صحيفة المثقف

في الذكرى الأولى لرحيل عبقري الرواية العربية الطيب صالح .. مشروع سردي كبير بحاجة الى دراسة

مع ما يستحقه هذا العملاق من اشادة، الا من اشارات جاءت من القاهرة التي نظم المجلس الأعلى للثقافة ندوة لإحياء الذكرى السنوية الأولى لوفاته،ومن بيروت والسودان ونامت بقية اقطارنا العربية عن هذه الذكرى بعد ان اسهدتها حفلات المتموعين وانصاف المثقفين .

 

في ندوة القاهرة الثقافية ابرزت المكانة التي بلغها الطيب صالح في الأدبين العربي والعالمي خاصة بعد ترجمة روايته الشهيرة " موسم الهجرة الى الشمال " الى 25 لغة حسب ما ذكره ابراهيم آدم المستشار الثقافي السوداني في العاصمة المصرية، والذي أشار إلى أن صالح يشبه الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ في الاهتمام بالتفاصيل المحلية والانطلاق منها الى رحابة الآفاق الإنسانية العالمية .

 

يقول يسري عبد الله استاذ الأدب العربي بجامعة حلوان واصفا إنجازات صالح بأنها : ( من أهم المشاريع السردية في مسيرة الكتابة العربية .. تملك وعيا حادا بالعالم سواء القصص والروايات )، اما الاستاذ عماد ابو غازي الكاتب المعروف والامين العام للمجلس الاعلى للثقافة بمصر فقد قال : ( ان صالح مهد الطريق امام كثير من الادباء العرب للوصول الى القارئ الاجنبي بفضل تعدد ترجمات اعماله كما كان شديد الاهتمام والايمان بقضايا بلاده والكتابة عنها في اعماله المختلفة ومن خلال جذب الاهتمام الى الثقافة الافريقية ) .

 

لم يكن احدا يتوقع ان خروج هذا الفتى الاسمر الذي اسمه الطيب صالح من بلده السودان قاصدا بلاد الضباب سوف يحدث نقلة نوعية في ادب ومسيرة هذا البلد سواء اكان على المستوى الثقافي أو المعرفي، فالسودان كان يعيش سباته ذاك حتى اخرجه ابنه البار صالح من تلك الغفوة الطويلة ونقله الى مصاف العالمية التي تحتفي بلدانها بالثقافة كاحتفائها ببقية الرموز والشواخص، فتخطى الطيب صالح ببلده كثيرا من البلدان العربية التي كانت معروفة بكتابها وحضورها الثقافي، واستطاع بعد ان استقرت اوضاعه في لندن ان يدخل بقوة الى المشهد الثقافي والمعرفي التي كانت تحياه تلك العاصمة الغارقة بالضباب في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، فبدأ اول ما بدأ عمله في القسم العربي بهيئة الاذاعة البريطانية وبدخوله الى هذا المرفق الاعلامي المهم استطاع ان يتقرب من الوسط الثقافي الإنكليزي ويتعرف اكثر على واقعه الادبي الذي كان سائدا آنذاك، فالمدرسة الكلاسيكية التي ابتنى عليها الادب الإنكليزي جعله " كولن ويلسون " بنظرياته المتمردة يهتز اهتزازا كبيرا، مما حفز لظهور مدارس ادبية عبثية جعلت من صالح ان يعقد مقارنة بين هذه المدارس الحداثوية وبين الثقافة العربية المنغلقة على نفسها خاصة منها تقافة بلده السودان الغير معروفة للمتلقي الغربي، فكانت تلك القامة الابداعية العربية اساسا ومرتكزا قويا لفك شفرة العلاقة الجدلية بين ثقافة الشرق والغرب خاصة على المستوى القصي والروائي مما اهله لتبوأه مركزا مهما في خارطة الرواية العربية والعالمية بعد نشر روايته موسم الهجرة الى الشمال في بيروت عام 1966 والتي ساهم الناقد الراحل رجاء النقاش في تعريف القارئ العربي بها .

 

في هذه الرواية الفذة يرى كثير من النقاد ان الفن الروائي للطيب صالح يمتاز بالإلتصاق بالاجواء والمشاهد المحلية ورفعها الى مستوى العالمية من خلال ملامسة الواقع مع خلوها من الرتوش والاستعارات، يقول ناشر الرواية على غلافها الاخير : ( مصطفى سعيد متسربل بالاسرار، قادته قدماه لكي يستقر في تلك القرية السودانية للعمل بالزراعة بعد ان كان في الخرطوم تاجرا يعمل بأرضه يفلحها ويزرعها، وفي عشية من العشيات ينطلق الشعر الانكليزي على لسانه وكأنه انكليزي، في نظراته عمق وعلى اسارير وجهه هدوء وفي اوصاله سكينة تتسرب بثقة الى مرافقه، لم يكن راوي حكاية ذلك الرجل الذي هاجر في يوم من الايام الى الشمال الى بلد الصقيع ذاك الراوي اشد شفقا من القارئ الذي يتابع سرا غريبا، مسكون بانسان اكثر غرابة منه من خلال احداث وسرديات موسم الهجرة الى الشمال اما ما يقوله صالح في روايته الذائعة الصيت على لسان بطلها مصطفى سعيد فهو ايحاء بقراءة الوجوه التي صادفها هناك ولم يكن قد شاهدها قبلا يقول : اي شيئ جذب آن همند اليّ ؟ لقيتها وهي دون العشرين تدرس اللغات الشرقية في اكسفورد، كانت حية ووجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الاستطلاع، رأتني فرأت شفقا داكنا كفجر كاذب، كانت عكسي تحن الى مناخات استوائية وشموس قاسية وآفاق ارجوانية، كنت في عينيها رمزا لكل هذا الحنين وانا جنوبي يحن الى الشمال والصقيع ) .

 

وبعد ان تبوأت روايته هذه الصدارة بين الروايات العالمية وطبعت منها عدة طبعات عاد ليكتب رواياته " عرس الزين " و " ضوالبيت " و " دومة ود حامد "، لتكتمل بها قلادة جميلة اراد لها صالح ان تليق بصدر محبوبته " كرمكول " تلك القرية السودانية الهادئة والتي تنام في احضان السودان الشمالي، هاهو يعود اليها بعد ان اكمل ثمانون سنة مهاجرا بموسمه الى الشمال لكنه هذه المرة موسم العودة الى الجنوب .

 

ان الأدب العالمي والعربي خاصة وهو يضع زهرة على قبر الراحل الطيب صالح سوف لن ينسى ذلك الفتى السوداني الذي فتحت على يديه ابواب كانت موصدة على ثقافة منسية حاول وبكل قوة ان تكون مشرعة امام الآخر ليتم فيها ذلك التلاقح الوجداني بين الأمم، افلا يحق لنا ان نفخر به في كل بقعة من بلادنا العربية، وان نفرد بحقه الدراسات المعمقة لأن اعماله لازالت منجما كبيرا لكنوز لم تكتشف بعد، وهي بحاجة الى باحثين لفك طلاسمها لانها اعمال جديرة بالدراسة كصاحبها الذي سوف تخلده الانسانية على الصعيدين الثقافيين العربي والعالمي طويلا .

  

أحمد فاضل

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1329 الجمعة 26/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم