تقارير وتحقيقات

ممشى المشاهير في بغداد

نحاول أن نتشبث بالمخيلة حتى لو كانت بسعة الظل، حينما نراقب الأمكنة وهي على لائحة الموت، في إنتظار الدفن، ولعل أياً منا سيكون واحداً من إثنين، أحدهما الإحساس بعمق اللوعة حين يفقد المرء وطناً، والآخر سيستمع إلى هذه الحشرجة، كما يستمع إلى مقطع من مسرحية مأساوية لا يلبث أن ينساها بعد لحظات.

تلك المخيلة لم تعد قابلة للحضور كي يستعيد شارع الرشيد وجوده الماضي الجميل، الواقع خلاف الحلم، الشارع يرثي مجده المضاع! لم تعد الأماني وحدها قادرة ان تحيل الشارع الى ممشى للمشاهير في بغداد.

وهي فكرة قائمة جميلة وبسيطة، وعميقة في معناها، نفذتها دول عديدة في العالم، في مالمو من كبريات مدن السويد، أحالوا جسراً للمشاة إلى متحف لأحذية المشاهير من فنانين وأدباء وعلماء، وفي إحدى شوارع هوليود في ولاية لوس أنجلس الأمريكية، بدأت فكرة الممشى (walk of fam) عام 1959لمشاهير النجوم في السينما والموسيقي والادب والعلوم، بتثبيت نجمة خماسية على الارض تحمل إسم الشهير، منها على سبيل المثال الممثل شارلي شابلن، ورواد الفضاء الذين وطأت أقدامهم أرض القمر، ومحمد علي كلاي، الذي رفض أن توضع نجمته على الأرض، لئلا يطىء المارة اسم (محمد)، واحتراماً لرغبته وضعت نجمته على حائط مسرح كوداك، وهناك نجوم خصصت لشخصيات متخيلة، على غرار(ميكي ماوس)، وفرقة الروك.

الممشى تحول الى معلم سياحي مهم في هوليود، ووفر موارد مالية كبيرة لإدارة المدينة، ولا سبيل للمقارنة حقاً بين مدننا ومدن أخرى تأخذك الى دنيا تمر بها كالحلم... توحي لك بالمعاني كما يوحي لك الشعر.

يبدو لي للأسف الشديد ان مدننا تجهر عن نفسها انها مدن بلا ماضٍ، تريد أن تأخذ معها أعمارنا، فكلما أمعنّا في المراجعة إستطعنا أن  نتلمس قدرة الإنسان العراقي على تحويل الأماكن إلى رموز، ما الذي جرى إذاً.؟4019 ممشى المشاهير

شارع الرشيد كان طقساً من الطقوس المقدسة يمارسه البغداديون في خمسينات وستينات القرن الماضي، بتوازٍ تام مع طبيعة الحياة، وتجاسد صاف وتواصل روحي حميم، كان الشارع شرياناً من الشرايين المتدفقة النابضة بالجمال، في مرحلة شهدت التجديد وبدايات التنوير في العراق.

أحسب أن دهشة هذا الجيل وما بعده ستتضاعف لو علموا ان (أم كلثوم) غنت في مقهى (البلدية) الكائنة في الميدان، في ثلاثينيات القرن الماضي (المكان الآن خرابة للنفايات)، وكان الشعراء الزهاوي والرصافي والجواهري، يعبرون عن اللحظات الباهرة التي ولدت في الشارع، من الصعب ان نتصور على وجه الدقة لماذا إختار الملوك والباشوات والزعماء في العهدين الملكي والجمهوري، الحلاق الشهير في الرشيد حكمت الحلي الأنيق المهذب، غير تلك الصحبة الأنيسة الحانية في قص الشعر وتزيين الوجوه، التي دعت نوري السعيد وعبد الكريم قاسم ان يكونا من اصدقاء الحلي، لا يخفون عطشهم لشربت (حجي زبالة)، مع كعك السيد، ما الذي دعا الشاعر الغنائي  أحمد رامي القادم من وادي النيل، ليغرم بغناء محمد الگبنجي والمقام العراقي، وحين أراد أن يعلن عن هذا الحب، لم يستطع تحرير العاطفة، إلا بذاك الحوار من الصدق والعفوية مع الموسيقى والغناء دون خيلاء أو إدعاء، في حفل أقيم لضيوف مؤتمر الأدباء العرب في بغداد عام ١٩٦٤.

شارع الرشيد يؤرقه ماضيه حين يصحو، كلما داهم الحزن هاجسه، فيستفيق تطوف به الخيالات، مخضلة بإرتعاش الجراح، وحده يسكنه القلق كلما مرّ من أمام مقهى البرازيلية، أو مقهى البرلمان، أو عارف أغا، تتهادى مشيته أمام ستوديوهات التصوير، لعبد الرحمن محمد عارف وآرشاك، وانتران، يتراخى يبحث عن مقعد فارغ في مطعم عمو الياس، بعد إحتساء نبيذ الحياة في مطعم شريف وحداد، تختلج مدامعه خائفة حين لايرى أثراً للغائب طعمة فرمان وأبطال روايته (خمسة أصوات)، هناك في الزوايا اشباح لحسين مردان، والبياتي والسياب، وجواد سليم ومحمود صبري، ونزار عباس والونداوي.....

وحده. ينفق الليل، تؤنسه صالات السينما (الرويال، الحمراء، الوطني، ريكس، روكسي، الخيام، علاء الدين) يطوف به الحنين لثغور الصبايا في واجهات السينما، قيل انك يا سعاد حسني -زمزم - تسقين العطاشى، سأبحث عن حلمي وهواي في صورة الشحرورة المغنية صباح وهي تصهل من أعالي آثار بعلبك في لبنان.

أبارك فيك يا شارع الرشيد، هل فكرت في موعد لنا باللقاء؟ سأتحدث لك عن الطابوق الذي إنهال على رؤوسنا من أعالي مبانيك في عهد الزعيم، واعود إلى ذاك الزمن المنتفض مع متظاهري تشرين وكانون، لي حقوق عليك وانت تقاوم تاريخاً، كان الزمن المرّ يعاكسك، لكنك تبقى نقيض الموت، ونقيض اليأس، قد يطول المدى ويجيء الردى، والذي كنت تحذره قد حصل، أن تتحول إلى مدائن موحشة!! فإختر الآن أي المقادير شئت، أسوأها ان تكون جثة مهملة.

هب لي قبل ذلك ضوءاً من قناديل (اورزدي باك)، وحكمةً من مكتبة(مكنزي)، وكِسرةً من خبز باب الآغا، وموعد اللقاء قرب جامع مرجان، أو بيت الخضيري، وإن شئت عند أطلال (خان النبگة)، الذي إستباحوه وأحالوه إلى ركام، وهو المصنف ضمن الآثار المحمية في بغداد.

أما زلت تحلم ان ترصّع  ممراتك وزواياك بنجوم لمشاهيرك؟ كلهم مرّوا بشناشيلك وظلاك، حتى حسون الامريكي كان يرى فيك سبيلاً لمجد الحياة.

لم يعد ذلك بالإمكان يا شارع الرشيد، بعد أن صرت ما يشبه سراب صيف قائظ، ها أنت نحسٌ في الغروب، تلبس جلابيب الشحوب، أراك دامع العين تبكي مثل طفل، ليتها وفت لنا الأيام ما كنا إنتظرناه طويلاً، ضيعونا مثل قبضة رمل في التراب، سرقونا!! ماالذي تكتبه الآن ياشارع الرشيد الحزين؟؟ كل الذين عرفت مضوا، كن كما شئت وإختصر المسألة.

***

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم