صحيفة المثقف

عامان على رحيل سهيل إدريس

رحل صاحب "الحي اللاتيني" و"الخندق العميق"، ومؤسس دار "الآداب" اللبنانية لنشر الإبداع والفكر القومي الحر والمتميز في العالم العربي، وصاحب مجلة "الآداب" التي احتضنت الأقلام الأدبية وصنعت الكتاب الذين رفدوا وأثروا الحركة الثقافية العربية المعاصرة بإبداعاتهم  ومساهماتهم  الأدبية الراقية.

 

كان سهيل بمثابة مؤسسة ثقافية وناشطاً ثقافياً ومثقفا عضوياً ـ بتعبير غرامشي ـ خاض المعارك الأدبية الضارية مع أصحاب مجلتي"شعر" و"حوار"، وملأ اسمه الحياة الأدبية والثقافية اللبنانية والعربية  حيث شغل موقعاً بارزاً ومهماً في المنجز الثقافي الإبداعي العربي عموماً واللبناني على وجه الخصوص.

 

 رحل سهيل إدريس بعد حياة عريضة واسعة الأفق وزاخرة بالنشاط الثقافي والعطاء الأدبي المتشعب والمنوع، تاركاً وراءه وطناً ينزف تتتآكله الصراعات والنزاعات الطائفية وعلى شفا الانفجار، ومخلفاً إرثاً أدبياً كبيراً ومميزاً في القصة والرواية والمقالة والنقد والبحث الأدبي والسيرة الذاتية.

 

سهيل إدريس (أبو السماح) من العلامات المضيئة المميزة والقامات الأدبية السامقة الشامخة في تاريخنا العربي الثقافي، ومن أبرز الكتاب والمثقفين العرب المخلصين المؤمنين بدور الكلمة ورسالة الأدب وحرية الإبداع، الذين يجيدون إنكار الذات من أجل بناء صروح الثقافة أينما كانت، وأحد كتاب الدرجة الأولى الجريئين والحاضرين بقوة والمتألقين المجيدين لكل أشكال الكتابة الأدبية الأساسية.

 

وقف سهيل إدريس في طليعة الأدباء المدافعين عن حرية الثقافة وحرية المثقفين العرب، وقد فتح صفحات مجلته "الآداب" لكل الأقلام والأدباء والمثقفين  من جميع الاتجاهات والميول الأدبية والمشارب والمذاهب الفكرية بكل ألوانها . كان واضحاً في هويته الثقافية الحرة ذات البعد الإنساني،عروبياً وقومياً حتى النخاع، حراً ملتزماً غير ملزم بحزب أو شخص أو نظام أو قبيلة، لم يساوم يوما على مواقفه تجاه العديد من المسائل الأدبية والثقافية،و عاش حياته منشداً للحرية بعقلانية.

 

شارك إدريس في إنشاء إتحاد الكتاب اللبنانيين الذي ضم بين صفوفه العديد من المبدعين والمثقفين، وعلى رأسهم ميخائيل نعيمة،منير البعلبكي، علي أحمد سعيد(أدونيس)،خليل حاوي، أحمد أبو أسعد، ميشال سليمان، حسين مروة، خليل أحمد خليل، ميشال عاصي وغير ذلك. وانتخب أميناً عاماً لهذا الاتحاد لثلاث دورات متوالية ، كما كان من مؤسسي مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وعضو مجلس أمنائها لعدة سنوات .

 

لسهيل إدريس ثروة أدبية وفيض غزير من النتاجات والإصدارات الأدبية، ففي الرواية له: "الحي اللاتيني"و" الخندق العميق" و"أصابعنا التي تحترق"، وفي القصة :"أشواق، نيران وثلوج، كلهن نساء، الدمع المر، رحماك يا دمشق، العراء".وفي المسرحية :"الشهداء" و"زهرة من دم".أما في السيرة الذاتية،فله:"ذكريات احب والأدب"، وفي النقد :"مواقف وقضايا أدبية" و"القصة في لبنان" .وأيضاً له ما يزيد على عشرين مؤلفاً مترجماً بالإضافة إلى معجم "المنهل "الذي ألفه مع المرحوم جبور عبد النور.

 

عرف سهيل  إدريس بأسلوبه النقدي المرهف  والحاد سياسياً، وبلغته الشفافة الأنيقة الواضحة، وتعتبر روايته "الحي اللاتيني" من الروايات الأكثر رواجاً في العالم العربي، فطبعت مرات عدة وأعتبرها الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ" معلماً من معالم الرواية العربية الحديثة" في حين قال عنها أحمد كمال أبو زكي "إنها أروع بناء في الرواية العربية" . وهذه الرواية تجمع بين بيروت وباريس، والأهل والحضارة، وتطرح قضية الصراع بين الشرق والغرب وتصور تجربته كشاب في باريس،حيث قضى فيها أياماً وسنوات، فتعلم ودرس ونال شهادة الدكتوراة، وقرأ لكتاب فرنسا الكلاسيكيون منهم والمعاصرون،وتأثر بالأدب الفرنسي.

 

أما روايته " الخندق العميق" التي أثارت عند صدورها عاصفة من الجدل والنقاش، وكتب عنها أكثر من أديب وناقد بين مؤيد ورافض لمضمونها، فتتناول بعض التقاليد السائدة في المجتمعات العربية،  باسلوب قصصي جميل ودافئ سلس،وبإقناع بارع يحلل ويعري هذه التقاليد دون رحمة،وذلك لقناعته وايمانه بسخافة هذه التقاليد وعمقها، ويدعم مواقفه وأرائه بالحجج والبراهين والأدلة، وينقل القارئ على المقارنة بين التقاليد البالية التي أكل عليها الدهر وشرب، والقائمة على النفاق والتلون وضيق التفكير، وبين نظم وأسس التربية العصرية السليمة المبنية على المحبة والصراحة والصدق والانطلاق المتزن الرصين نحو عالم واسع الآفاق تسوده الثقة المتبادلة والتفاهم الودي العميق بين أفراد الأسرة الواحدة والمجتمع الواحد.

 

وعندما قرر سهيل  إدريس إصدار وإنشاء مجلة"الآداب" التي لا تزال تواصل صدورها حتى اليوم بإشراف ابنه سماح، كان الدافع لذلك حاجة أوساط الشباب العرب المثقف لمنبر أدبي وثقافي يحمل رسالة، وهدف المجلة ـ كما كتب يقول في الاستهلال ـ :"أن تكون ميداناً لفئة أهل القلم الواعين الذين يعيشون تجربة عصرهم ويعدون شاهداً على  هذا العصر،ففيما هم يعكسون حاجات المجتمع العربي ويعبرون عن شواغله، يشقون الطريق أمام المصلحين لمعالجة، الأوضاع بجميع الوسائل المجدية، وعلى هذا،فإن الأدب الذي تدعو إليه المجلة هو أدب "الالتزام" الذي ينبع من المجتمع العربي ويصب فيه". وبلا شك أن "الآداب" شكلت مشروعاً ثقافياً حضارياً، وأسهمت في تطور حركة الثقافة العربية وإرساء الحوار الثقافي المعرفي الديمقراطي.

 

سهيل إدريس ينتمي الى إطار الثقافة الإنسانية القومية المدافعة عن الحق والحرية والمساواة والديمقراطية وحرية التعبير، وموقفه النقدي نابع من منظور إنساني شامل، إنه مثقف انتمى  إلى الحقيقة ضد تزييفها، حمل قلم العروبة والقومية والوطنية الأصيلة، وتميز بمبدئيته غير المساومة،وبجرأة وشجاعة نابعة عن الالتزام بالقضايا العربية والهموم القومية، برؤية وتحليل ثاقبين، وأعتبره الكثير من مجايليه وأهل الأدب والفكر ظاهرة ثقافية كبرى، حيث خاض النقاشات والحوارات الثقافية والفكرية وأثار جملة من القضايا والأجندة، محافظاً على استقلاليته الفكرية. وبغياب يوسف إدريس اختتمت حياة حرة مفعمة بالفكر القومي النزيه، والإبداع الحقيقي الأصيل والعمل الثقافي الدائب والمثابر والنضال من أجل كرامة الإنسان العربي، وأسدل الستار على مرحلة صاخبة من الحياة الأدبية المعاصرة، كان فيها إدريس وجهاً مشرقاً في دنيا الثقافة والأدب والصحافة. وسيظل أبو السماح في مشهدنا الثقافي العربي نموذجاً لا ينسى ولا يمحى، فهو النموذج الذي لم ينصع للموضة العقائدية ولم يخضع للموروث ولا لقداسته وعاش حراً كما ينبغي لمبدع ومثقف، فله الرحمة ولإبداعه البقاء والخلود.

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1324 الاحد 21/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم