أن تكون علامة نجاح، فالمواقع الإباحية واليوتيوبات الساخرة وأخبار الباباراتزي تجد إقبال يفوقعشرات المراتأي موقع علمي أو منشور أدبي.

لكن بلا شك، فإن الفضاء الالكتروني أتاح فرصة ظهور الأعمال الأدبية والفنية للشباب ويسر لهم عرض مواهبهم وتعريف الناس بأعمالهم. لكن يظل معيار النجاح مختلف عليه، ففي حين يقيسه الرويبضة بمقدار اقبال الناس، يؤمن أخرون أن الأصل أن يقاس بتعاظم المنفعة الحدية للمنتج الأدبي أي بمقدار احتياج الناس لأن يعيش العمل فترة طويلة وأن يظل قائما بينهم لذلك يطلقون عليه عمل "قيم"، أي يظل العمل مرجعًا قائمًا، يُستند إليه حتى لو لم يطلع الناس عليه، فقد يوصي أب ابنه بدراسةأدب "ميخائيل نعيمة، فولتير، باولو كويلو، جوتة وغيرهم" دون أن يكون الأب ذاته مطلعًا على سطر مما كتبه هؤلاء، لكنه على ثقة بقيمةالذهب وإن لم يقتنيه.

ولن انكر ان المادة المكتوبة على وسائل التواصل تنتشر اكثر سيما لو تم مراعاة الإختصار مع إضافة الصورة الجذابة وأحيانا المصاحبة للموسيقى، لكون المنتج الفكري يعتاز لعوامل جذبلضمان اقبال الناس عليه .. وبالنهاية، هناك من يستخدم صفحتة لنشر مادة قيمة، فيما أخر يرضيه مجرد التواجد والفضفضة أو نشر صور أقدامه في الجبس بخلاف قائمة مصائبه درءًا للحسد، أو ربما يعن للبعض اختلاق واقع على قياسات محيط خياله لترضى وجوده الإفتراضي.

س3: ابراهيم أوحسين:  تأثر فن المقالة بمجموعة من الأجناس الأدبية الأخرى، فاستطاعت المقالة أن تخط لها مسارا من التطور والتحديث.كيف ترون تأثيرهاوجدواها في ظل ما نعيشه من جنون السرعة؟

ج3: داليا الحديدي: المقال مذ يوم أول لم يُخلق ليُخَلَد، فهو أشبه بخبر مطول لكن مشوب برأي الكاتب أو كما قسمه بعض النقاد إلى مقال ذاتي وآخَر موضوعي، فهو كما يعرفه الدكتور "ربيعي عبد الخالق":"أشبه بنفثة نثريةيفضي بها الكاتب فتكون لسان حاله، ومعرِض تطلعاته"، تماما كمنشورات الفيس بوك التي تحمل الكثير من الفضفضة وأحيانا "فشة خلق" .

ودعني أصرح لك أن الفضائيات ووسائل التواصل شجعت كل من لديه "كي بورد، وواي فاي"، على الكتابة دونما التقيد بدراسة فن المقالة، ثم دعني أصدمك إن نبا لعلمك أن عددًا لا بأس به ممن يكتبون المقال لا دراية له بالأجناس الأدبية الأخرى، ولا خبرة لهم بخط مسار تطور المقال ناهيك عن تحديثه. فالبعض يجد نفسه بإزاء فرصة، فليقتنصها، لذا، فقلما تجد روح علمية في بيئة المقال الحديثة، فالغالبية تضفي الطابع الذاتي، ومع هذا فالغريب انها تخلو في ذات الوقت من اختلاف النظرات الفردية الخاصة حيث ينتشر أسلوب اقتباس مشاعر الأخرين، وإستعارة رؤى وأفكار الأخرين، ونقل منشوراتهم أو ابداعاتهم دون العنعنات أو الإشارة لإسم المرجع ودون إضافة أو تحليل. ما يعني أن هناك من ارتضى أن ينعق مع الناعقين، أن يكون حصان عربة وعبد لأسلوب سواه، عوضًا عنأن يكون سيدًالأسلوبه نفسه..هذا ولم أذكر بعد ما آلت إليه اللغة، فهي تغرغر وتنازع مع أنافسها الأخيرة، حيث جرت عملية الإغتيال في قنصلية اللغة وبيد أبناء وطنها.

و كما أن الاخبار يقتل بعضها بعضًا، الخبر الحديث يقتل سلفه القديم، فكذا، المقالات صارت تقضي على بعض، وقلما يعيش مقال اللهم إلا إذا قام الكاتب بجمع مقالاته ونشرها في كتاب. فقلما نجد مقالًا يُترقب كمقالات الأمس، تلك التي تؤرق مضاجع الذاكرة وتحفر الوجدان كمقالات مي زيادة، العقاد، هيكل، أحمد أمين ومصطفي وعلي أمين والزيات والرافعي.

 أضف الى ذلك أن في السابق، كان المتاح أمام القارئ يقتصر على المقالات المحلية لكتاب الوطن. فيما اليوم، فلم يعد للمقال دوره في ملئ الفراغ الأدبي لدى القراء، فالسوق أرحب والتنافس بين بضاعة الفكر على أشده في ظل إمكانية الوصول لأشهر كتاب المقالات في العالم بكبسة زر واحدة، والتحدي أمام الكاتب شبيه بالتحديات التي تواجه زوجة سلطان سليمان وهي تعلم أن عدد الجواري لديه لا حصر لها، وعليها كما على الكاتب، جذب القاري وانشاء علاقة نسب فكري معه مع الأخذ في الاعتبار أن قارئ اليوم، يصنف كمثقف ملول يحتاج لجرعة مركزة ومحلاه من المادة الأدبية ليلتهمها في أقل وقت ممكن كونه ينشد التنقل بين الفضائيات ومطالعة اليوتيوبات واعترف أن هذا يُعدأحدـصعب التحديات التي واجهتني سيما وأني لأعلم ـني مفرطة في التدقيق ما يستدعي تفصيلًا واسترسالًا يحتاج لوقت القارئ.

س4: ابراهيم أوحسين:  يقول عطاء كفافي في كتابه المقالة الأدبية ووظيفتها في العصر الحديث: من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في كاتب المقالة الأدبية، صدق إيمانه بما يكتب، وحرارة عاطفته لموضوعه، وخفة روحه في عرضه. ما رأيكم في هذا القول؟

ج4: داليا الحديدي: وهل يتوقع من مخلوق الإدعاء أن من الصفات التي ينبغي توافرها في كاتب المقال هي الكذب أوالتكسب والتقوت بالكتابة أوالإغراض؟ أتتوقع هكذا اعتراف غر من أي كاتب؟

أحسب أن ادعاء المثالية وارد، والتنظير بنظريات ضخمة او الترويج لمثل فخمة، أهين على الانسان من التطبيق، على أنالكاتب في قرارة نفسه يعلم أن الصدق بشكل عام وحرارة العاطفة وما ذكرتموه أعلاه هي نعوت إيجابية لا مراء فيها، لكن المحك في الممارسة. وإن أردت أن تسمع مني، فدعني انبهك الى أن ما يجب أن يتوفر في المقالة الأدبية هو: كاتب على درجة من الصدق مع الذات، بالاضافةلقارئ على درجة أعلى من الوعي كافية لنقد الغث من السمين.

س5: ابراهيم أوحسين: كتابك الموسوم ب "حكايات لباقي العمر" حوى القصة والمقالة والخاطرة، أكانت هذه التوليفة تحت قصد، أم إن القلم جرى مجراه دون نية مبيّتة؟

ج5: داليا الحديدي: كتابي "حكايات لباقي العمر" هو الإصدار الأول لي، وهو عبارة عن مجموعة مقالات منتقاه نشرت لي في الصحف على مدار عامين بخلاف عدد من القصص القصيرة والتي في مجملها نستطيع ادراجها في إطار توليفة لأدب النوستالجيا.

س6: ابراهيم أوحسين: نحت حكاياتك منحى استدعاء الماضي والسير بين دروب النوستالجيا، وكأنكم تعيشون ماضيا يأبى على مغادرة الذاكرة.. لماذا أغلب كتابات الأدباء تنحو هذا المنحى في نظركم؟

ج6: داليا الحديدي: يجب أن أعترف بكوني بدأت من حيث انتهى سواي من كبار الكتاب، فعادة ما يشرع الكاتب بنشر قصص وروايات، قد يقر بنسبها لبنات افكاره او ينكر نسبها لواقعه ثم قبيل اسدال الستار على حياته يشرع في كتابة سيرته الذاتية، في حين اني ولكوني شخصية "نوستالجيك" لأقصى الحدود، أنا من تلكم النوعية من البشر التي تعطر وسادتها بأطايب الذكريات قبل الإلتحاف بأحلام يقظة مفصلة على قياسات فكرية تناسبني، ادسها عمدًابينى الرؤى، نعم، أعيش اللحظة بكل ما فيها من حياة، إلا أني لا ألبث في استدعاء الماضي لأعيد معايشة المشهد باجترار الذكريات السعيدة والإستفادة من تجربة الأيام الصعبة.

وإن كان الماضي يأبي المغادرة.. ففي شرعتي، أجد نفسي أنا أيضًا أرفض طلاقه أو خلعه. على أني أجد حرجاً إزاء لتحدث نيابة عن غالبية الكتاب لرصد تجربتهم او لشرح اسباب تبنيهم لهذا النحو من الكتابة، ولكن دعني اسألك: كيف تفسر أنت تجاهل كاتب لأحداث حياته وهي ذخيرة تجاربه وكنزه ومعينه وزاده الذي يتمعيش به وبصلته التي يحدد تبعا لها صوابياته من زلاته؟

في اعتقادي، فإن أي إنسان كاتبًا كان اوحتى لو كان لا يعبأ بالأخبار، لا ينسى مرارة خبراته ولايتغافل عن حلاها ولا يجب عليه، فهي محفورة في جداريات الوجدان ومدونة بمخازن العقل، وبها نزن ونروز تجاربنا ونقارن بينها وبين سواها، ونتعجب من ردود افعالنا، وكيف كررنا أخطؤنا، ثم نرصد متى كففنا عن تبني نمط معين لسلوكنا، كما نحدد توقيت لحظة الإنطلاقأو نقطة التحول في الحياة ونتذكر من اختصرناهم ومن أقصيناهم في حياتنا ولما ..

إن الكتابة الذاتية هي بوح مقنن نكتبه بالأحباركما ننكتب فيه بهلام الذكريات، لننقرأمام العالم وأمام أنفسنا.إنها لحظة نقود فيها عجلة الزمن للخلف في لقطة حرفية على الورق، أو في قصة تستجمع فيها كل مواردك الإعرابيةللغوص في بحور أشعار أو مشاعر لامست طفولتك أو داعبتك مراهقتك حين كنتغر غرير .. هي كتابة شديدة الذاتية لكن لا يعدم فيها الكاتب الموضوعية إن أراد.

س7: ابراهيم أوحسين: قلتم في حكاية سيلفي مع فيروز : "أما أنا فأقول لكم: اركضوا وراء أحلامكم وعينكم عليها ساهرة ! ".

هل تعتقدون أن الشعوب العربية تستطيع أنت تحلم؟

ج7: داليا الحديدي: لن أتحدث نيابة عن الشعوب العربية ـو حتى الشعب المصري ولا يحق لي أن أقطع برأي عن سائر الشعوب. لكن يقيني يقين أن التعليم المتميز وشحذ الإدراك وإيقاظ العقول قادر على توعية الإنسان بحقه في الحلم وفي واجبه ازاء تحديد أهدافه والسعى لها سعيها.. أما أن يعيش أي فرد ولو أجنبي في بيئة لا توفر سوى تعليم نمطي، فهذا كفيل بطمسه من غرة رأسه لأخمص قدميه، لا طمس أحلامه فحسب..

وحتى لو أقررنا بوجود حالات استطاعت التغلب على واقعها وبيئتها كعميد الأدب العربي، فان الإستئناء يثبت القاعدة ولا ينفيها.

 فالحلم بحاجة لشخصية جسورة تدرك أن من حقها أن تعشق التفكير في الأشياء التي لم تحدث، شخصية حبلى بالكثير من التحديات والعناد لتحويل ما لا يحدث لشيء قابل للحدوث. شخصية لا تخشى رفض الأخرين أو إقصاء الأقربين الذين يتشدقون أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وأمام أول اختبار، يطردونك بإسم المقدس.

أه لو كانت أمسيات الطفولة محفوفة بالمخاطرة ولو في الأحلام، ليعربدون فيها للوصول لأمالهم الكبرى.

 اما لو فعلوها الصغار، لما سهر الكبارليعاقرون الليل في الحانات، فليل الحانات محفوف بالمتزوجين كما قالت الإعلامية هالة شحاتة.

اما أن يعيش اطفالنا مقيدين بسلسلة احكام ومحاذيرمن خلال مجتمع يتمتع بسطوة تكره الطفل على فعل يخالف ما يؤمن به، او من خلال أبائية تفرض سطوتها في فرض ارائها على الابناء بدءًا من إختيار الملبس حتى التدخل في انتقاء مسار الدراسة وقبول او رفض عروس الابن، ابائية توازي ديكتاتورية الزعماء العرب لكنها منتخبة باستعانة المقدس لحيازة الولاء ومن ثم يسهل عليها تعطيل استخدام العقل أواعاقته، أوعلى اقل تقدير تحجيمه، فمن يعلن ولاءه لأحد، فإنه ضمنيًا يوكله حق التفكير والإقتناع عنه. وهكذا يقيد انطلاق الأبن بحيث نقنن له صورة النجاح ونرسم له أُطر التفوق الذي لا يعدو ان يكون التخرج بمجموع يؤهله لدخول كليات القمة والالتحاق بالسلك الجامعي أو بوظيفة مرموقة كفيلة بإستدرار النقد الوفير لاستحلاب دخل الإبن، لإعانة أهله ماديًا لتجديد المطبخ والحمام وتزويج الأخوة والتكفل بالمصروفات.

نفعل كل ما سبق دون أدنى شعور بكوننانأطر أبناؤنا في صورة نمطية ولا نسمح لهم بارتكاب أخطاء في دروب الحياة لاختيار جادة الحق أومسارات الضلال، كما لم نختارها نحن سلفًا.

 هكذا منتج انساني، قمينا يتجريد الطفل من جينات ابداعه، فأنّى يؤمل منه أن يحلم أو أن يحمل إبداعًا او إضافة للكون؟ّ!

 وأنا اشير بأصابعي العشر لإتهام الأهل لإصرارهم الكؤود لاستعمار شخصية صغارهم حتى حرموهم النضوج كبارًا، كما منعوهم الطيش في ميعة الصبا.

س8: ابراهيم أوحسين: حكاياتك حديث للذات عن الذات رغم ما تحمله من رسائل إلى المتلقي.هل كتابك الأول لبنة أولى من  مشروع كبير اسمه سيرة ذاتية؟

ج8: داليا الحديدي: لا أجد غضاضة في الإعتراف أني من هؤلاء الذي وصفهم أحدد الكتاب أن" قلوبهم مثقوبة برصاص الذكريات"، فالأخيرة حين تهب عليك، تفتك بك كعاصفة رملية عارمة، فتعشى عن الإبصار، لكن تظل بصيرتك نافذة لأهمية تدوين لحظة معينة أو مرحلة اوربما حقبة ما ساهمت بسهم حاد في إحياء حياتك.. وكثيرًا ما تكون تداعيات الذاكرة ضاغطة ككرة ثلج تنحدر وتتدحرج من أعلى نقطة في رأس الإنسان، حتى تسقط أسفل الورق بين ناظريه، فترمي لتحقق هدف في وجدان القارئ والكاتب معًا. لكن صدقاً، لم أشرع بعد في التفكير في سرد سيرتي الذاتية بشكل دقيق .. لكن يحدث أن تندفع للكتابة للتأريخ عن سنة قاسية، بعج أن يعيل صبرك أمام رغبتك في تدوين تجربة كنت فيها أسير تأثير جديد ينتزع منك كل ما عاهدت نفسك عليه أنِفَاً، فتنتبه لكونك عشت عقدًا كاملًا في سنة واحدة، تركزت خلالها الخبرات والأحداث كطالب وجب عليه دراسة منهج العام كله في ليلة واحدة.

وعلى الجانب الأخر، كثيرا ما عايشت أحداث أحسب أن القدر يرسلها لي كمستنطقات، بحيث اشعر أن لسان حال القدر يهمس لي:"هيا أيتها الغبية، لقد مررتها لك وما عليك الا تصويب الهدف، انقلي المشهد، قصًا ولصقأ او اضيفي من بهارات بديع بلاغتك أو أحذفي ما تشائين." فانا أفضل الكتابة عن الحدث مع حذف الأسماء تجنبًا لحرج أي طرف على قيد الحياة أو على قيد الذاكرة.

س9: ابراهيم أوحسين:  ما تقييمكم للتجربة الشبابية الأدبية في الفضاء الأزرق؟

ج9: داليا الحديدي: في اطار ما اطلعت عليه، أجد أن الشباب استغل الفضاء الأزرق نشدانًا للضوء، فالتجربة الشبابية الأدبية قد تَحَقْق لها التحرر في فضاء الفيسبوك، ما سمح لبقعة الضوء أن تنتشروتترابط مع العالم، كما تركت فرصة ل " لوتارية" الأمل في إمكانية حدوث انتشار للعمل الأدبي على نطاق واسعإن تمكن الكتاب الشباب من استخدام الفضاء الازرق بشكل واع ومدرك لفرص تبادل المعلومات والأراء، وواع كذلك لكون الخدمات المجانية خدعة وأن أرباح الفضاء الأزرق يتم تحصيلها من الإعلانات ونقل بيانات المستخدمين . عصارة القول، أن حتى الأدآب والفنون بحاجة لرجال أعمال على هيئة ناشرين أو معلنين.

س10: ابراهيم أوحسين:  تحديات نشر الكتاب الأول هي نفسها تتكرر أمام كل كاتب عربي. هل أنقذ النشر الإلكتروني في نظركم الكاتب من التأليف في الظل؟

ج10: داليا الحديدي: التأليف والكتابة قد يساهمان في إمكانية احداث تخليد أدبي للكاتب، فإن انتهي عمره لن ينتهي مداد كتبه. وعلى هذا، فتبنى المؤلف، عربي كان أو أجنبي لهذا الطرح يحرضه على اجادة منتجه الفكري بغض النظر عن دخول مبيعات كتبه في سباق "الأكثر مبيعًا". لكن قد يتمكن أحد المتفيقهين من إدارة حديثا أدبيًا يعلو فيه صوت حروفه الرخيمة بشكل يضفي صفة الحكمة على مفرداته، ما يعني أن النشر الالكتروني قد يساهم في تضليل القاري بعرض عدد غير متناهي من المواد المكتوبة والتي لا تنتقد من قبل المتخصصين او الناشرين، اضف لهذا ان التعويل على النشر الالكتروني غير مضمون فكما أن الفيديوهات ال  VHS لم تعد تستخدم، حتى بات هناك صعوبة لمن تزوج في تسعينات القرن الماضي من مشاهدة الفيديو المصور ليوم عرسه، فكذلك قد تحدث تطورات تجعل ما تم تجميعه في ملف ورد لا يمكن فتحه مطالعته بعد خمسين عامًا.لذا، يظل الورق ضمينا في عملية البقاء.

س11: ابراهيم أوحسين:  كلمة أخيرة لمنبر مجلة المثقف. 

ج11: داليا الحديدي: أخيرًا، أود التعبير عن سعادتي بإجراء هذا الحديث المطول مع مجلة المثقف .. كما أرجو ألا أكون أفصحت عما في ضميري في كثير من شطط الصراحة.

 ***

حاورها : إبراهيم أوحسين.

صحيفة المثقف – مدارات حوارية

27 – 10 – 2018م

في المثقف اليوم