أخبار ثقافية

رحلة في دروب الشاعر والرسام التونسي المقيم بباريس المهدي غلاب

الشعر هذا المسافر في الأزمنة والأمكنة ..يمنحه الكائن شيئا من ذهب اللغة والمعاني نشدانا للعلو وقولا بالذات في نشيدها العالي حيث اللغة ذاك الكون الفسيح ..الشعر هذا الطائر الباذخ يدفع بجناحيه ما تداعى من الانكسارات ولا يرتجي غير هبوب مفتوح على السماوات مثل رياح ناعمة..

الشعر هذا المبثوث في الأصوات والألوان والمشاهد ..بين التفاصيل والعناصر والأشياء..الشعر هذا النشيد الآخر للألوان وهي تتقصد معانيها حيث العوالم تشكل أمانيها وأحلامها المفعمة بالحيرة والأسئلة..

بين الشعر والفن التشكيلي فسحة الحوار والجوار ولا مجال عندها لغير الذهاب عميقا باتجاه المحاولة..محاولة التلاؤم والتعاطي الجمالي بين لونين من القول البليغ..نحتا لعظمة السؤال وقولا بالدهشة تتقصد البياض..هذا البياض الموعود بالسفر..سفر اللون والكلمات تجاهه..

آه أيتها الكلمات والألوان..

نمنحك شيئا من هدأة أحوالنا والأماني..

و لا نرتجي غير الفكرة الباذخة..

فمرحى للأيائل تنحت جمال الأكوان في بهائها..

مرحى للأغنية..

من هنا نلج عوالم الطفل وهو يمضي في رحلة التيه مع الألوان والكلمات يحاورها ويحاولها نحتا للقيمة وقولا بالمكانة تجاه الذات والأمكنة..الطفل المسافر من أزمنة ليقيم بالهناك..باريس التي بينها وبين الوطن الأم حمل هواجسه لا يلوي على غير الحلم محدقا باتجاه النجمة..من دواوينه نذكر "منازل الوجدان " و" أشتكي.. للقمر.. "...و رحلة الكتابة بين العمودي والحر والنثري..

بين القصيدة والتشكيل الفني كانت هواجسه وعوالمه التي ينشد بها وفيها ومن خلالها متعة السير تحت المطر..و هل ثمة أمتع للشاعر والفنان غير السير تحت مطر الحنين والاصغاء لزخاته..انها متعة لا تضاهى تخيرها الفنان الشاعر ..

صاحبنا هذا له حضوره التونسي والعربي والدولي حيث معارض الفنون التشكيلية ولقاءات الشعر..بمسحته التجريدية وكلماته الدالة على ذاته المسافرة في دروب الشعر وتفاصيلها..عمل الشاعر والتشكيلي المهدي غلاب على الامساك بناصية الحلم لا يلوي على غير المغامرة التي حملته الى باريس وعواصم أخرى ..هي فكرته المثلى في تعاطيه الجمالي بين الشعر واللون..بين الديوان واللوحة وبين منابر وقاعات الشعر والقاليريهات..انها براءة الكائن وهو يتقصد البحث في الدروب الوعرة عن تفاصيل كيانه..عن ذاته زمن المتغيرات والتداعيات السريعة والمربكة..

لقاءات شعرية وطنية وأوروبية وغيرها ..معارض بين أروقة المحرس وقصر خير الدين وبأوروبا وغيرها كذلك..شكلت الجزء المهم من تفاصيل الرحلة المفتوحة على الحنين والشجن وأسئلة الذات..الذات الحالمة والموجوعة في حلها وترحالها..

من ديوان " منازل الوجدان "قصيدة " قصبة الأحجيات" (معتقل الأغنيات ) صفحة 142...يقول المهدي غلاب :

".. وَمِنَ المَلاَمِ يُشَقُّ قَلْبُ العَاشِقِ

تَفْنَى الجِبَالُ وَصَدْعُهَا يَتَبَخَّرُ

**

عَصَفَ الزَّمَانُ بِحُلًمِنَا مُتشَائِمًا

فَجَرَى المُحَالُ كَمَا حَكَاهُ "مُظَفَّر..ُ"

المهدي غلاب الشاعر والرسام يواصل حلمه رغم الوجع العربي والانساني ديدنه الذهاب الى الآفاق وباتجاهها لا يرتجي غير كلمات يدونها وألوانا يبعثرها في البياض وهي

العزاء والسلوى في أكوان الانسان المتعب..يقول في شعر:

"... في كُلِّ شبْرٍ مِنَ الأَوْطَانِ مُعْضِلَةٌ

غَيْثًا يَمُرُّ وَلاَ يَجْتَاحُ مَسْكَبَةً

تَحْوِي المَيَادينُ مَا تَحْوِيهِ مِنْ تَرَفٍ

وَالقَفْرُ يَطْغَى طِبَاعَ العَرْبِ قَاطِبَةً

 نَحْيَا بِحُلْمٍ وَكُثْرُ الحُلْمِ يَحْكُمُنَا

وَالصُّبْحُ يَأْتِي يُلاقِي السُّخْطَ مَرْكَبَةً

يَا لَيْلُ قَلْبِي بِهِ الأَوْجَاعُ وَالسَّقَمُ

شَرْقًا يُعَادِي وَغَرْبًا عَدَّ مِسْطَبَةً

هَذِي دِيَارٌ بِهَا الإِمْتَاعُ يَسْجِنُنِي

كَمْ نشْتَهِي في قِلَاعِ الغَرْبِ قَنْطَرةً؟

مِنْ فَوْقِ سُورٍ عُيُونُ الأَرْضِ تَعْزِقُنِي

مِنْ تَحْتِهِ الكَأْسُ تَحْكِي الجَمْرَمُطْرِبَةً..."

شاعر باللون ورسام بالكلمات لتتداخل الهواجس وتنهمر القصيدة والرسمة على القماشة حيث العبارة المفعمة بالصدق تجاه الذات والأحوال محاورة ومحاولة تجاه صروح الابداع والامتاع..و من أعماله الأخيرة في الرسم عمل جديد بعنوان " معمار " (ماء ولون / ورق 220 غ ب.70 X100 باريس - أفريل 2019).

في هذا العمل حيز من سحر المعمار العربي الاسلامي بألوان الحنين والعراقة حيث البهاء المبثوث في الفضاء وعناصره من جدران وو نوافذ وسماء وصومعة ..هي صورة من صور الحنين والأصالة والينابيع الكامنة  في الوجدان..وجدان المهدي غلاب..الشاعر الرسام المسافر في الحلم بلوعة الفن وجمالياته..

 

شمس الدين العوني

 

في المثقف اليوم