مدارات حوارية

عطفا على ما قد سبق.. حمودي الكناني يحاور الأديب د. صالح الرزوق في مدارات حوارية

في هذه الحلقة من مدارات حوارية تستضيف المثقف الأديب والناقد والمترجم الأكاديمي د. صالح الرزوق، وحوار شامل وصريح أجراه معه الأديب حمودي الكناني، فاهلا وسهلا بهما.

*** 

حمودي الكناني: مر اكثر من عامين وانا منقطع عن مواصلة الحوارات مع كتاب بستاننا الوارف الظلال صحيفة المثقف الغراء بسبب حمل ثقيل انوء به ابعدني عن الأصدقاء هنا، لكن "شهيد العلم" كما يلقبه اصدقاؤه الحمصيون قد سهل علي اختيار العنوان المناسب لهذا الحوار مع الدكتور صالح الرزوق "عطفا على ما قد سبق". وهو عنوان المجموعة القصصية للرزوق والتي ضمت قصة "ايفيت الصغيرة" والتي تحكي عن أول شابة يهودية حسناء يتعرف عليها في حي الجميلية الحلبي المعروف والتي يقول عنها كانت تدور دورات مكوكية من بيت أهلها إلى السوق وهي تحمل سلة الطعام وكأني بعينيه كانت تدوران كما تدور وتلفان كما تلف ولو كنت أعلم بهذا لسألته عن عدد الحسنوات من حي الجميلية ضمته قائمته وحلف اغلظ الإيمان انه لم يتعرف الا على ملهمة قصة ايفيت الصغيرة.

لكن لا بأس فالإحساس بالجمال يلهمك أسراره ويبوح لك بمكامن سحره. وكما توقعت جاءتني الإجابات عامة وبعضها جاء محايدا ولا لوم عليه لأنني اعرف تماما ما وراء الحكاية فالرجل كما قال يخاف ان يضع مبضعه على الورم لئلا ينتشر ويأكله اولا.

استاذ التكنلوجيا والعلوم التطبيقية قارئ نهم ويمكنني ان اطلق عليه bookworm فهو واسع الاطلاع وعميق في رؤيته هاله ما رأى من دمار لحق بالبنية الاجتماعية والتحتية في بلاده فالخسارة كبيرة حتما ولدت انكسارا كبيرا لديه ولدى امثاله من جيل الوطنية وشعورها الجارف، دعائي له براحة البال وعودة الغائبين والمغيبين وان تعود الدبكات الشعبية إلى كل ميدان وساحة في بلاد الياسمين ويعم الفرح مدنها وقراها وحاراتها ويستمر مسلسل بيت الحارة مواصلا جديد حلقاته والذي ما زالت كل بيوت العرب تتابع حلقاته بلا ملل، تحياتي وشكري للدكتور صالح الرزوق الذي ابكاني وانا اقرا اجوبته على أسئلة الحوار

المنجز الفكري والأدبي

- د. صالح الرزوق، أديب وناقد ومترجم، ينشر باللغتين العربية والانكليزية، طالما أثرى صفحات المثقف بمنجزه. حاز على جائزة المثقف لعام 2012م، وقد صدر له 25 كتابا باللغة العربية. بينها كتابان عن البيولوجيا والتكنولوجيا.

- كتاب واحد باللغة الانكليزية بالاشتراك مع فيليب تيرمان. نشرته جامعة غرين باولنغ ككتاب العدد في مجلتها MidAmerican Review. وهو عن الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين ابن مدينة حلب.

1200 صالح الرزوق 1أما اهم اصداراته الأخيرة:

- جدلية العنف والتسامح: قراءة في المشروع الاصلاحي لماجد الغرباوي. دار نينوى دمشق.

- موت الرواية: أزمة الخيال الفني بعد عام ١٩٨٥. دار ألف. بيروت ودمشق.

- تحرير الحداثة: الرواية المضادة في أعمال سعد محمد رحيم. دار نينوى. دمشق.

- الحركة الرومنسية في بواكير القصة السورية: رؤية في مرحلة. دار النور. ألمانيا. (أعادت مجلة الأقلام العراقية نشره ببغداد).

- حضور بصيغة الغائب: قصص وذكريات. دار الجندي. دمشق.

- وغير ذلك

***

حوار مع د. صالح الرزوق

س1: حمودي الكناني: الصديق الدكتور صالح الرزوق السلام عليكم، تحياتي واشواقي وبعد.. بادئ ذي بدء دكتورنا العزيز اتمنى ان تحدثنا عن صالح الرزوق، أين ترعرع وتربى، وما هو انحداره الاجتماعي، أين اكمل تعليمه الاولي والعالي وهل حقق ما كان يطمح اليه أم أنه اصطدم بواقع مليء بالحواجز الكونكريتية والمعوقات؟

ج1: د. صالح الرزوق: أشكر الأستاذ حمودي الكناني، نجم من نجوم القصة والقصيدة الحديثة. وبطل اتحاد الأدباء في كربلاء. أنا مولود في حلب، مستشفى القسيس، عام 1959. درست الإبتدائية في مدرسة هارون الرشيد. ثم في مدرسة عبد الرحمن الكواكبي. وأتممت تعليمي في مدرستي الأمين والمأمون. وكلتاهما في منطقة الجميلية من حلب. وهي حي اليهود المعروف. وهناك تعرفت على أول يهودية. شابة. رائعة الجمال. كنت أراها بصمت وهي تحمل سلة الطعام وتدور دورات مكوكية بين بيت أهلها والسوق. وكتبت عنها قصة ” إيفيت الصغيرة” المنشورة في مجموعتي “عطفا على ما سبق”. ثم تابعت دراساتي العليا في بولندا (غليفتسة - سيليزيان بوليتيكنيك)، واختتمت المطاف بإنكلترا (كولشيستير، نوتنغهام، بولتون). وحصلت على شهادتي الماجستير والدكتوراة في التكنولوجيا والعلوم التطبيقية. كانت جولة لا يمكن أن أنساها. ووفرتها لنا الدولة السورية في عداد خطة توسيع كوادر الجامعات. ويمكن أن تقول كما يسميني أصدقاء من حمص “شهيد العلم”. لا أعرف في هذا العالم غير الدراسة والكتابة.

هل حققت أهدافي بالحياة؟. .

لا والله.

لم أحقق شيئا لأن سوريا مكسورة. وتحترق. ونحن كنا من جيل يحمل المسائل الوطنية على كتفيه. وبصراحة أعتقد أنني كنت نائما أو منوما. وفتحت عيني عام 2012 لأشاهد عمق الدمار في البنية التحتية للمجتمع في سوريا. ربما الجيل القادم يعيد البناء ويحقق الأهداف التي كنا نسعى ونشقى من أجلها.

س2: حمودي الكناني: كما انت اديب وناقد تكتب القصة بإتقان وآراؤك النقدية عالية الدرجة لكنك في المقابل مترجم مرموق وارتبط اسمك بسكوت ماينر وقد ترجمت له اكثر من عمل وهو استاذ نقد ادبي امريكي، هل هناك علاقة شخصية ربطتكما دعتك لترجمة اعماله ام هناك مبررات نقدية فماذا يمثل لك هذا الشاعر على الساحة الامريكية بالذات؟؟

1200 صالح الرزوق 2ج2: د. صالح الرزوق: سكوت ماينار هو أستاذ الأدب الحديث في جامعة أوهايو، لانكستر. وهي جامعة صغيرة تبعد عن قرية متواضعة اسمها حلب بمقدار 4-5 كم. بمعنى أن الصدفة وضعتنا بطريق واحد. أنا أعيش في حلب وسط مليوني نسمة. وهو يعيش قرب حلب التي يبلغ تعداد سكانها 700 نسمة. لماينار جاذبية خاصة بالنسبة لي، تأتي من وضعه الوجودي ومن اختياراته الفنية. فهو أولا عازف على الماندولين. رقيق القلب. يكتب الشعر ويلحنه ثم يغنّيه مثل بوب ديلان الحائز على نوبل في الآداب. وبدأ مشوارنا معا لترجمة نماذج من الشعر السوري الحديث. وكان فريق العمل يضم أيضا فيليب تيرمان. وهو شاعر يهودي مهتم بالمشكلة الفلسطينية، بحثا عن توازن نفسي في عالم تتحكم به الأساطير والمدونة التي يخترعها الأقوياء والسياسيون. وتوسع المشروع ليشمل نماذج من الشعر والقصة. مثلا ترجمنا من العراق علي رشيد. ومن فلسطين ناصر رباح. ولا تزال حلقات السلسلة تتوالى. إنما أهم إنجاز هو نشر مختارات من أشعار السوري رياض الصالح الحسين المعروف بولائه لسوريا ومعارضته للفساد والأخطاء. وما يزيد من متانة العلاقة مع ماينار أنه أعاد كتابة ملحمة جلجامش شعريا. وآخر مجموعاته كانت “جلجامش وقصائد أخرى” وأهداها للمرحوم زاحم مطر. وللأسف توفي الصديق مطر قبل نشر المجموعة التي حملت اسمه على أول صفحة. وأذكر لماينار أيضا ولعه بشاعر بولندا الأكبرزبيجنيف هيربيرت. فقد كتب عنه مجموعته السابقة بعنوان “التصنيج - ترجمتها عزيف النحاسيات”. مثل هذه الشبكة الصغيرة التي تربط أوهايو بميزوبوتاميا. من فوق وارسو. أجده ظاهرة وجدانية وفنية تحمل هما بشريا عاما يتجاوز الحدود والأعراق.

بالنسبة للساحة الأمريكية أرى أنه كاتب مغامر. وهو يتمنى أن يتفوق على نفسه باستمرار. لكن أمريكا بلد عجيب. كما يقول بوش: في كل بيتين متجاورين تجد كاتبا شابا. لذلك الموهبة تحتاج لعضلات فنية أو رافعة رسمية لديها الإمكانيات ليتمكن الكاتب من الصمود. إنما أعتقد أنه وجد صوته. وهو الآن محرر مستشار لزاوية الترجمة في مجلة جامعة شارلستون والمسماة “كريزي هورس”. ودائما أجد في جعبته قصيدة قصيرة ولطيفة إن لم تكن ضربة حظ موفقة. إنه يبحث عن نفسه وعن صوته باستمرار ويدفع الحشود بمنكبيه. وأعتقد أنه يحب شارلز سيميك ومايكل سيمنس ومجموعة من الشعراء المهاجرين لما لديهم من حالات وجودية خاصة. ولا سيما أنه ابن عائلة إيطالية مهاجرة. وعاش وترعرع في حي للسود والمهجنين. إنه خريطة شعرية وثقافية بلا حدود واضحة.

س3: حمودي الكناني: كتبت القصة، ونصوص النثر، والنقد والمقالة وهناك من يقول ان الكاتب أي كاتب اذا توزع بين اجناس مختلفة يغرق فلو أنه اختص بجنس واحد لكان اكثر ثراءً وأغنى تجربة، فكيف لك أن تنقض هذا الرأي؟.

ج3: د. صالح الرزوق: معك حق. لكن ماذا أقول وأنا مصاب بالقلق. وموزع بين دراسة الزراعة في الجامعة. والنسيج في الماجستير. والبيئة في الدكتوراة. ثم أنا لا أعتد بنفسي كثيرا. وخجلان من هذا الحوار. كاتب صوته ضعيف مثلي يحتاج للتركيز. وغالبا ما أعود لنصوصي القديمة وأنقحها بكل قسوة تصل لدرجة التشريح والتكسير. ومجموعاتي تحمل عدة صياغات متباينة لبعض الشخصيات أو القصص.

س4: حمودي الكناني: حصل لنا عام 1947 تحول كبير في مسار القصيدة العمودية، إذ ظهر شاعران عراقيان كبيران هما نازك الملائكة والسياب، كسرا شكل هذه القصيدة وخرجا علينا بلون جديد ألا وهو الشعر الحر او شعر التفعيلة كما يسمى، تدعي الراحلة نازك الملائكة انها هي الرائدة التي سبقت السياب في قصيدتها الكوليرا لربما بأيام من شهر 12 من هذا العام فهي تدعي انها ارسلت قصيدتها الى اديبين كبيرين في لبنان تريد رأيهما في القصيدة، احدهما استحسنها وعده تجديدا في الشعر العربي والاخر لم يرق له ذلك بينما صدر للسياب ديوانه في نفس الشهر من تلك السنة فلمن تسجل الريادة في هذا المضمار وكيف ترى هذا التحول وكسر ضوابط العمود؟.

ج4: د. صالح الرزوق: لكليهما. وماذا يعني 12 يوما في عمر تاريخنا الحديث. نازك الملائكة تكتب وجدانيات تناشد الذات بصوت متألم يشبه التوبيخ الضمني. والسياب يكتب بإيقاع نفسي مضطرب يدل على خلافات مع الذات. كأنه يعيد تفسير مقولة سارتر: كلما نظرت في المرآة أجد أنني أختلف مع نفسي. والشعر الحر نوع من الخلاص وليس الإلغاء. فهو نقلة من فلسفة القانون والأب لفلسفة الذات والابن. وحتى المنطق يقف مع هذا التجديد. أي آلة تساعد البشرية على تخفيف آلامها ومجاعاتها تتعرض للتطوير. وبالنتيجة ننتهي إلى أجيال متعددة منها. لماذا لا يكون الشعر مثل العقل والآلة. العمالة الفكرية رديف للعمالة العضلية وإن وقف ضدها الستالينيون.

س5: حمودي الكناني: مذ فترة ليست ببعيدة جدا طغت على الساحة الشعرية العربية (ظاهرة) قصيدة النثر ومنهم من أجاد في كتابة هذا اللون حتى يجعلنا احيانا نهيم معه في اوديته الخضراء، في رأيي المتواضع انها ثورة على عمود الشعر الذي كثيرا ما يطربنا جميلُه ويجعلنا نغني القصيدة مع الشاعر فهل يا ترى سبب لجوء كتاب قصيدة النثر الى هذا الجنس هو عدم المامهم ببحور الشعر المعروفة وصعوبتها على من لا يمتلك الاذن الموسيقية أم ان هؤلاء الكتاب يجدون فيها فضاء رحبا يحلقون فيه وميدانا واسعا يطلقون فيه أعنة خيولهم ولمن تسجل الريادة في هذا الجنس؟.

ج5: د. صالح الرزوق: معك حق أيضا. أحيانا السهولة والتيسير ضد الإبداع. لكن القصيدة النثرية التي ولدت نثرية لها مبرراتها. نحن تأثرنا بالترجمات. وانتقلنا من حالة الكتابة إلى حالة التعايش. بمعنى أن الميزان تحول من قانون الكتابة إلى الحساسية الفنية. مثل تناقض المادة والروح. يمكن للروح أن تعيش بعد فناء الجسد من خلال الذكريات والأثر. وبهذه الطريقة أنظر للشعر النثري. ويمكن أن تقول الشيء نفسه بخصوص القصة القصيرة جدا. إنها سهلة وسريعة. ولكن لتكون مبررة يجب أن تعرف كيف تدفع القارئ للتفكير بالموضوع. وكيف تترك له مهمة رسم الشخصيات بخياله أو ملء الفراغ. ومن أيام قرأت لقصي الشيخ عسكر أربع قصص من سطر واحد. كل قصة تعادل حكمة تقربنا من معنى الحياة.

1200 صالح الرزوق 3س6: حمودي الكناني: هنالك شعراء قريضٍ مجيدون حد الادهاش لا تمل قراءة قصائدهم لا بل دواوينهم لكنهم عندما يكتبون قصيدة النثر لا نجدها بمستوى عمود شعرهم، لا ادري ربما لست موفقا في رأيي هذا فهل يتفضل علينا الدكتور الرزوق بإماطة اللثام عن وجه هذا (التباين) إن صحّت رؤيتي؟؟.

ج6: د. صالح الرزوق: قرأت لشعراء عمود قصائد نثر جميلة جدا. ومؤثرة جدا. ومنها مرثيات يحيى السماوي. ولا يوجد في ذهني شاعر خان نفسه وشعريته. وأود أن أقول إن السياب في أواخر حياته اقترب من القصيدة السطرية. وكاد أن يدخل في الشعر النثري. ولا يوجد عندي أدنى شك أن تطوره من العمود إلى التفعيلة ثم التفعيلة الخفيفة لا يصدر إلا عن ضرورة يجيزها الفن والمنطق. وأستطيع أن أقول ذلك عن أدونيس. بدأ بالعمود ثم وصل إلى النثريات في “قبر من أجل نيويورك”. إنها قصيدة معجزة بلغتها الملحمية. حيث تتطور على مستويين. إعجاب إنكاري. وإصرار على إسقاط ذاته وأمنياته على أبراج نيويورك. فهي ترتفع في عنان السماء كالجبال الراسخة لكن يعيش فيها ضعفاء ومحرومون ومجانين. وهنا موضع المأساة.

س7: حمودي الكناني: يقول كثير من المهتمين بالأدب عموما، أن هذا الزمن هو زمن السرد بكل اجناسه وأن جنس الرواية بالذات هو الطاغي في المشهد العربي على الشعر ومن وجهة نظر شخصية أرى أن هذا الرأي مبالغ فيه ومرد ذلك هو انحسار دَوْر السينما لأنها العامل الرئيس المشجع لكتابة هذا اللون فهل يا ترى أن هناك عزوفا من قبل الناس لتشكيل طوابير امام دُور السينما أم أن الكم الهائل من الاصدارات الجديدة لا يحمل بين طياته ما يشجع المنتجين والمخرجين والمهتمين بصناعة الافلام؟.

ج7: د. صالح الرزوق: السينما دخلت إلى كل بيت بالفضائيات والفيديو. وكل شخص لديه سينما متنقلة في جيبه باليوتيوب (الموبايل - الخليوي بلغة العرب). والعلاقة جدلية بين الرواية والسينما. نجيب محفوظ سيناريست. ومعظم الأعمال الأدبية تتحول إلى أفلام ومسلسلات. ومن فترة قريبة شاهدت فيلما إنجليزيا بعنوان “النشالة” وعلمت أنه من عمل روائي فاقتنيته. وأسعدني قراءته.

س7: حمودي الكناني: عصر النهضة في اوربا شهد كتابا وشعراء ساهمت كتاباتهم في اذكاء الوعي الجمعي في مجتمعاتهم حتى انهم اصبحوا قدوة ورموزا اجتماعية كبيرة، واذا ما رجعنا الى وطننا العربي نجد ايضا الكثير من الشعراء والكتاب استنهضوا الامة لكن الاستجابة كانت محدودة ان لم تكن معدومة وبقينا نرزح تحت وطأة الطغيان والاستبداد، فأين الخلل،هل هو فينا كأفراد وجماعات جعلنا نفضل التخلف على التقدم والامية على المعرفة؟.

ج7: د. صالح الرزوق: الشعر لا يبدل الواقع ولكن يساعد على التغني به أو إدراكه. وفي أوروبا واكب النهضة الفنية ثورة صناعية. أما نحن لا نزال نستهلك. ولهذا السبب تفوق لساننا على سيوفنا. حتى عرب الجاهلية كانوا شعراء معلقات تهز مشاعر أي قارئ في كل العالم. ولكن كانوا يقولون ما لا يفعلون. وكل قصائد المديح والتمجيد والافتخار بالذات قابلها احتلال أجنبي وعزلة بين كثبان رملية تعصف بها الرياح.

س8: حمودي الكناني: اعتقد انك تتفق معي حينما اقول أن حكامنا المستبدين ولا استثني منهم احدا من أجل ان يبقوا متمسكين بكراسيهم وعروشهم جعلونا متعمدين نئنُّ من وطأة الفقر لاحول لنا ولا قوة، واذا ما استنهضنا قوانا وخرجنا محتجين على الواقع المزرى جابهونا بكل شراسة وبطش فمن اعطاهم الحق أن يتسيدوا ويستبدوا، أ هو قدرنا أم انها بساطتنا أم هو الترويض الذي مورس علينا قرونا؟.

ج8: د. صالح الرزوق: الاستبداد آفة. وطغيان آل رومانوف أودى بهم لنهاية سوداء في روسيا. ودكتاتورية هتلر جعلت منه مجرما يلعنه التاريخ. لم يروضنا أحد إن شئت الحقيقة. إنما وضعنا العربي مختلف. لدينا أرض سليبة مع تخلف مركب. وهذا يجعل مفهوم الالتزام والحرية في صراع مستمر. وبرأيي إن الزمن كفيل بحل هذا الإشكال كما حصل في أمريكا اللاتينية أو روسيا وعموم شرق أوربا.

س9: حمودي الكناني: ارعدت السماء وزمجرت فأوحت لبو عزيزي ان يحرق نفسه فعصفت العاصفة في بلدان بعينها فدمرت وأفقرت وقتلت وهجرت الملايين بينما نرى هذا الامر لم يحدث في ممالك العرب فهل ان الناس في هذه الممالك تنعم ببحبوحة من العيش الرغيد ولا فاقة ولا حرمان ولا تعسف فيها أم ان لدى ملوكها تفويضا من الرب ان يحكموا باسمه والخروج عليهم يعتبر خروجا على الرب وجعلوا قول (اذا هبت رياحك فاغتنمها) وراءهم ظهريا؟؟

ج9: د. صالح الرزوق: تكلمنا كثيرا عن الملوك والسلاطين. وأدبياتنا حافلة بهذه المناقشات. ولكن الأنظمة لا تتساوى بظروفها. فالخليج مثلا ينعم ببحبوحة تسهل له تدبر أموره. بينما المغرب والأردن في حالة قريبة من القلق والتوجس بسبب انتشار الفقر والبطالة. وإن شئت رأيي كان الهدف أمريكيا بحتا. وهو تصفية حساب مع بقايا الاتحاد السوفياتي. ولذلك هربت تونس ومصر من المجزرة، بينما غرقت العراق وسوريا واليمن وليبيا بالدم لقمة رأسها. حيثما تجد بصطار العسكري السوفييتي سبحت الأرض بالدماء.

س10: حمودي الكناني: في قلبي حبٌ كبير لبلاد الياسمين سوريا العزيزة ووددت دائما زيارتها لأرى بعض الاصدقاء السوريين الذين جمعتني بهم الغربة في بلاد اليمن في اوائل تسعينيات القرن الماضي وبالرغم من علاقتي القوية بهم لكنهم كانوا يتحفظون بكلامهم وخاصة عن الوضع السياسي فلاحظت انهم يخافون بعضهم البعض تماما مثلما هو الوضع عندنا أيام حكم البعث فالحكم الشمولي واستبداده سواء في سوريا او في العراق جعلنا نخاف حتى من الحائط واتذكر ماذا فعله النظام في حماة في عهد الرئيس حافظ الاسد ولما هبت رياح ما سمي بالربيع العربي انتفض السوريون وطالبوا بالتغيير فجوبهوا بالقمع والبطش ومن حقهم ان ينتفضوا لكن بالمقابل انصاعوا للتدخلات والاموال الاتية من الخارج واستغل ما يعرف بتنظيم الدولة الوضع وقتل ودمر ونبش القبور واتلف الاثار وهذا عمل مشين بحق الانتفاضة والمطالبة بالحقوق وتحولت الانتفاضة الى حرب طائفية افرحت اعداء سوريا سواء اسرائيل او غيرها وأدت الى تدخل دول اخرى للانخراط في هذا الصراع، فما قولك عن هذه الحرب المستمرة منذ 2011 ولحد الان وهل في النهاية يحقق المنتفضون اهدافهم، أم ان نار الطائفية لن تخمد ونتائجها ستكون وخيمة على الشعب السوري المبتلى وهل تنحي الرئيس بشار الأسد هو الحل؟

ج10: د. صالح الرزوق: صديقي أستاذ حمودي.

الحرب حرب. أي نقطة دم مأسوف عليها حتى لو نزفت من أصبع عدوك وهو على الزناد. والخوف جريمة. ويترك في النفس البشرية فراغا يتحول مع الزمن إلى وعي باطن حتى أنت لا تعرف ماذا يدور فيه أو أنك تتهرب من مواجهته حفاظا على لقمة عيشك أو ضرب رأسك بجدار المعطيات. في حالتي أجامل حينما أخاف. وأبتعد حينما يزداد الخطر. وأعتقد أن المخاطر لا تزال تتضاعف وتتكاثر بمتوالية هندسية جنونية. الطائفية بلاء ابتلينا بها نحن وغيرنا. وأذكرك بما كان يجري في شمال إيرلندا. لكن الخاتمة السعيدة حان وقتها هناك بسبب التقدم الصناعي وبسبب علاقات العالم الودية مع بريطانيا. وأعتقد أن العالم يجامل تركيا في هذه الأزمة أكثر من سوريا. لأنها تمر بما يسميه الاقتصاديون المعجزة التركية. أتمنى أن نصل لنهاية سعيدة وبأسرع وقت ممكن. لكن هذا محال في هذه الظروف. لا يزال السم يفتك بالبدن. ولا أستطيع أن أقول إن ما يحصل يصب في مصلحة الثقافة أو المثقفين. بالعكس إنه يدمر الإحساس الجمالي الذي ندين له بوجودنا ويقربنا من المأساة المتوقعة. نهاية العالم تبدأ من تدمير وجه اللغة أو الجماليات البصرية كما قال جاك دريدا. وهناك جريمة بشعة ومقصودة تدمر إحساسنا وتقربنا من اللامبالاة والتخلي عن المقاومة أو الصمود. لا يمكن لأحد أن يدافع عن شيء لا يقتنع به.

س11: حمودي الكناني: تركيا اوردغان استغلت الوضع وسمحت لأعداد كبيرة من مختلف الدول لدخول سوريا والانضمام الى النصرة وداعش والجيش الحر وغيرها من المنظمات، ما هي غاية تركيا من هذا التدخل في الشأن السوري، هل هي الاطماع والحنين الى ايام العصملي، ام فعلا يخافون على بلدهم من الكرد علما أن هناك ما يقارب العشرين مليون مواطن كردي في تركيا، ام هناك كره دفين تجاه بشار الاسد من قبل العصملي الجديد؟؟

ج11: د. صالح الرزوق: تركيا ضجرت من سياسة البطاقة التموينية. والوقوف بالدور للحصول على كيس طحين أو مكيال من الأرز. وأعتقد أن هذا تناقض جوهري وضعها بمواجهة مع سياسة الندرة التي ابتليت بها سوريا باسم الاشتراكية. اشتراكية الفقر تدمير لنفسية الإنسان وقتل لموهبته وإرادته. وهناك حسابات أخرى. منها خشية تركيا من انفجار الغشاء الذي تحتمي خلفه بسبب وجود إسلاميين وأكراد وعرب. كما أنها ضجرت من استجداء أوروبا حق الانضمام للاتحاد الأوروبي. وهذا ما يوضحه الدكتور إحسان داغي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أنقرة للعلوم والتكنولوجيا في كتابه “تركيا بين الديمقراطية والعسكرة” وهو مجموعة مقالات عن أهمية الخيار الأوروبي لحماية هذه الديمقراطية الناشئة والتي يسميها ديمقراطية إسلامية. الأتراك بحالة مواجهة مع ماضيهم وخياراتهم. ولذلك يهمهم أن تكون العراق وسوريا وإيران خاصرة لينة - ضعيفة.

س12: حمودي الكناني: حسب ما علمت به انك غادرت بلادك مضطرا وانك تعيش الان في دولة خليجية سؤالي ما قبل الاخير ما هو الحل لإنهاء ما يجري في بلادك الآن؟

ج12: د. صالح الرزوق: لو عندي حل لأسعفت به نفسي. أنا مجبر على مغادرة سوريا. بالإكراه والضغط والتخويف والمقاطعة. ولم يكن معي غير كتاب وقلم. الآن موبايل ولا بتوب. رفعت الراية البيضاء وتركت نفسي وووضعت كل الأوراق بيد المجهول. من هو هذا المجهول الغامض الذي لا يسعني رؤية وجهه؟؟.

زوجتي؟. غادرت منذ عام 2014.

ابني. لا أعرف مصيره منذ عام 2013.

ذاتي الأخرى. أو روحي الهائمة في هذا القفر الغريب والذي نسميه العالم الآخر. أنا ميت. أنفاس الحياة صناعية. وموجودة برئة إنسان آخر غيري. لم يعد لدي قدرة على التنفس. اختنقت.

س13: حمودي الكناني: أخيرا دكتور، عرب النفط الى أين، وهل هذه الثروة كانت نعمة ام نقمة عليهم واصبحوا مادة تندر بسبب ما تعرضوا له من ابتزاز وفرض أتاوات من قبل الرئيس التاجر (الحاج) ترمب؟ هل هم فعلا كما وصفهم القرآن الكريم (خير أمة اخرجت للناس) أم ان هذا الخطاب ليس عاما وانما يخص جماعة بعينها؟

ج13: د. صالح الرزوق: الثروة نقمة. والسعادة نقمة. لكن أنى لي أن أعرف هل هم سعداء أم أشقياء. لا أعرف أحدا منهم. وكل معلوماتي تأتي من قراءاتي. لحسن الحظ من حوالي أسبوع اقتنيت “ناقة صالحة” للكويتي سعود السنعوسي. وهي تعالج صراع آل رشيد مع آل سعود وحلفائهم من عائلة الصباح. يعني هي من دروس الماضي. وقبل أن أفارق حلب اقتنيت بالصدفة كتابا مستعملا بعنوان “موت صغير” للسعودي محمد حسن علوان. وكانت أحداثه تدور في زمن الحلاج، وتتابع رحلته بين الأمصار مثل أي روح قلقة لا تعرف أين هي أين هي أرضها. وقبل سنوات قرأت “وترمي بشرر” لعبده خال. وكانت رواية كافكاوية عمودها الفقري الكوابيس في مكان بلا اسم وبفترة دون تاريخ محدد. وقبله قرأت للسعودي عادل حوشان “مساء أصعد الدرج”. وكانت الحبكة عن الحرب الأهلية في لبنان.

يا الله.

كلنا نهرب من أنفسنا. لا يوجد من يريد أن يتكلم. سأشتري القرود الثلاثة وأضعها على طاولتي: أبكم وأطرش وأعمى. هكذا هي الحياة في زمن الربيع العربي.

حاوره: حمودي الكناني

مدارات حوارية – صحيفة المثقف

 19 – 0 – 2019م

في المثقف اليوم