تقارير وتحقيقات

منتدى الفكر التنويري التونسي يحتفي بتجربة الشاعر "يوسف رزوقة، بهلوان اللغة"

بحضور عدد من كتاب والأدباء والاعلاميين وجمهور الشعر انتظمت بمدينة الثقافة بتوني وضمن أنشطة ومنتديات منتدى الفكر التنويري التونسي بادارة الكاتب محمد المي وباشراف المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية لوزارة الشؤون الثقافية فعاليات الندوة التي كانت بمثابة التكريم للشاعر والروائي والاعلامي يوسف رزوقة وهي ندوة سبقتها ندوات وستليها أخرى حيث  بعثت لتترسخ تباعا لتكريم أعلام الثقافة التونسية..

في هذه الندوة تم تكريم الشاعر يوسف تحت عنوان لافت هو:  (يوسف رزوقة، بهلوان اللغة) وذلك من خلال عدد من المداخلات التي أتت على مسيرته لتشكل البورتريه من قبل شعراء مرحلته والنقاد ومن أحتضن تداربهم وبداياتهم بمرحه وضحكته العارمة وخصوصا لقاءاته بهم ومعهم لنذكر المنابر الاعلامية التي فتحها لهم ومنها بالصحافة والأيام ونادي الاربعاء الأدبي بالنادي الثقافي الطاهر الحداد وملتقى الأدباء الشبان بسيدي علوان بالمهدية وغير ذلك كثير... في الجلسة الفكرية، الأولى: سالم بو خداجة ( رئيسا)، كانت مداخلات كل من البشير المشرقي، حاتم النقاطي، آمال مختار، والحبيب المبروك

و في الجلسة الفكرة الثانية: بدر الدين بن هندة (رئيسا)، قدمت مداخلات لكل من سوف عبيد، خالد الماجري، هيام الفرشيشي وشمس الدين العوني. وكانت الجلستان مشفوعتين  بنقاش.  وفي الافتتاح تحدث محمد المي مدير المنتدى عن فلسفة النشاط والمضامين والكتب الصادرة عنه وفق اهتمام بالرموز والفاعلين قي الادب والثقافة والفكر ما يعززو جانبا مهما من تدوين الذاكرة الثقافية وذلك فضلا عن الجانب الاحتفائي والتثميني للتجارب .

و في كلمته تحدث الشاعر المحتفى به يوسف رزوقة عن قيمة الفكرة للمنتدى شاكرا المحاضرين والجمهور ومن جاء للمشاركة في هذا الحفل الأدبي اللافت..و تم بالمناسبة توزيع كتاب: الندوة وعنوانه "يوسف رزوقة، بهلوان العبارة " على الحضور، ومثل وثيقة انطوت على مداخلات المتدخلين.3829 yousef

و قرأ الشاعر موضوع الندوة شعرا ومن قصائده:

الأرض في متناول المنقار

هل كان يمكن أن أراك بجانبي

بمواصفات فراشة

لم تؤذ في يوم جناحيها

بجعلهما طعاما للحريق؟

كأن خارطة الطريق

تهم قطاع الطريق

ولا تهمك

أو كأنك أنت نفسك في عراك دائم

مع نفسك

التفتي تري

ماذا رأيت؟

الشيء غير الشيء

والرجل الذي في حالتيه ترينه رجلا

يفكر في الوصول إليك

عبر ثناء ثعلبه عليك

وأنت حواء الجديدة

كالتي سترينها و.. رأيتها

في دولة الدستوبيا

امرأة إلى مرآتها

الرجل الذي سترينه و.. رأيته

هو نفسه الرجل الذي يثني عليك

بثعلب ما، فيه محتال

إلى حد التحلي بالثقافة والتجلي:

نسخة عذراء

من بطل سيأتي ذات وهم..

والفراشة فيك

لا تحيا بمنأى عنك

فهي صنيعة الإهليلج الخفاق فيك

وما الفراشة فيك

إلا تلك أو تلك التي سيغرها شكل الثناء

فلا ترى إلاه شيئا

يجعل الشيء الذي فيها

يحلق أو يزقزق أو يحيد عن الطريق إلى الحريق

- ولي هنا، والليل ليل [ أن أوضح ما يلي ]:

لا ضد مجتمع الرجال أنا

ولا ضد النساء -

لكل مخلوق من الجنسين شكل حياته

في حالتيه:

نجاته وهلاكه

فقط السياق هنا

اقتضى ما يوجب الإيغال

في ما يجعل الإنسان إنسانا إلى شباكه

مع أن هذا الأمر

لا يعني هنا أحدا بشكل أو بآخر مطلقا

لا جاك دريدا ولا ميلان كونديرا

ولا حتى ابن جِنِّيّ

بفائض نحوه

أو سيبويه

يهمهم شكل العلاقة

بين مخلوقين من لحم ودمدمة كدمدمة الرعود

لكائن من كان أن يشقى كثيرا أو قليلا

تلك سكته

وللأنثى كما الذكر العلُوّ أو الغُلُوّ

توغلا في الجاذبية تلك أو تلك:

السماء بعيدة

والأرض في متناول المنقار..

هذا ما أرى..

أما أنا

فقد استطعت

بحيث لا امرأة هنا تحتك بي

برداءة امرأة بمفردها

قناعا وهي شتى

إلى رجل يمثلني

إذا لم يقتنع بيد على يده

بكى… ».

و من بين ماقدم نجد مداخلة ضمن تجربة الشاعر يوسف رزوقة وعنوانها " الشاعر يعلن حالة الطوارء " وهي قراءة في عمل شعري له تفاعلا بعد أخداث 11 سبتمبر 2001  وفيها " ... تعددت اصدارات الشاعر والروائي والكاتب يوسف رزوقة منذ ديوانه الأول " أمتاز عليك بأحزاني " سنة 1978 وفق نظرته المخصوصة لفعل الكتابة الابداعية حيث الشعر لديه والسرد كذالك مجال قول بالذات واعتمالاته تجاه الأنا والآخر في كون مربك يحتاج فيما يحتاج ارسال الذئب في العبارة وهي عبارته الشهيرة اذ الكتابة عنده ضرب من نظر الانا الثاقب وهي تجترح لحبرها عوالم تصلح لكائنات هشة بالشعر تبرأ وبالكلمات تسلم ...و لكن ..هل يسلم هذا العالم اذ تطير البرتقالة ويعوي الذئب... وتنتظم الحفلة الكونية على آخر أنعوقة للغراب...هو الشاعر يرى الامور هكذا على نحو يجعله منهمكا في رقصه الباذخ..." سأراقصني في الظلام...".

تجربة ثرية في الشعر والكتابة من عناوينها "حاء لسيدة الحلال.. حاء لسيدة الحرام.." ذات مربد ثمانيني ما جعل الشاعر جوالا في الكلمات يدعو لها ملامحه وجنونه وخروجه الدؤوب عن السائد والمعتاد.. صوته يشبهه وقصيدته كذالك يذهب بالحروف شعرا وسردا الى مناطق غير مطمئنة و آمنة ليكتب وكأنه " يستل خنجرا ليغمده في قفاه..".

في حوار مهم مع اسماعيل الفقيه ببيروت بتاريخ 03فيفري من سنة 2018 في مجلة " لها "

و حوابا عن سؤال فحواه " تكتب الحزن والفرح، لكنّ الحزن يبدو أقوى في نصّك، لماذا؟.." يقول يوسف رزوقة مجيبا كالتالي "..أوّل ديوان لي مهرته بـ»أمتاز عليك بأحزاني» عام 1978... نظرت فيه الى الحزن ومشتقّاته، ثمّ تلته مرحلة «الكتابة المبتهجة»، ففي إزاء انفجار المسافات، المفاهيم والمصطلحات واتساع رقعة الحريق في الذاكرة (قلق، ضغط، إحساس فاجع بانقراض السلالة أو بانتفاء الدور، إلى غير ذلك)، فإن المرحلة اقتضت مني التنظير لتحقيق مناعة الحضور لمواجهة شتى الضغوط الحافّة بالنص أو بصاحبه، عبر التسلح الدائم، ولو في أشد المواقف خسراناً أو انكساراً، بالروح الانتصارية، العالية والتزام الكتابة المبتهجة مع الوعي الاستثنائي بشائكية الواقع الحضيضي، المتقلّب والمنفجر: قطعاً مع خطابات النكسة وأيديولوجيا البكاء. لكن مع فقدان الزوجة والبنت وشيء من قداسة الوطن، عدت إلى ما كنت عليه من همّ عظيم، أكتبه ويكتبني كمتنفّس لي في عالم متدهور، ملتاث وضنين...".

في هذه السياقات من التجربة في الكتابة والحياة كانت صدمة العالم ذات سبتمبر ونعني سبتمبر 2001 حيث سقوط البرجين وما تبع ذلك من تداعيات .. وهنا صدر ديوانه الشعري الجديد وعنوانه  " إعلان حالة الطوارئ  " وذلك بعد عدد من المؤلفات الشعرية والأدبية الأخرى ومنها الكتاب الشعري بعنوان " أزهار ثاني أوكسيد التاريخ" عن دار تبْر الزمان.

هذا الكتاب الشعري خرج فيه الشاعر الى طور ابداعي آخر وهو مساءلة اللحظة الراهنة بتبدّلاتها الغريبة والمربكة وكذلك ما خلّفته من حالات درامية انخطف أثناءها هذا الكائن الانسان بشيء من الذهول والدهشة وبذلك سعى الشاعر الى ارباك الزمن الحضاري الذي يعيشه خروجا عن المألوف والعادي الذي جعل الناس ينهمرون في هذا السقوط المريع.. سقوط القيم سقوط الحالة (الأوريجنالية) الأصلية.

غلاف الكتاب الأمامي به لوحة من أمتع ما أبدع الفنان محمد العايب حيث سهول شمال غرب تونس بحر من الاخضرار، إنه الأمل والخصب وتوق الانسان للحياة.. ثم لوحة أخرى لرومان أوبالكا حيث الأرقام المفتوحة والمنثورة الى اللانهاية وصولا الى النفاذة المقحمة في الفضاء نفسه وهي صورة كما يقول الشاعر مع حصاد هذا الزمان، كائن مثل كائنات أخرى يسقط من علوّه.. بل يلوذ بأرض في هالة من الرعب المفتوح مخلفا فوقه كنز ونجوم السماء.. إنه الانتهاء المريع والسقوط الملغم.

ملغمة قرية الطائرين نياما / أفكك شفرة ما يحدث الآن/ أعلن حالة الطوارئ..

هذا هو إذن كتاب الشاعر.. بحدسه العيني على كائنات الكون وهي ترقص بفعل الكلمات.. قد تكون للأخ الأكبر الذي اعتلى سرة الوقت باسم العراء لكن الشاعر في هذه القصائد الممتدة على سنة كاملة هي سنة ما بعد أحداث 11 سبتمبر سعى إلى تمثل مختلف الصور ودلالاتها الجمالية بشيء من فداحة الاحساس واللذة أيضا.. الاحساس بأهمية الانتباه للسقوط وما سيحدث واللذة المتأتية من سذاجة الكائن الذي تحول الى رقم بل الى صورة من أسمى درجات الذل..

"...أيها الناجون من الآتي: فكّروا في المستقبل وهي لابن النفيس ويراقبك الأخ الأكبر.. تخيّل صورة الآتي، حذاء وهو مطبوع على وجه الى الأبد.

أرض الحقيقة والقناع/ رسالة أخرى بعنوان جديد.

أتهجى الأرض ومعجمها هذه الأرض المشقوقة أرملة حبلى بغد الغازي المتفرعن، حاميها وحراميها.. لا غرب ولا شرق، انفجر المضروب على يده وانهال على غده.. وعلى الشفتين تيبست الكلمة.. للأخ الأكبر عين.. همّها الأكبر: فرض اليد والنّار..

رقصة للتلاشي هي خاتمة الكتاب المفتوحة أبدا كعين الشاعر السعيد بحزنه حيث نخاع الخرائط والشمس المشرقة في صحراء العينين.."

إن لغة الشاعر يوسف رزوقة مرهفة في تركيبها وكذلك مربكة في ما تحدثه من بناء درامي يدخلنا إليه الشاعر بل يقحمنا فيها طوعا وكرها على نحو يدعو للتلاشي والضحك والعود الى أصل الأشياء.. الطارئة مثلا هناك في أرض الروح الطفولة حيث كان العالم رتيبا في إيقاعه بعيدا عن تدنيس العين والوجه وليس بهذا الشكل على الأقل.

رقصة الشاعر المنتشي بآلام يصفها الانسان.. هناك أصوات منبعثة تسمعها وأنت تغوص في إعلان.. هناك عالم آخر تتخيله بل تعيشه بمجرد الانصهار.

إن لحظة السقوط المريع من أمرّ اللحظات وهي في الحقيقة حالة وحقبة عنوانها الانهيار حيث عمد الكائن الى العمل على تحويل الكون الى قرية أزرار ومتحف مهجور في الآن نفسه من أجل أسر الكائن الآخر وجلبه إلى أرض القناع حتى تبقى أرض الحقيقة يبابا..

ما معنى أن يتفرعن الكائن ويفرض اليد والنار ثم لا يلبث أن يسقط بفعل خياله الخصب هكذا من علو شاهق ليس تسلية أو استعراضا بل هروبا.. هروب من ماذا.. من سقوط آخر.. كل هذا بسرعة فائقة وساخرة أيضا حيث يسقط الانسان أمام أرقامه التي سطر وهو يضعها ويحصيها.. الارتطام.. وهكذا أيضا يعمل الشاعر يوسف رزوقة على أن يرتطم الجميع بأرض الحقيقة ليعود الانسان الى جسده الناعم وألوانه الخضراء ويسقط بالتالي الحالمون بالنار.. بشفافية شعرية عالية وانسياب درامي مؤلم وبحث مسترسل عن معان قد يفضي إليها كل نص في هذا الاعلان.. يمجّد الشاعر يوسف رزوقة في سخرية أخرى غير ملفتة أحيانا "فرعنة " الكائن الانساني الخاوية التي لن تفضي إلا الى متاهة موحشة غير منتهية مثل أرقام رومان أوبالكا.. لحظة حاسمة يلتقي خلالها الشاعر بعصره وقراءة وشهادة وكذلك استباق لترميم ما يمكن ترميمه في معمار العقل البشري الذي صنع الأخ الأكبر.. في غفلة من أبراج البهجة والتاريخ...".

ندوة وكتاب واحتفاء قتلا للذاكرة المثقوبة وانتصارا لفعل الكتابة حيث التجربة بدلالاتها الانسانية والوجدانية والجمالية  ال.....باذخة.

***

شمس الدين العوني

في المثقف اليوم