صحيفة المثقف

قراءة في قصيدة بعنوان: لمجد الحبّ أغنّي للشّاعر منير مزيد

 من شتات إلى شتات آخر

تمضي بنا الحياة بأشرعتها الممزقة

تتهيأ الأرضُ لاحتضان الدروب الجنائزية

ترتفعُ النداءات المرّة في الهواء

بكل أجنحتها الملونةُ بالدم والملح

أغان معذبة إلى الله .....

أسيرُ على طريق حلم صار ظلي

حاملا شعلة الشعر الأبدية

وما إن أنجو من حزن

أغرق في حزن أكثر افتراسا

وضباب الذكريات

ينتشر على جبال الروح...

في أنفاسه أحاديث الماء

حكايا اللوز والزيتون

وشوشة الحصى

و زقزقة حبات الندى.....

 

حبيبتي ...!

في عمق ظلمة الألم

لا تكف الشمس عن النداء

أحيي كُلّ الأحلام الميتة بروحي العارية

بسحر الكلمة التي ترشف على ظمأ

قطرات الضوء الساقطة من أصابع الله .....

 

يا معبد الألم الذي تتألق فيه القصيدة

خلفي

تتعقبني طيور نذر الظلمة

تتأمر على أحلامي

تلتهم فاكهة جنوني

 المزروعة في مراعي النجوم

تنهب لآلئ نبوءاتي المختبئة في الروح

إلا أني أرى الآخرة خيراً من الأولى

نورا صافيا ينبثق من تحت الرماد

 مضاء ليله بنجوم كلماتي .....

و حين يحاول غولُ الحزنِ

 إفتراسي

تصدحُ الملائكةُ بأغان سماوية

أطيرُ في الروحِ لحناً ثملاً

يتهادى على أوتارِ جسدٍ

مصلوباً في ذاكرتي ...

 

العزيز الشّاعر الرّائع منير مزيد

دعني في البدء أحيّيك تحيّة أنت أهل لها، تحيّة تقدير وإكبار.

أخي العزيز وأنا أمرّعلى قسم النّصوص بهذا الموقع الرّائع، صافحني اسمك النيّر.فقلت في نفسي لا يمكن أمرّ دون أن أنهل من نبع بوحك الصافي.

لملمت شتاتي، ودخلت عالمك أرافقك من شتات إلى شتات في رحلة الحياة الملوّنة بالدّم والملح، نداءات ترتفع في الهواء" أغاني معذّبة إلى اللّه".هي رحلة الإنسان في هذا الوجود، رحلة تسيطر عليها ثنائيّة الحياة والموت بما تحمله هذه الثّنائيّة في داخلها من تناقضات.

 

فإذا كان يجتمع في الدّم والملح، دلالة العذاب والمعاناة، فإنّ في الملح ثنائيّة الّلّون الأبيض الّذي هو عنوان الصّفاء، و الأثر الكيميائيّ بما يعنيه من تفاعلات، لاسيما إذا ترافق مع الدّم ليزيد من ارتفاع درجة الإحساس بالألم.و في المحصّلة هو عنوان للحياة ذاتها .فلا يمكن أن نتصوّر حياة بدون ملح.أمّا الدّم ففيه ثنائيّة الحياة والموت، لكونه "توربين" الحياة، فمن فقد الدّم فقد الحياة ومن فقد الإحساس بالألم فقد الحياة أيضا. إلاّ أنّ هذه الرّحلة المعذّبة من شتات إلى شتات ارتقت بالألم إلى درجات عالية من الصّفاء لترتفع أغنية معذّبة إلى اللّه.

 

و قديما كان الغناء طقسا من طقوس العبادة والتبتّل والخضوع للآلهة في الدّيانت القديمة، ونجد أثر ذلك حتّى في الدّيانات السّماويّة.و ليس أدلّ على ذلك من مزامير داوود عليه السّلام.و ما يقدّم من قدّاس في الكنائس.بل كان الغناء في الثّقافة العربيّة القديمة تعبيرا على الفجيعة، فتغنّي المرأة الّتي تفقد ابنها أو زوجها أو أيّ عزيز عليها، وما النّائحات في عاداتنا القديمة إلاّ نموذج لانصهار النّفس بمفعول الألم، لينتقل من الّدّلالة لانفعاليّة إلى الدّلالة الرّمزيّة.

 

هذا العالم المهيب في حزنه وتوقه إلى الحياة، هو ما صوّرته في المقطع الأوّل من القصيدة.أمّا في المقطع الثّاني فتنتقل من رحلة الإنسان في الوجود الرّحب، ربّما بما فيه من إحساس بالضّياع والاغتراب .فالاغتراب هنا هو اغتراب الرّوح، وليس اغتراب في المكان، لتدخل بنا إلى عالمك الذّاتي .قبعد أن كان الخطاب في المقطع الأوّل بضمير الجماعة " نحن "( تمضي بنا الحياة بأشرعتها الممزقة)، انتقل في المقطع الثّاني إلى ضمير المخاطب " أنا "(أسيرُ على طريق حلم صار ظلي).و هكذا تنزل بنا من عالم السّماء (ترتفعُ النداءات المرّة في الهواء

 

بكل أجنحتها الملونةُ بالدم والملح

أغان معذبة إلى الله .....) إلى عالم الأرض، عالم الحسّ (وما إن أنجو من حزن

أغرق في حزن أكثر افتراسا

وضباب الذكريات

 ينتشر على جبال الروح...

في أنفاسه أحاديث الماء

حكايا اللوز والزيتون

وشوشة الحصى

 

و زقزقة حبات الندى.....) عالم تختلط فيه الأحاسيس بما هو مرئيّ ومحسوس

(ينتشر على جبال الروح...

في أنفاسه أحاديث الماء

حكايا اللوز والزيتون)، وما هو مسموع ( وشوشة الحصى

 

و زقزقة حبات الندى.....) وقد عمدت إلى إسناد صوت إلى ما لا صوت له، كالحصى وحبّات النّدى ...تأكيدا منك على وجود الحياة حتّى في الجماد.لاسيما إذا كان هذا المشهد الّذي ورد في المقطع الثّاني هو صورة لقريتك أو مسقط رأسك في وطنك الأمّ، كما تستحضرها في ذاكرتك.

 

فبعد أن عبّرت في المقطع الأوّل عن غربة وجوديّة، ها أنت تعبّر في المقطع الثّاني عن غربة المكان والثّقافة، أي غربة المهاجر البعيد عن وطنه.و هنا استبدلت الغناء بالشّعر، لأنك هنا تتعامل مع الوجود بما هو موجود ممّا ترى وتسمع، لا كما كان الأمر في المقطع الأوّل عندما كنت تتعامل مع علّة الوجود.فكان الشّعر هو العالم الصّافي الّذى تجد فيه الأمن والأمان والّذي تبنيه بنفسك بالحبّ، تلك المعادلة المفقودة في عالمنا هذا المليء بالصّراعات والحروب.

 

و ها أنت في المقطع الثّالث – تستحضر تجربة آدم – تتخذ المرأة رفيقا لك، في عالمك الذي أثّثته بالشعر و"

سحر الكلمة الّتي ترشف على ضمإ

قطرات الضّوء السّاقطة من أصابع اللّه..."

 

و ها أنت في هذا المقطع تتخلّص من الوجوديّة الّتي تؤسّس للعدميّة، وفي أحسن الأحوال، لعبثيّة الوجود، لتجد المعادلة الصّعبة والمريحة، في وجود خاص بك تتّحد فيه أربعة عناصر هي الله والمرأة والشّعر والحبّ.و هذه العناصر الأربعة تذكّرني بالعناصر الأربعة للحياة ألا هي:الماء والهواء والتّراب والنّار.و لأنّك خضعت في المقطع الثّالث لجاذبيّة الأرض، وقبلت قوانينها، و أسست على تضاريسها عالمك الخاص بعناصره الأربعة، فلا أنت بالإله ولا بالنّبيّ، فحسبك أن تكون شاعرا يغنّي لمجد الحبّ.حسمت أمرك في المقطع الرّابع والأخير لتكون الإنسان المؤمن بما أودع فيه اللّه من صفات، الإنسان المؤمن بالحياة:

 

يحبّ ولا يكره، يتألّم ولا يصرخ، " وحين يحاول غول الحزن افتراسك، تصدح الملائكة بأغاني سماويّة "فإذا أنت جسد مشدود إلى الأرض، و روح "تطير لحنا ثملا يتهادى على أوتار جسد".

 

كنت أخي في بداية القصيدة ذرة تمضي بها الحياة من شتات إلى شتات، و قطعت رحلة مليئة بالمعاناة والاغتراب والحزن، انتهت بك إلى الغناء لمجد الحبّ (وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربّك فترضى) صدق اللّه العظيم.

 

طوّفت بي أخي منير في عالمك الجميل، فوجدتني مشدودا إليه، أرتحل معك حيث رحلت، وأحلّ حيث حللت.و الحمد لله أنّك حللت بي أحسن محلّ.هنا تنتهي رحلتي معك.و إلى رحلة قادمة إن شاء اللّه.

مع كثير من الحبّ والتّقدير

 

محمد الصالح الغريسي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1358 الاحد 28/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم