صحيفة المثقف

لعبة الكشف عن أسرار الدموع قراءة نقدية في (الأقلام لا تصدأ) للشاعر عبد الكريم رجب الياسري

ربما يخيفنا التوصيف ولكنه دالة فكرية لتفهم المعنى والنبش في أفق السرد والدوران حول جثة الشاعر وقطف حرائق صبره من قوافيه وحلب لياليه الملاح من سهر الأنغام التي تفوح رائحتها من القلق والشكوى والبوح ,وربما انطلق من رؤيا هيجل بوصف الشعر فنا والفكرة الأساسية في الفن هي الوحدة العضوية والالتحام الكامل بين المضمون الروحي والشكل المادي

 وعندما تنفصل هذه الوحدة انفصالا كاملا في لحظة الشعر فان الفن كله يلغي نفسه وينهار

دعني أيها الياسري الشاعر الذي علق أقلامه على مقصلة النقد قائلا حقيقتي مبتعدا عن مسوح النقد الكلاسيكي الذي لا يدع شاردة وواردة على حد تعبير الدكتور محسن اطيمش في تحولات الشجرة

دعني طالبا منك أن تتأمل معي بريقك الشعري المباح ودع لي  الغوص في جواهرك بتأملات ناقد وشاعر أكله الشعر خمسين عاما وهضمه النقد حتى تقياني مئات المرات ومازلت تلميذا صغيرا في هذا السبيل العسير فشوارع الشاعر تكتض بالزحام والبحث عنها متاهة عن مظلمها والتيه أكثر في ضوئها الخافت وقد اتفق مع الدكتور محسن في رؤياه عن الشعر عامة وكم أتمنى أن ارسم لمجموعتك عافية جديدة وانقلها نظيفة كما ولدت من رماد عينيك ومرافئ بساتين أحلامك وارسم لها رؤى تعديليه باحثا عن الجوهر وليس العارض الذي لا يريده الدكتور اطيمش في شجرته الرائعة

تنبيه لوصفة نفسية أولا

لقد أدمنت شعريتك ومازلت يافعا يا صديقي عندما قلت في غلافك الأخير

طوبى له

سرا توضأ بالدموع

فأعاره الملكوت حرفا

يحتذي الدنيا بنوره

حين ينتحر الضياء

فمضى سويا خارج الجسد المسجى

 لا يضيق به المكان وليس تمنعه السماء

 

هذه أسرارك الغائبة المكشوفة للبيان لا تغيب عن متذوق يتصيد في الصخر خاصة وأنت تقر مع سبق الاصرارفي قولك:

صلى على رأس الغريب بقبلة

واستسهل الوجع الطويل

أعطى وأعطى ثم أعطى كي يفوز بما يشاء

أقولها منصفا كأستاذ أكاديمي وشاعر خبزه اليومي  الشعر ولذيذ عصائره النقد  أن  هذا شعرا يولد شعرا وهذه إيقاعات صافية تأخذنا معك إلى زوايا الإيمان ومراقد الشرف الرفيع وهذه شعرية قادحة بالرغم من مرابد النسيان

مداخل في تفاصيل الأقلام 

في حلم يورق تهاوى بنو ال-

 

 وهنا تغييب للمعني وفي لجة البحر زورق تهدده الحسنى فيضحك منشدا وهذه القفزات الإيقاعية تبوح بإسرار كثيرة وما أروع هذه الأناشيد البابلية الخافقة بالصدق قولك:

يشجر صحراء الضياع فتنفق

سحابا يجوب الضبن يمطر حجة

اذا مسها ثغر فبالحق تنطق

 

نرى تفعيلة الطويل فعولن تلعب لعبة راقصة وخاصة حين يقول:

اعفر خدي في ثراك واهرق

دموعا اذا ماعبها الرمل هزني

عبير فنادى القلب اياك يعشق

 

هذا شعر اكبر من الشعر ذاته وإيقاعات متوازنة ترقص رقصا على وتر الصمت وما اكبر هذا البناء حيث تنتهي القصيدة حلم تتشكل قصيدة الكوخ من نهاية الربط الشعري حين قال :

وعدت فعاد اسمي على كوخ راهب

أموت واحيا وهو حي ويرزق

شكلت الكوخ بناء نسقيا جديدا في شكل تأخرفي تفعيلة متفاعلن:

كوخ الفقير حلم الذين تقاسموا

بسمائه خلف المدى قرص الشعير

وتجاوزا بعفافه درن الخطيئة

يصنعون الحجة الكبرى لميلاد السعير

 

من يمسك خيط الشعر في بناء رصين كهذا الكامل الراقي فكيف يكون علي الهمام إلا وهو المغادر والمبتعد عن رغائبه حين قال الشاعر:

هو حاجة التاريخ حليته

وقبلة فارس

نال الرغائب تحت

سقفه حين غادر ثائرا كف الامير

 

هذا بناء وإيقاع يلفت القلب قبل البصر والإذن فحياك من ياسري عذب الصوت فمن كوخ الفقير الذي صنع المجد للدنيا تبتهل مواسم المطر في شعرك الدافئ ولن تنتهي من كوخك حتى تبني لنخيلك قاربا آخر من العنفوان والهمة قولك:

وفي دمي قارب مجذافه ثمل

أضاع في موجها العنوان حين سرى

يقتات غيظا

لغة حية تتنفس الصراخ تبحث عن الإسرار تلو الأسرار تكشف عن شاعرية نهمة لتشكل رسول صبر متوقع في قولك:

فارقتها سوف أرسو اهتدي

وارى عروش كرم

رسول الصبر يأسرها

 

فمن رقصات للكامل ثم البسيط ثم الكامل تدور أنغامك إيقاعا مؤثرا حقا بلا ريب انك شاعر موقد جمرا في رماد العاصفة والطبيعة تتراقص في محطات قدرتك وتوصيفك الشعري الهائل

فالكون صلى والمجرة

غيرت مجرى الكواكب

عند بشرى حاكها الصبر الأمين

واخضرت الأرض اليباب لقطرة

سالت لترسم جدولا

في درة

يلتف في أمواجه السكرى

بأسراب المنى كدر السنين

 

هذه روابط إيقاعية متناسقة وصور متلاحقة في طبع شعري ولفظ إيقاعي صارخ واقسم بالله لم التق بالشاعر ولم اعرفه سوى كتابه بين يدي وقد أهداه لي اسوة بغيري من الأحبة وقد وجدته شاعرا منفردا مميزا بالقدرات الإيقاعية ولا يميل بجناحه إلى سقطات الصناعة الشعرية والهروب إلى يباب النهم الشعري

 

وهذا الإصرار الروحي في توصيف عرق الجبين وهمة الفرد ماذا تفعل في صناعة الحرية وتجديد الحياة للعاجزين

عرق الجبين

يزحزح الرق المؤبد

ويعشق الرحم الطهور

عرق الجبين رسالة

تستنهض الوحي المبارك

 

إنها رسالة ياسرية خاصة ومهمة حقا تمنح الإنسان عزا دائما وهذه رسالة الشعر الصادقة رسالة تدخلا المعامل وتعطي للحداد درسا كيف يصنع وهذا دور الشاعر بنبوته أن يغير الحياة لا يطبل للزعماء المفلسين ولا يمدح زيدا أو عمرا بفراغ ولا يكثر الهم على الورق ويتعب الطباعة بلا جدوى ليسمي نفسه شاعرا ويحصل على الجوائز هنا وهناك من عند الفارغين الذين لا يفهمون من الشعر شاردة أو وارد ة   فكم قلت وصرخت للذين يكتبون وينظمون الشعر اتركوه للشعراء المبدعين أمثال الياسري الذي لم اسمعه يوما على المنصة بل أقراه شاعرا متفوقا وهو الذي يعترف بعظمة لسانه:

 

ورصيف ليسي لي فيها قدم

بل لك الكثير يا عبد الكريم الياسري البناء المقتدر في صياغة الأسرار فلا تتصور الناس لا تفهم ما تقول ولكنها لا تصنع شيئا لما تريد والأيدي مكبلة والعقول مرفوضة في زمن الصراع على الكراسي والمناصب فكن بعيدا عن هذه اللافتات وعش لشعرك النقي وإيقاعك الملهم

وما أروع دعاءك حين تكتفي بما اكتفى به سيدي ومولاي أمير المؤمنين علي رغيف الخبز اليابس وصنع دولة القيم وأعطى الحسين أنموذجا للشرف والفداء قولك

يا الهي يا الهي الهي

نحن نرضى بالقشور

ورغيف الخبز يشتاق

للثم الثغر في لهو القصور

 

نعم أن أصحاب القصور ليسو ببعيدين عن الخبز نعم الله اينما يصلون في لهوهم فالله من يرزقهم

الرسالة الثانية تكون فيها مباشرا في تعرية الإسرار في قولك:

وتجمع الأسرار من أصدافها

وترتوي عائدة بالعز والخشوع والوقار

 

وان سقطت الواو من العطف في مجموعتك سهوا فالإيقاع بين يديك يرقص كالمطر وكم أعجبني تركيزك على الأطفال والصبية ورسائلك تبث إشجانها وتعلن ولم تك واعظا هنا بل موجها وهذا دورك الصحيح فالشعر ليس بمواعظ

رسالتي ستسبق الصبية للحدائق

ستتقصد السواقي حين تسبح الأسماك

رسالتي ليس لها أزمنة ولا مكان

رسالتي ستسال الإنسان أن يحرر الإنسان

كلنا يا ياسري هذا همنا وهذه صرختنا تدوي دائما وبأعلى أصواتنا حرروا الإنسان من الفقر من الذل من التبعية من الخشوع من الاستصغار من الاهانة  لاتجعلوه عبدا مسيرا بأيديكم وحارسا لكلابكم وحارسا لنسائكم فهو أغلى ماخلق الله ولهذا كله ضحى الأمام علي عليه السلام بحياته وبنوه مثله

لقد أعطيت مهتك وحملتها الكثير حتى لامبرر لتقديمك لقصيدة لست فوق الذنب فمن الذي يشك بهذا ونحن أدرى بانك لا تخاطب نفسك وأنت تنهل من غيرك بيتا للإثبات اتحسب انك جرم صغير

انها صوفية معتقة في ضمير حي فانك تطأ الصراط لماذا ؟

اطا الصراط لرغبة

او رهبة او للثناء

واهتدي بمشورة الاعماق

والأفاق في عصر الزوال

كد كيدك المزعوم واغدر واسع سعيك لاتنال

 

هذه بوارق الشعر الرائدة في توظيف خطبة زينب عليها السلام في حضرة الطغاة وكيف هزمت العدو وحولت القضية نصرا للحسين ومحبيه وقد أجدك موفقا أي توفيق في هذا الربط الرائع فهنيئا لمن يكتبون للحسين عليه السلام فهو سفير الأحرار وشهيد المجد ورأس الحربة في كل قضية ومولد كل نور ومحقق فجر البطولات في التاريخ العريق فكم خلعت الناس جلابيب القوة واللهو وركعت أمامه خاشعة تصرخ اشفع لنا ياحسين

وكم جاء الكوخ عندك رمزا للخلاص من قهر القصر وأنت تقارن مقارنة رائدة في قولك":

أرنو الى الأكواخ ترقد

فوق أحلام يضاجعها التراب

والموت يهزا ليس يأبه بالشتائم والسباب

المترف المبطان يشقى

يستغيث كمعدم يشكو فيصرعه الجواب

 

هذه حجة الحياة وبرهانها فلم يخلق الإنسان سدى بل جاء لعيش ليبني ليعبد الله ما كانت حياته سدى كما تقول"

أنا ماخلقت لغاية سوداء

مابين الولادة والرقود

انا أطول الأشياء أزمانا وأوسعها حدود

 

وحتى تأتي رسالتك الثالثة وهي تذهب الى أقدس الاماكن وتسكب الماء على قبورهم وتتكلم شخوصك الحية الميتة سقراط وبوذا وورث وكلهم شهود بما قدموه للإنسان الذي ضيعه الزمن وتركه لعبة بيد الآخرين دون ذنب قدمه سوى فقره وحاجته فتلعب به الريح كيف تشاء وتتعدد رسائلك وهي واضحة في مضمونها تريدان تجتمع الأرواح والأجساد وان يلتقي الشمال بالجنوب ويبهت الذين في قلوبهم مرض وتريد ان تكشف الصحيح والسقيم ولكن هيهات هذا يا ياسري لقد كتبنا خمسين عاما واعدنا الأبجديات ودرسنا الأجيال ولكن دون جدوى ولا تقل الشاعر يائسا ابدا بل هي الحقيقة وأنت تعترف بتهمة منسوبة للإنسان لانه يسجد ويصلي ويركع في قولك

لعودة الغائب والهائم

والمنفي والشريد والمؤود بتهمة الركوع والسجود

 

إنها تهمة مستمرة لا خلاص منها سوى الضيم سوى التهميش سوى العزل سوى الكره فمن الذي ينقذ الإنسان من شريعة الإنسان:؟

لقد أسميته زمنا منسيا حين قلت

الزمن المهمل مشغول

يدس السم بالعسل

الزمن المهمل لايحسن الا زخرف الكلام

 

إذن تتفق معي بالصبر (واستعينوا بالصبر والصلاة ),ومادام الحرف غدا حائرا مثلك ومثلي وأنت القائل:

الحرف يدري أين يمضي

ثم يشعر بالدوار

يهذي وأجهده التسكع

الحرف يبحر يمتطي الصهوات

يسمو يسلك الصحراء والأعماق

يحضنه المدى

فله بأرضه موعد للانتصار

 

هذه قناعة الشاعر الأخيرة وهذه مطية أمله وهذه ناقته التي يسفر بواسطتها الى الغد فلاشي غير الأماني عندك وعندي وخيرنا من فعل الخير وحافظ على الكرامة المتبقية من زمن الحروب والصراعات والعمر ينقضي والنهاية معروفة وحتى المرأة التي تريد قد شردتك من عامها فأنت القائل:

أعيش مذ عرفتها بعالم الشرود والنسيان

وصرت مذ رايتها

                          اردد الأشعار والأغاني

فنعم الأماني أمانيك التي وهبتك هذه القدرة في قول الكلمة الصارخة

 

وطوبى لك أيها المبدع الياسري فأنت رسمت سرا توضأ بالدموع بلحظة خرساء لوحي الما وراء ونحن بتواضع رسمنا لهذا السر نقشا لا ينسى فاعذرنا ياسيدي ان وقعت ضالتنا في التيه وان ارتاعت تبارح صبرنا بالخوف وان تهنا مع سرب اليمام بعيدا فان الفضل لطيرك الوحيد الذي دلانا على نداء الحقيقة

ويبقى قلمك شريفا حرا نظيفا من وسخ الزمان لا يصدا أبدا

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1317 الاحد 14/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم