صحيفة المثقف

دهاليز جون أبدايك .. مرئيات الأرنب هاري لانهاية لها ! (1)

أبدايك مع ما تحمله روحه من انشغالات الشيخوخة والموت يفاجأنا بلغة غيرالتي اعتدنا عليها لدى قرائتنا لأعماله السابقة وهو مااصطلح على تسميته ب" الجمل الحديثة في اللغة " مع مقارنة ابداها المحللون مع نظيره الكاتب " فيليب روث " الذي كان التنافس واضحا بينهما قبل رحيل أبدايك لتصبح الساحة خالية بعد ان توجها بتجديده لهذا المفهوم في مجموعته الأخيرة .

 

ولد جون أبدايك في 18 مارس / اذار 1932 في بنسيلفانيا بأمريكا، وقد بدأت موهبته في الظهور أولا من خلال رسم الكاريكاتير الذي تركه بعد فترة متجها الى كتابة الشعر ثم القصة القصيرة ثم الرواية، ويجمع النقاد على استمرار فن الكاريكاتير في الظهور من خلال كتاباته، فلا تزال آثار مرحة من رسومه الكاريكاتيرية تتغلغل في كتاباته من قصة وشعر ورواية (1)، الا ان شهرته الادبية بدأت مع عمله في مجلة " نيويوركر " عام 1955 وحتى العام 1957، فقد بنى هذه الشهرة على منجزه الإبداعي الذي كان ينشره فيها والذي اتسم باسلوبه النثري الغنائي المتقن، وكانت روايته الأولى " هروب رابت " عام 1960 بداية لتكريس اسمه كروائي بين الاسماء اللامعة من كُتاب الرواية الامريكان، الرواية تتحدث عن " هاري أنجستروم " وهو أحد نجوم كرة السلة المدرسية والذي اربكته المسؤوليات العائلية فقرر الفرار من منزله هربا من حياته الرديئة، هذا الهروب أراد به أبدايك من حيث المعنى الدفين له أن يوبخ المجتمع الامريكي الذي يعاني من الإحباطات نتيجة السياسات القائمة آنذاك وهي بالتالي تعرية شاملة لما يعيشه ذلك المجتمع من تناقضات، هذه الرواية اصبحت الجزء الأول من رباعية تتابعت اجزاؤها على مدى ثلاثين عاما، يقول أبدايك عن شخصية رباعيته المشهورة: (كانت هذه الشخصية هي وسيلتي لتقديم امريكا التي اراها في كل ما حولي، ان ما رآه رابت " هاري أنجستروم " الذي لقبته بالارنب، من خلال عيني الشخصية اكثر أهمية مما أراه من خلال عيني) .

 

الأرنب تلك التسمية المجازية التي أطلقها أبدايك على بطل روايته هاري كان رجلا عاديا من الطبقة المتوسطة واجه مشاكله الشخصية بالهروب بعيدا عن عائلته ليتورط في مشاكل اخرى اكبر دون ان يحقق أية انجازات تذكر، وبسبب عدم تميزه الواضح بين افراد مجتمعه يجد "أرنب " صعوبة في اقناع رفاقه بدعمه لدخول امريكا الحرب في فيتنام، وهو كذلك يشعر بالإضطراب في وجود السود من مواطنيه، كما يوشك على التورط في علاقة عاطفية تهدد استقرار زواجه، وتمضي الاحداث في بنية سردية رائعة وكأن أبدايك يريد ان يقول لنا بأن هذا التنظير الأدبي يناقض في جوهره البنيوية * التي تهتم فقط بإبراز نية العمل الروائي الأدبي ودون النظر في الإنعكاسات الواضحة التأثير للاحداث السياسية التي ابتليت بها امريكا في حقبة الستينيات من القرن الماضي، انها لمحة ذكية لتشريح عالم مثالي يدعيه ثلة من دهاقنة السياسة آنذاك .

 

وبعد أحد عشر عاما من صدور الجزء الاول من هذه الرباعية نجد ان مؤلفنا قد أعد العدة لإصدار جزءا ثانيا منها بعد ان أخلد لمجموعات قصصية قصيرة أصدرها خلال تلك السنوات .

 

حقبة السبعينات تلك كانت قد ازدهرت فيها " التفكيكية " * التي وضع أسسها كل من " ميشيل فوكو " و "جاك دريدا " وطرحت كبديل للبنيوية الناقصة في تقييمها للمعاني المستمدة من التأثير المتبادل بين الشخصيات ومحيطها العام، ولغرض تطور ونضج شخصية الأرنب هاري فقد نشر أبدايك الجزء الثاني منها عام 1971 طارحا فيها ذلك التغير الذي طرأ على نظرة الأرنب الى شخصيته وتقييمه لها مع تغير مفاهيمه السياسية والاجتماعية التي أصبحت تحمل وعيا أكبر مثل المرأة والأقليات والمجموعات العرقية، فمرئيات أرنب أبدايك تتواءم مع نضوج تلك الافكار، فالجزء الثاني من الرواية والذي حمل عنوان " رجوع الأرنب "، هو تأكيد على النظرة تلك .

 

باطلالة عام 1981 يكون الجزء الثالث من تلك الرباعية قد وضع تطورا آخرا ونضجا واضحا لشخصية " الأرنب الغني " وهو العنوان الذي طرزها، حيث يجد السعادة على الرغم من المشاكل السياسية والاقتصادية التي تواجه بلاده خلال نهاية السبعينات وسبب احساسه بالرضا هو انحسار فترة شبابه واستقرار عواطفه، وهنا يوضح أبدايك وبشكل مذهل تأثير مذهب الناقد والمنظر " لاكان " * في التحليل النفسي الذي ساد تلك الفترة في تشكيل العلاقة بين العمل الادبي ومتلقيه . (2)

 

مضت تسعة سنوات على صدور الجزء الثالث من رباعيته دون ان يقول لنا انه قد انجز جزئها الرابع لكن مع حلول العام 1990 يكتمل نمو شخصية الأرنب فيبدو في الرواية اكثر استقرارا ونضجا وتقبلا لآراء الآخرين، لكنه في المقابل يواجه نفس المشاكل التي واجهها في شبابه من خلال مشاكل اولاده واحفاده، وهنا ايضا يبدو أبدايك ملما بالتطورات التي تتعلق بالنظرية الادبية في تلك الفترة والتي تأخذ بالحسبان تأثير الزمن ودورانه " التأريخيون الجدد " على المعنى العام للعمل الادبي، وتعتبر هذه الرواية من اشهر اعمال أبدايك وقد ادت الى حصوله على جائزة بولستير مرتين .

 

أحمد فاضل

 

.........................

الهوامش

(1) شريفة محمد العبودي / كاتبة / صحيفة الرياض السعودية

(2) نفس المصدر السابق

ألبنيوية /* منهج فكري واداة للتحليل تقوم على فكرة الكلية أو المجموع المنتظم، وتهتم بجميع نواحي المعرفة الانسانية، وان كانت قد اشتهرت في مجال علم اللغة والنقدالادبي، ويمكن تصنيفها ضمن مناهج النقد المادي الملحدة، وقد اشتقت لفظتها من البنية، إذ نقول : كل ظاهرة انسانية كانت أم أدبية تشكل بنية، ولدراسة هذه البنية فيجب علينا ان نحللّها أو نفككها الى عناصرها المؤلفة منها، بدون أن ننظر الى اية عوامل خارجية عنها، اما أبرز شخصياتها فيعتبر " فريدنان دي سوسير " الرائد الآول لها و " كلود ليفي شتراوس " و " ميشال فوكو " و " جاك لاكان " .

التفكيكية /* هي احدى مدارس الفلسفة والنقد الادبي التي تنحو الى القول باستحالة الوصول الى فهم متكامل او على الاقل متماسك للنص أيا كان، فعملية القراءة والتفسير هي عملية اصطناعية محضة يقوم بها القارئ الذي يقوم بالتفسير، بالتالي يستحيل وجود نص رسالة واحدة متماسكة ومتجانسة،هذا المصطلح اثار الكثير من الجدل بسبب ما يتضمنه معناه من مفاهيم معادية للغيبيات (الميتافيزقيا) وقد تمحور الاهتمام في التفكير النقدي العربي حول هذا المصطلح أمثاله بعد ان توقفت جهود كانت تستهدف إبداع نظرية نقدية على الصعيد العربي، وقد ظهرت التفكيكية على يد الفيلسوف الفرنسي " جاك دريدا " .

 

جاك لاكان / * ولد عام 1901 في فرنسا ويحتل مكانة خاصة في تاريخ حركة التحليل النفسي، فهو طبيب تقليدي ومحلل نفسي ذو تكوين فرويدي، وقد اصبح في عام 1960 المحلل النفسي الذي تجاوز اشعاعه وتأثيره كثيرا مجال العلاج النفسي غير انه أقصي من الجمعيات الدولية للتحليل النفسي الرسمي بسبب آراؤه التي يعتقد غيره انها تتعارض ومنهجية علم النفس، غير ان البعض منهم خرج على اجماع الجمعيات تلك ووقف معه في حين ان لاكان لم يغير تلك الآراء وكان دوما ينادي بالعودة الى فرويد والنهل من مدرسته النفسية .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1298 الثلاثاء 26/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم