صحيفة المثقف

قليل من كثير يحيى السماوي

تحلو لي الهوامش مكتوبة بالقلم المسمى القلم الرصاص ولو أنه بحاجة الى بري تباعا وهذا لأني أحب نهايات تلك الأقلام التي تشبه المناقير، مناقير صغار الطير والعصافيرأو الحمام .

الحمام جمع حمامة، والحمامة للمذكر والمؤنث، وثمة تسميات أخر،كالمطوقة واليمامة والفاختة، وفرق أهل اللغة بينها، لكن الشعراء لم يركنوا لذاك وإستعملوها و وظفوها في أشعارهم ناظرين المعنى لا اللفظ في غالب الحال وعلى سبيل المجاز .

لم يقتصر الشعراء على توظيف الطير في أشعارهم بل تعدى ذلك إلى أنواع الحيوان، وكان للفرس والناقة النصيب الأوفر في وقت كانت الحاجة اليهما ضرورية بضرورة المكان والزمان والموقف .

واحد من سر صنعة الشعراء المحترفين ألا يقولوا ما لا طائل تحته ولا فائدة، فيصبح زائدا فائضا وهذا يدركه شاعرنا الكبير السماوي .

زج أنواع ألفاظ الحيوان كرمز أو إستعارة وتشبيه يفترض أن يأتي منسجما، ملائما لسياق النص الشعري ولا يقحم إقحاما أو يشذ عنه، وهذا أيضا مما يدركه السماوي يحيى .

في ديوان الشاعر الكبيريحيى السماوي (قليلك لا كثيرهن) وظف الحيوانات بالشكل الذي أسلفت :

 

(للوتد الذي شد الخيام

لغزالة برية أنست بها الصحراء).

(لذائد عن ظبية القلب المتيم بالصلاة وبالصيام) .

(يحدث أن أقيم جسر الود

بين الشاة والذئب

وبين الصقر والعصفور

بين الضبع والغزال) .

لكن الملاحظ أن للحمام وقعا متفردا في شعر يحيى السماوي، ويبدو أن الطفل يحيى في السماوة كان مولعا بالحمام، وتلذذ بشدوها أو نوحها أو هديلها، هذي قراءة حادس أو قراءة باراسايكولوجية، وبتقادم عمر يحيى وحين قرأ توظيفات الشعراء للحمام،خزن ذلك في ذاكرته فإمتزجا، فكان حصيلة ذلك كأسا مزاجها النظرية والفعل .

ما زلت أذكر عش فاختة فيها وفرخا آمن اللعبا

ما حالها بعدي وهل عبثت أيد بعش يحضن الزغبا

أنا أشك أن السماوي لم يقرأ ولم يختزن عقله جملة نصوص مما قيل في الحمام، لكنني لا أريد التحدث هنا عن الحمام ووقعه في شعره أنما أريد التحدث عن مقطع شعري فقط .

هذا المقطع أشجاني ليأخذني من الهند إلى أستراليا لأبني لي عشا صوفيا في أضالع يحيى .

هذا المقطع نقلني من جاهلية الشعر المتقدم التليد إلى حاضرنا المتأخرالعنيد، أنا أراه هكذا، ماذا أفعل ؟ أنا معلم لمدة تزيد عن ثلاثين عاما، لكن للفيزياء وليس للغة، والفيزياء من العلوم الصرف في التحليل والتركيب والتجريب، ولعله يفيد في دراسة هذا المقطع .

لا تنسوا أمر الحمام، سأعود اليه فيما بعد، ولنقرأ المقطع :

 

سيدة النساء ..يا مسرفة الرعب

لا تذعري إذا سمعت مرة

بعد انتصاف الليل صوتا

يشبه النقر على الشباك

أو هسهسة العشب

لا تذعري .

 

أولا - لنتأمل قليلا المقطع الآتي من كتاب كليلة ودمنة باب الحمامة المطوقة:

(فذعر منه الغراب .......... حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة وكانت سيدة الحمام ومعها حمام كثير) .

ماذا يوجد في هذا المقطع ؟

الحمام / الذعر / سيدة الحمام .

إذا استثنينا الحمام لبرهة وعدنا للنص في جملة ( سيدة النساء .. لا تذعري) يمكن أن نطلع على خزين الشاعر الكبير يحيى المخبوء .

ثانيا – في النص فكرة تسلل العاشق الى دار العشيقة ليلا إذا كانت على سبيل الحقيقة أو المجاز، وهذه فكرة مطروقة، وليست الفكرة مهمة بقدر كيفية طرح الفكرة وتوظيفها، فالأفكار ملقاة في الطريق، ولقد استطاع يحيى السماوي وبمقدرة المحترف أن يجمع فيها الحداثة إلى جنب الفخامة . كيف ؟

لنتأمل مافي النص :

 (إذا سمعت بعد أنتصاف الليل نقرا على الشباك..... أو هسهسة العشب) .

هي فكرة تسلل العاشق الليلي .

قال الملك الضليل امرؤ القيس :

سموت اليها بعدما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال .

وقال الأعشى :

ولقد طرقت الحي بعد النوم تنبحني كلابه .

وقال عمر بن أبي ربيعة :

ولقد دخلت الحي يخشى أهله بعد الهدوء وبعدما سقط الندى .

لي أن ألاحظ :

1 - : إن السمو إلى بيت الحبيبة جرى ليلا (بعدما نام أهلها) عند امرىء القيس، و(بعد النوم) عند الأعشى، و(بعد الهدوء) عندعمر، و (بعد انتصاف الليل) عند السماوي .

2 - : إن السمو هذا قرين صوت، صوت حباب الماء الخافت عند امرىء القيس، وصوت نباح الكلاب عند الأعشى، وصوت النقر على الشباك وهسهسة العشب عند يحيى .

الهسهسة صوت عام، لا حفيف ولا فحيح ولا هديل ولا نعيب، وهو صوت خافت، المهم أنه خافت، وهنا أجد مقدار بلاغة يحيى في وصف صوت العشب بالهسهسة، لسببين :

1 - : انسجام خفوت الصوت مع موقف العاشق المتسلل ليلا .

2 - : الهسهسة بكونها صوتا خافتا ينسجم مع العشب الذي لا يصدر صوتا عاليا قويا كحفيف الأشجار مثلا .

3 - : تعايش يحيى مع عصره معايشة المعاصر، فكما عايش الأعشى عصره بقوله (تنبحني كلابه)،فما كانت الحبيبة تسكن إلا في موضع تحرسه الكلاب، لكنها عند يحيى لا تسكن في خيمة .

ثالثا – موضوع الإسراف في قوله (يامسرفة الرعب) .

  هنا مجاز غريب، والسبق فيه ليحيى .

الإسراف يكون في الشطط فيقال :

مسرف على نفسه بالمعاصي .

أو يقال : غير مسرف في طعامه وشرابه .

أو يقال : الأمطار كانت مسرفة .

وقيل : ليس في الخير إسراف .

وقيل : ان شخصا اسمه اللخمي طمس أحدى عينيه، وقال : النظر بهما إسراف .

إذا ً، فالإسراف شطط، وهذا ما يؤكده تعالى، ففي القرآن الكريم ورد لفظ المسرفين مما يدل على ذاك، فورد في سبع آيات منها :

الأنعام 141 (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) .

يونس 83 (وأن فرعون لعال في الأرض وأنه لمن المسرفين) .

غافر 43 (وأن المسرفين هم أصحاب النار) .

في نص يحيى (يامسرفة الرعب)، فالحبيبة أسرفت بالرعب وربما الطغيان، مثلها مثل فرعون، فهل يمكن ان يـُحب المسرف ؟ وهل ثمة تناقض هنا، لاسيما أن الله لا يحب المسرفين . لا سبيل لي إلا أن أتخيل أن الحبيبية هنا هي الأرض والوطن وليس فردا .

رابعا – في الذعر

الذعر يصيب المرعوب . الذعر هو: الخوف والفزع، ويكون بسبب فيقال ان الشيطان لا يزال ذاعرا من المؤمن، فالمؤمن سبب الذعر.

اما الرعب فهو: الفزع والخوف أيضا، بعبارة أخرى كأن يحيى يريد ان يقول : ان الرعب قد ارتعب او ان الذعر قد ذعر وهذا يأخذني الى الخزين الكثيف عند يحيى إذ ان المتنبي قال :

تمرست بالآفات حتى تركتها أمات الموت أم ذعر الذعر .

وقال لسان الدين الخطيب :

فمد جناح الامن فوق مخافتي وقد فر عنها الذعر من شدة الذعر .

لكني التفت إلى ماقلته في مقدمة الكلام وهو أمر الحمام

هل ثمة علاقة ؟

لنذهب الى لسان العرب فماذا نرى؟

ر َعبت الحمامة : بمعنى رفعت هديلها وشدته .

الراعبي: جنس من الحمام وحمامة راعبية : ترعب في صوتها ترعيبا . لكن الترعيب شدة الصوت وهنا قد اقع في تناقض،و لرب قائل هذا ربط لا يوجد الا في مخيلتي، ربما .

خامسا – سيدة النساء

لفظ سيدة النساء لم ترد شعرا على وفق ما أعلم إلا أن (عريب) الغانية المغنية وصفها احدهم بسيدة النساء :

أعريب سيدة النساء بهجرنا أمرتكما

راجع الأغاني للأصفهاني .

ووردت نثرا في طبقات الشعراء لإبن المعتز في أخبار محمد بن وهب :

( فوالله اني لأنتاب القيان منذ ثلاثين سنة ان كنت سمعت قط أحسن من صوتها ولا غناء أحسن من غنائها فكدت أطير طربا وقلت : يا سيدة النساء ....) .

وذكرها شعراء العصر الحديث باشكال مختلفة :

سيدة الأرض عند محمود درويش .

سيدة الكلام وسيدة القلب وسيدة المنتهى وسيدة المجرات عند قاسم حداد .

سيدة الوفاء عند يوسف الديك .

سيدة الوهم عند مظفر النواب .

ست النساء عند نزار قباني .

ربما هناك من تخوف في جملة سيدة النساء إذ يتبادر للذهن البتول مريم عليها السلام وفاطمة الزهراء عليها السلام بصفتيهما سيدتي النساء، بل نساء العالمين، لكن يحيى أتى باللفظ نفسه فهو واثق ان المعنى لا يؤول هذا المآل لوضوح الفكرة والقصد .

 

------------------------------------

امثلة من شعر السماوي في الحمام :

لي ان اذود عن الحمام

وان اصير اضلعي فننا

وقال :

وحين تشتكي حمامة الروح

من الهجير في الفلاة

وقال:

في عينين كحلهما مزاج ندى ونار

وحمامتي تبر

وقال :

تأتين " ماريا "

إذا كف الحمام عن الهديل

وقال

فتشاجرا دوحا وفاختة وتخاصما ثديا ومرتضعا

وقال :

سيضيع لو أطلقت مختبلا طارت حمامته ولم تعد

وقال :

أنا الملك المتوج

بايعته حمامة في القلب

وقال :

النخل قلدني وسام الخوص

تثمينا لدوري في الدفاع عن الحمائم

وقال :

وفاختة إذا هدلت أثار هديلها نغمي .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1343 السبت 13/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم