ثقافة صحية

عندما تصبح المناعة خطراى / فخري مشكور

والفيروسات والفطريات والديدان وسائر الطفيليات التي تغزو الجسم من خارجه (وهو الدور الذي شبهناه بدور قوات الجيش) كما يقوم بحماية الجسم من الاخطار الداخيلة، أي خلايا الجسم التي تتحول الى سرطان (وهو الدور الذي شبهناه بدور قوات حفظ النظام كالشرطة والامن).

كما اشرنا في مقالة سابقة ان جهاز المناعة يشذّ احيانا فيصبح سلاحا ذا حدّين:

• حدٍّ يدافع عن الجسم ويمنع عنه الامراض (الدفاع عن الجسم)،

• وحدّ آخر يهاجم الجسم ويسبب له الامراض (الهجوم على الجسم)، وهذا ما سنتحدث عنه في هذه المقالة.

في المقالات السابقة قدّمنا الحديث عن الجانب الايجابي من عمل جهاز المناعة قبل الحديث عن الجانب السلبي لأسباب هي:

• إن الجانب السلبي لا يشغل الجهاز تماماً عن وظيفته الاصلية في الدفاع، فالجهاز في هذه الحالة يبقى يدافع عن البدن ضد الميكروبات الغازية من خارجه، كما يستمر في البحث عن الخلايا التي تتحول الى سرطان ليقضي عليها في مهدها.

• السلبية حالة نادرة تظهر عند بعض الاشخاص عندما يحصل عندهم خلل في جهاز المناعة يفشل معه في تمييز العدو من الصديق، فيهاجم خلايا الجسم وأنسجته وهو يظن انه يهاجم عدوّاً للجسم. ان الفشل في التمييز بين الصديق العدو من اخطر ما يتعرض له الانسان بسبب غروره أو جهله، ونتائج هذا الفشل كارثية بكل المقاييس.

• هذا الجانب السلبي يصدر عن «حسن نية» من جهاز المناعة لا عن عمد، وليس مَنْ طـَلبَ الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه.

• كما لا يحسن بنا ان ننسى لهذا الجهاز خدماته الجلى في الدفاع عن الجسم، فإن الحسنات يُذهبن السيئات، ونسيان الايجابيات بمجرد ظهور سلبية (أو ما نتصوره سلبية) يدل على قصر النظر ونكران الجميل، ومن شأن هذا الضعف العقلي والاخلاقي أن يؤدي الى اجراء «علاجي» خاطئ يشبه حل الجيش والقوات الامنية؛ علاجٍ يقوم على القضاء على جهاز المناعة بحجة انه اصبح عاملا مسببا للمرض. إن هذا التفكير السطحي يؤدي الى تجريد الجسم من كامل دفاعه فتنتهز الجراثيم الفرصة وتشن عليه هجوما كاسحا يقضي عليه عاجلاً أم آجلا.

طبيعة الخلل في امراض المناعة الذاتية

في عالم الطب لا نعرف بالضبط كيف ولماذا ومتى تفسد «قوات الجيش والشرطة» في الجسم فتبدأ بإلحاق الأذى به بصورة تشبه التفجيرات في المفاصل والجلد والقلب والكلى والاعصاب والعين في تجليات مرضية تكاد لا تترك موضعا سليما من بدن الانسان.

كل الذي نعلمه علماً (ولا نظنُّ ظناً) ان جهاز المناعة يفشل في التمييز بين الصديق (الذاتي) وبين العدو (غير الذاتي)، ولما كان الجهاز مجبولاً على مكافحة غير الذاتي (اي الذي ليس من الجسم) فانه يهاجم انسجة الجسم الطبيعية لاشتباهه بأنها غير ذاتية.

إجراءان ضروريان

خلافا لما يحصل في أجهزة الدولة، لا يمكن اكتشاف انحراف جهاز المناعة مبكرا ولو كنا حريصين على ذلك، ولذا لا ننتبه الى الانحراف الا بعد أن يسبب المرض... عندها نعرف ان جهاز المناعة اصيب بانحراف وأن علينا من الان فصاعدا ان نقوم باجراءين:

• نضعه تحت الرقابة لرصد نشاطاته كافة بعدما تبين لنا انحرافه، كيلا يستع الخرق على الراقع

• نقيد نشاطاته ونقلص صلاحياته بعدما ظهر انه أساء استخدامها.

ان هذين الاجراءين ضروريان من أجل ايقاف عملية التخريب التي تتعرض لها أنسجة الجسم المختلفة على يد الجهاز المنحرف. ومن واجب الطبيب الشريف المسارعة الى فرض الرقابة وتقليص الصلاحيات في أسرع وقت من دون ان تمنعه من ذلك حسابات الربح والخسارة الخاصة به، فالمريض اختار الطبيب واتمنه على بدنه وصحته باعتباره قويا وأمينا، قويا بحيث يستطيع تشخيص الانحراف وعلاجه، وأمينا لا يخون مريضه فيتردد في علاج المرض خوفاً أو طمعا.

يمارس الطبيب دور الرقابة من خلال الفحوص الدورية للمريض كي تكون صورة نشاط جهاز المناعة واضحة له وتكون الاجراءات العلاجية متناسبة مع النشاط التخريبي.

كما يمارس دور تقليص صلاحيات الجهاز من خلال الادوية التي تكبح المناعة فتحدد نشاطها في الدائرة الامينة ولا تتمدد لتخرب اعضاء الجسم وانسجته.

وبتزامن الرقابة والعلاج يمكن السيطرة على جهاز المناعة المنحرف بالادوية الخاصة والتي تحتاج الى علمٍ غزير وتجربة خبير، وهذا لا يتم الا على يد أطباء متخصصين ممن انفقوا في ذلك من عمرهم سنين، أما غيرالمتخصصين فلا يورطون أنفسهم في ما لا يعلمون، كي لا يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.

وغالبا ما يعمل المتخصصون في جهاز المناعة على شكل فريق يضم أكثر من طبيب يتشاورون في ما بينهم ويستشيرون غيرهم، فهم لا يأنفون عن مشورة عند الضرورة، ولا يتفردون برأي متسرّع ولا يصغون لمتملّق متنطّع، ليحصنوا أنفسهم من الاخطاء وليقدموا افضل الاداء.

دور العلاقة بين الطبيب والمريض

تلعب العلاقة بين الطبيب والمريض دورا حاسما في علاج أمراض المناعة الذاتية، فهذا النوع من الامراض يحتاج الى فترة طويلة نسبيا لتشخيصه يستعين فيها الطبيب بآخرين من مخبريين واطباء اشعة واطباء متخصصين في فروع أخرى تتكامل جهودهم لتثمر تشخيصاً للمرض ولاحقا علاجاً له.

ان طول الفترة وتداول المريض بين ايد متعددة يجعله يشعر بأنه ربما أصبح ضحية لمحاصصة بين الاطباء الهدف منها مصلحة الطبيب لا مصلحة المريض (كما الأمر في المحاصصات المعروفة). وما لم تكن هناك ثقة عالية في الطبيب فلا يمكن لأي طبيب أن يواصل دوره مع المريض.

بعد التشخيص تبقى الثقة العالية بالطبيب ضرورة لنجاح العلاج، ذلك لأن امراض المناعة الذاتية هي بطبيعتها أمراض مزمنة تستمر سنوات طويلة وقد تصاحب المريض الى آخر عمره، إذ لا يوجد داء شاف يتناوله المريض او عملية جراحية يجريها فيقتلع المرض «من عرقه»، كما يقول الفلاحون، وكما هو المتوقع عند معظم المرضى. إن دور الطبيب في امراض المناعة الذاتية هو السيطرة على المرض من خلال مراقبة جهاز المناعة وكبح نشاطه كبحا محسوبا بحيث يبقى نشاط الجهاز تحت السيطرة المركزية الصارمة مهما قيل فيها

وقد يتطلب العلاج اجراءات غير مألوفة للمريض، أو تظهر لبعض العلاجات آثار جانبية تبدو وكأنها أكثر أذىً من المرض نفسه، لكنها موقتة ولا يمكن اجتنابها لجني الاثار الايجابية لتلك العلاجات، وما لم تكن هناك ثقة عالية في الطبيب لا يمكن للطبيب أن يمضي في مهمته الى النهاية.

اما اذا كان الطبيب يضيف نصف اجرة المعاينة الى اجور العلاج لأنه استهلك في كتابة الوصفة قرطاسية كلفته 750 الف دينار، فهذا يجعل المريض ينتبه الى انه وقع في يد لص يلبس لباس طبيب.

كيف تنشأ هذه الثقة؟

تبدأ الثقة قبل الزيارة الاولى، فلا يمنح الثقة للطبيب بناء على ملامح وجهه او شكل شرواله او عباءته او قبائه، بل لابد أن يتأكد - قبل انتخاب الطبيب- من تاريخه، اعتباراً من طهارة مولده، الى البيئة التي نشأ فيها، الى أقرانه الذين عاشرهم، الى الدولة التي درس فيها، الى الشهادة التي حصل عليها للتأكد من انها ليست مزورة؛ او مشتراة؛ أو صحيحة لكنها ممنوحة على اساس شهادة زورها له «طبيب» مثله أيام المعارضة.

باختصار عليه أن يتأكد- كما قال أحد الشهداء المنسيين- من أن الطبيب ابن حلال ورزقه حلال.

وفي كل الاحوال الأفضل للمريض أن يبقى على مرضه من أن يعالجه طبيب لص او دجال.

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2300 الأثنين 10 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم