أوركسترا

وللمؤامرات رجالها!!

يسري عبد الغنيكان يوليوس قيصر عند عودته إلى روما عام 45 قبل الميلاد بعد أن هزم بومبي، هو حاكم كافة أراضي الإمبراطورية الرومانية بدون منازع، وفي كل مكان كان يذهب إليه يكيلون له الإطراء، ويغدقون عليه كل ألوان التكريم .

كان قيصر بعد انتهاء الحرب الأهلية قد أصبغ على أعدائه كرمًا وعطفًا لا حدود لهما، فإنه لم يبق فقط على حياتهم، بل قلد بعضهم مناصب مهمة في الإمبراطورية الرومانية، وبرغم هذا، فقد كان في روما كثيرون ممن يخشونه ويكرهونه، كانوا ينظرون إليه كطاغية متحجر القلب، يريد حرمان الشعب الروماني من حريته، وذهبوا يظنون أنه يريد أن يجعل من نفسه ملكًا مستبدًا، وتذكروا معاناة روما القاسية تحت حكم ملكها الأخير .

وكان لقيصر في مجلس الشيوخ على وجه الخصوص أعداء كثيرون، وفي أول الأمر انضموا إلى المعجبين به نفاقًا وتملقًا، ولكنهم كانوا في الخفاء ساخطين عليه وعلى الإصلاحات التي يقوم بها، ولم يطل بهم الأمر حتى اتجهت أفكارهم إلى اغتيال يوليوس قيصر .

كان قيصر يعرف الخطر الذي هو مستهدف له، وقد كان هناك من حذروه مرارًا وتكرارًا، بيد أنه لم يعر هذا الأمر أدنى اهتمام، بل أمعن في هذا إلى حد أنه كان يصرف حرسه الخاص ويتجول دون أدنى حراسة، ورأى أعداءه أنهم لن يجدوا عناءً أو مشقة في قتل القيصر، وشيئًا فشيئًا تم استدراج إناس أكثر للاشتراك في تلك المؤامرة الخبيثة .

ولما كان من المقرر أن يبرح قيصر روما عاجلاً إلى (بارثيا)، فقد كان لا بد لهم من التحرك بسرعة، وتم تحديد يوم الخامس عشر من شهر مارس عام 44 قبل الميلاد موعدًا لتنفيذ الاغتيال، وكانت الخطة تقوم على قتل قيصر عندما يلقي خطابًا له في مجلس الشيوخ، فيقف أحد المتآمرين لتعويق مارك أنطونيو صديق قيصر الحميم لدى الباب، بينما يلتف الآخرون حول قيصر كأنما يقدمون له ملتمسًا، ثم يغمدون فيه خناجرهم .

1693  يوليوس قيصر

ولقد رويت فيما بعد العديد من القصص عن أحداث غريبة وقعت في عاصمة الإمبراطورية الرومانية (روما) عشية اليوم السابق للخامس عشر من شهر مارس، فقد حدثت عاصفة عاتية كلها بروق ورعود، وسمعت في أرجاء المدينة أصوات مرعبة كأصوات الأشباح والمردة، ويقال: إن درع الإله مارس قد هوى إلى الأرض محدثًا دويًا كبيرًا في قصر الكهانة، وساورت (كلبورنيا) زوجة قيصر أحلاما مخيفة أو كوابيس مزعجة، حتى إنها توسلت إلى زوجها في اليوم التالي ألا يذهب إلى مجلس الشيوخ، وآزرها في هذا العرافون، الذين قالوا: إن الطوالع غير مواتية ولا سارة ...!!

وكان من عادة يوليوس قيصر ألا يحفل بهذه الأمور، ولكنه للمرة الأولى لجًا إلى اللين أو الطاعة ووافق على ألا يذهب إلى مجلس الشيوخ، ومع ذلك فإن واحدًا من المتآمرين أقنعه بتغيير رأيه، وبينما هو يغادر بيته، هوى تمثاله القائم في الردهة على الأرض محدثًا دويًا مفزعًا .

ورغم ذلك مضى القيصر في طريقه، وفيما هو يدخل مجلس الشيوخ قدم له أحدهم لفافة مكتوبة بها تفصيل كامل للمؤامرة الإجرامية، ولم ينفسح الوقت أمام قيصر لقراءتها، إذ أحاط به في الحال رجال معادون، وراح برهة يقلب نظره في وجوه قتلته، وبعضهم رجال أبقى على حياتهم، وأسدى إليهم من قبل بعض أفضاله ومآثره، ثم لم يلبس أن فاضت روحه عند قاعدة تمثال بومبي، بعد ما أثخنوه بمئات الطعنات .

كان كثيرون من المتآمرين رجالاً ذوي خسة ونذالة في منازعهم، فعلوا ما فعلوا بدافع من الحسد والحقد والغيرة والأمل في الانتفاع والكسب، ولكن كان بينهم رجل واحد صادق الطوية، نقي القلب، صافي الضمير، يؤمن عن إخلاص بأنه لا بد من موت يوليوس قيصر لخير روما !!، كان هذا الرجل هو ماركوس بروتس، الذي كان قيصر يختصه بأشد الحب، إلى حد أن الكثيرين ظنوه ابنًا له، وهناك اعتقاد متواتر على مدى الأجيال بأن كلمات قيصر الأخيرة التي قال فيها " حتى أنت يا بروتس " لم يدفعه إليها سوى أساه الشديد لرؤية بروتس الطيب أو الذي كان طيبًا بين قتلته .

إن الروح الدافعة بين المتآمرين، والرجل الذي دبر المؤامرة، والذي أفلح في كسب تأييد بروتس الطيب، إنما كان هو (كايوس كاسيوس ليونجينوس)، ولقد كان، شأنه شأن معظم المتآمرين، ممن قاتلوا ضد قيصر في الحرب الأهلية، ثم منح العفو فيما بعد، وعين في منصب رفيع، كان خلقه ينطوي على الغيرة والحسد والعنف، وكان هو المسئول أكثر من أي رجل آخر عن المؤامرة التي دبرت ضد قيصر.

كان مارك أنطونيو من أقرباء قيصر، ومن أكثر أنصاره ثباتًا، وقد حارب معه في بلاد الغال، ثم فيما بعد أثناء الحرب الأهلية، هذا، ولقد أخطأ المتآمرون خطأ فادحاً حينما قرروا أنه ليس من الضروري قتل مارك أنطونيو مثل قيصر أيضًا، فقد كان هذا في النهاية سبب سقطتهم مرة واحدة، وفي أول الأمر، توارى أنطونيو منتظرًا أن يرى اتجاه الأحداث وتطورها، وفي خلال ذلك كان المتآمرون نهبًا للتردد، ولا يدرون ماذا تكون خطواتهم التالية؟، فلقد كانوا في لهفة كبيرة لالتزام جادة القانون بقدر ما وسعهم ذلك .

ولكن لكي يفعلوا هذا، فإنهم كانوا في حاجة إلى عون من مارك أنطونيو، والذي كان يتقلد في ذلك الوقت منصب القنصل، ثم لم يلبثوا آخر الأمر أن طلبوا منه إلقاء خطاب في جنازة قيصر، وهنا وجد أنطونيو فرصته المنشودة .

لقد كان الشعب الروماني في أعقاب الجريمة مكتئبًا حزينًا مشدوهًا، لا يدري كيف يفكر أو ماذا يفعل على وجه التحديد، ثم لم يلبث أنطونيو أن طالعه بخطبة حماسية هائلة ذكرهم فيها بكل ما فعله القيصر لروما من روائع الأعمال، من بلاد جديدة قام بفتحها، وأصبحت توابع لروما عاصمة الإمبراطورية الرومانية، ومن قوانين حكيمة شرعها، ومن مآثر عطف وكرم ومحبة ونبل أسداها إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين من الشعب الروماني .

والحق يقال إن هذا الخطاب الحماسي حرك مشاعر الجماهير، ولا سيما عندما استرسل أنطونيو يقول لهم : إن الأب العظيم للبلاد، ذلك الذي لم يستطع عدو أجنبي أن ينال منه أو يمسه بأذى، قد اغتيل على صورة من الخسة والغدر بادية، ها هنا في وطنه، وفي نفس البقعة التي طالما سار فيها مظفرًا .

وهكذا سرعان ما انقلبت المدينة روما بأسرها إلى شر حال من الاضطراب والهياج والضجيج، وسارع المتآمرون بالهروب من المدينة، ولقد اعتصموا بالولايات الشرقية في الإمبراطورية الرومانية، ونجحوا في إعداد جيش، ولكن بروتس وكاسيوس لقيا الهزيمة في عام 42  قبل الميلاد على أيدي أنطونيو وأكتوفيان (أوكتافيانوس) في معركة قيليبي .

ورغم كل ذلك فإن التآمر والخيانة أمر مرفوض مهما كانت الظروف والصروف والأحوال، وأيضًا القتل والاغتيال نوع من أعمال الهمجية والتوحش، وأبشع الأمور أن تأتي لك الضربة من أقرب الناس إليك، أو من الذين وثقت فيهم وأعطيتهم الكثير، ولسان الحال يقول : " حتى أنت يا بروتس "  !!

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم